حول دور البروليتاريا المنحدرة من الريف في ثقافة المدن. -المقدمة-


فلاح علوان
الحوار المتمدن - العدد: 6320 - 2019 / 8 / 14 - 18:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

المقدمة
يعتبر البعض إن التراجع عن المدنية الذي حصل خلال العقود الأخيرة، والذي وصل حد رسم ملامح السياسة والثقافة العامة في المجتمع، هو نتاج تأصل البداوة وعدم ذوبانها أو اندماجها في المدنية. وبناءاً على هذا يعزى سبب تراجع المدنية أما الى رواسب العصبيات القبلية، أو الى نزوح الناس من خارج المدن واستقرارهم فيها ونقلهم التقاليد والعادات القبلية. ولكن انتقال العادات والقيم من خارج المدينة لا يبرر سيادتها وتحولها الى نمط سائد يطبع الحياة بطابعه، فهناك عوامل وراء تراجع المدينة والمدنية وهيمنة القبلية والعشائرية يجب تحريها. وفي الحقيقة ان البادية معزولة عن المدينة ثقافياً، أما الريف والمجتمع الزراعي فيرتبطان مع المدينة ويتداخلان معها اقتصادياً واجتماعياً، بالرغم من قانون العشائر الذي أدخله الانكليز عقب إحتلالهم العراق، والذي كان القصد من ورائه فصل الحياة الريفية عن المدينية، وخاصة من الناحية القانونية، والذي ساهم الى حد بعيد في خلق حاجز بين الريف والمدينة. وباختصار فان القيم التي يطلق عليها البداوة، قد انتقلت الى المدينة عبر الريف لا من البادية مباشرة. وحيث ان البادية معزولة بل ومنفصلة عن المدينة جغرافيا وثقافياً فان القول بأن قيم البداوة غزت المدينة هو قول غير دقيق ويعاني من نواقص عدة، وعليه لايمكن اعتماده حكماً. ولكن الريف الذي تسوده تماماً التقاليد والاعراف القبلية، هو من نقل القيم البدوية، وإنه بهذا المعنى قد لعب دور الوسيط الذي نقل منظومة البادية القيمية أو التأثير البدوي على الحياة في المدينة.
أما نقل البداوة الى المدينة، فقد جرى بصورة رئيسية عبر تيار سياسي، هو التيار القومي الذي يفاخر بالأنساب والأمجاد والرجولة والغزوات، والذي لا يمكنه التعبئة والتوسع الاجتماعي دون وجود تبرير تاريخي لوجوده، وبالتالي فهو يبحث عن تبريره وجذوره في البداوة، وقد إستطاع نقل البداوة الى المدينة عبر السلطة. وعلى هذا الأساس سيكون تأثير البداوة تعبوياً نخبوياً تسلطياً، ومن الصعب دمجه مع الحياة اليومية للمدينة بدون اللجوء الى القسر والتشويه المتعمد، وبدون زج القيم والتقاليد البدوية القبلية قسرياً، وتوجيه الثقافة والمفاهيم والفن عموماً لتتخذ منحى العودة