خطابات مثقفي اليسار والتوقف عند نقطة التشهير والتحريض.


فلاح علوان
الحوار المتمدن - العدد: 6896 - 2021 / 5 / 12 - 20:04
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها     

ينشر العديد من المثقفين ممن يصطف في جهة اليسار، أو يعتبر نفسه يسارياً، أو حتى إشتراكي، العديد من المقالات عن العمال وتحركات العمال المطلبية والإحتجاجية. وتقع أغلب تلك الكتابات، بل غالبيتها العظمى، بعد حصول الإحتجاجات والتجمعات، ويشيد المثقفون اليساريون ببطولات العمال ويشيرون الى مظلوميتهم، ويتحدثون أحياناً كثيرة عن ضرورة إنتصار الحركة أو تطورها. وهنا يتوقف الخطاب، أي تماماً عند النقطة التي توقف ويتوقف عندها اليسار في العراق، وحتى في المنطقة، وهي التشهير بالنظام والفساد والظلم وتأثيره على المجتمع والطبقة العاملة وضرورة الخلاص. بحيث أصبحت هذه النقطة حلقة مستعصية عند اليساري، واليسار عموماً، ولا يستطيع اليسار لا القفز فوقها ولا تركها. ببساطة لأنه يستمد وجوده من الحديث عن الطبقة العاملة والنضال الطبقي ويبرر وجوده " كممثل" للطبقات المضطهدة. في الوقت الذي يتعين على الإشتراكيين البدء من هذه النقطة وهذه الحلقة المستعصية، وليس التوقف عندها.
يبدأ اليساري نشاطه الفكري والتحريضي ويبرز بوضوح مع تصاعد إحتجاجات العمال، في حين لا تشغله الحركة العمالية أو الصراع الطبقي بجدية في حالات الركود، بل إن بعض المثقفين اليساريين ينزلق وراء خطاب أقسام اليسار، التي تعلن صراحة، في أوقات الركود، عن عدم وجود طبقة عاملة أصلاً. إنه لايرى الحركة العمالية الّا في حالة الصعود أو البروز، وهذا يعني إنه يبحث عن نفسه وعن مشروعيته في وجود حركة حية، والهدف هو بناء قدراته أو مشروعه هو، من خلال حركة واقعية لها موضوعيتها.
إن الحركة العمالية بالنسبة لأغلب مثقفي اليسار، وللمنظمات اليسارية تعني مشروعاً سياسياً. وهذا المشروع من الممكن أن يكون رافعة للصعود السياسي، ما لم يكن لدى الحركة منظمتها ونظريتها التي تحول دون ميوعتها، وتسرب التيارات البرجوازية الى داخلها في شخص خطابات اليسار.
يكشف الخطاب اليساري صوراً مزدوجة، فمن جانب يكشف غياب النظرية الثورية لدى المنظمات السياسية التي تتحدث بإسم العمال، ومن جانب آخر يعكس ضعف الحركة العمالية نفسها بدون نظريتها. وهذا الوضع يسميه البعض إنفصال الطبقة العاملة عن اليسار، أو إنفصال اليسار عن الطبقة العاملة، وهي أوصاف شكلية وعرضية لا تفسر أي شيء، بل لا تصف الحالة بشكل حي وحقيقي.
إن ابتعاد الطبقة العاملة عن اليسار الحالي وبشكله الرائج، ليس أمراً يستحق الندب والنواح والغضب، بل العكس، فهو أمر يعكس جانباً من ديالكتيك العلاقة الفعلية بين الطبقة العاملة وتمثيلها السياسي. فالطبقة العاملة لم تتقبل الصادحين بإسمها وواضعي الوصفات والمشاريع الجاهزة لها، ورفضها يأتي بشكل عفوي جنيني وغير معلن، ولكنه يتجلى في الافلاسات المتكررة للتيارات والمشاريع الثورية اليساروية. وهذا يدل على إن تصنيع أو إبتكار مشروع عمالي على أساس إختياري ذهني، لا مكان له في التاريخ الواقعي. أما إذا وقعت الطبقة العاملة، عموماً، أو قسماً منها تحت نفوذ هذا الشكل من اليسار، فسيقود هذا الى تشويه حركة العمال.
إن الحديث عن تبني الطبقة العاملة تصوراً إشتراكياً، يعني الحديث عن اللحظة التاريخية لتغيير المجتمع، والتي لا تحصل يومياً، ولا تحصل إثر عقد مؤتمر تحريضي، كما أنها لا تأتي نتيجة إقناع أعداد متزايدة من العمال بضرورة الإشتراكية. إنها عملية تاريخية يتوقف عليها مصير المجتمع، والتصدي لها يتطلب فهم دينامية المجتمع وتناسب قواه الطبقية، ومكانة الطبقة العاملة وموقعها في الصراع الإجتماعي ودورها في تحديد المصائر التاريخية للمجتمع، وعلاقتها بسائر طبقات وفئات المجتمع. وهذه المسألة لا تحل بالخطابية اليسارية إطلاقاً، ولا بالتشهير بديلاً للتحليل والإستنتاج. وسأتوقف عند هذا الحد، لأن هذا بحث في كيفية بناء الوسائل السياسية بيد الطبقة العاملة، وهي جزء من المهمة وجزء من صياغة التصور، ويتعين بحثها بصورة مستفيضة وموسعة.
ينشر طارق فتحي مقالاً على صفحته يوم 5/5/2020، حول تظاهرات العمال المطالبين بعقود العمل أو التثبيت، والذين يصطلح عليهم إسم عمال العقود، تحت عنوان " اجور العمال وعمليات النهب" يتضمن المقال المقطع التالي "كالعادة لم تفعل النقابات والاتحادات "العمالية" شيئا يذكر، حتى لم يصدر منها بيان مساندة لهذه الإضرابات والاعتصامات، فقد اخذت موقف المتفرج على ما يجري، لقد شاخت هذه النقابات والاتحادات "العمالية" في كل اجزائها، ولم تعد تلبي حاجة الطبقة العاملة كقوة تنظيمية؛ أضحت مثيرة للشفقة، وبائسة جدا، وعلى العمال البحث عن بدائل لها." إنتهى الإقتباس.
وهذا المقطع يعكس ما يقوم به اليسار تماماً، فالمثقفون اليساريون، جاهزون لكتابة بيانات التضامن، ولكن متى؟ بعد حلول الظلام، وكما يقول هيغل بعد أن تحلق بومة مينرفا، وياليتهم كانوا يقومون بما تقوم به بومة مينرفا، أي الفلسفة التي تبدأ التحليل والتنظير. ويطالب كاتب المقال بكتابة مقالات تضامن مع العمال، وبخلافه تكون النقابات بائسة.
إنطلق الكاتب في هجومه على النقابات من كونها بائسة وقد شاخت، ولكنه لم يقل إنها ممنوعة ومقموعة، وإن السلطة تقف بوجه أي سعي للتنظيم النقابي، موقفاً متشدداً، وتستخدم قوانين النظام السابق التي تجرّم التنظيم في القطاع العام، وتمنع النقابات في القطاع الخاص، ما لم تكن جزءاً من الإتحاد الحكومي.
ولكن رغم تلك العوائق فهناك محاولات جادة من قبل نشطاء عماليين للتنظيم وهي تتعرض للقمع والمنع والملاحقة، ولكنها لا تتوقف برغم ذلك. وخلال الأشهر القليلة الماضية إجتمع نقابيون وقدموا رؤيتهم للسياسة الإقتصادية للحكومة، وانتقدوا نقداً عميقاً، السياسة الرأسمالية ممثلة بسياسة ومشاريع صندوق النقد والبنك الدولي وانتقدوا النيوليبرالية بجدية، ورفعوا شعارات إشتراكية، وقد سبقوا في هذه المسألة جميع التيارات اليسارية في البلاد. ونظموا تجمعات، ورفعوا لافتات وشعارات منددة بالسياسة الإقتصادية، والورقة البيضاء. وإثر التظاهرة العمالية الكبرى التي جرت في أواخر خريف 2020 جرى تهديد المنظمين للتظاهرة، وبتدخل مباشر من رئيس الوزراء ووزير الصناعة، الذي لم يتردد في إصدار تعليمات رسمية مشددة، بمنع النقابات في الشركات وتهديد المنتمين اليها علناً بالعقوبات. ولكن المثقفين اليساريين لم يكتبوا عن هذا ولم يقفوا مع نضال العمال، غير الجذاب بالنسبة للمثقفين، ولم نسمع من كاتب المقال ولا جملة تدين قمع النقابيين والنقابات.
وحين يصدر عن الكاتب مقال يدين النقابات ويسفّه عملها أو وجودها، فهو في هذا يؤدي دوراً مطابقاً لما تريد الحكومة، وهجومه على النقابات المتزامن مع هجوم الحكومة، يضعه في صف الحكومة، مهما ارتدى خطابه من جمل يسارية أو تحريضية.
إن طارق فتحي ، وهو العامل البسيط الخلوق، الذي يسكن منذ صغره في أحياء العمال، يتحدث بنية دعم العمال وقضيتهم، ولكن مهما كانت نواياه حسنة، فإن طريق جهنم، كما يقولون، معبد بالنوايا الحسنة. وهو ليس وحده، فالنشرة التي يساهم في تحريرها، قد توقفت منذ مدة ليست بالقصيرة، عند نفس النقطة التي توقف هو عندها، وتوقف اليسار عندها، وسيتوقف نهائياً، ولا يمكنه أن يخطو الى الأمام أي خطوة. فالتقدم الى الأمام يتطلب الإستناد الى نظرية، والنظرية ليست مجموعة إرشادات وتوجيهات، إنها تحليل الأوضاع الراهنة في سياق حركتها، وفهم الامور في سياقها التاريخي، وبناء منظمة العمال على هذا الأساس، وخلال هذه العملية سيجد اليسار نفسه خارج الحركة التي يدعي تمثيلها.
إن تقدم الحركة العمالية سيعني إنتهاء دور اليسار الحالي، وعودته الى مواقعه الطبقية، كما إن تخلص الحركة العمالية من الزعيق اليساروي لن يحصل، بدون بناء الطبقة العاملة قدراتها النظرية والتظيمية على أساس مصالحها التاريخية.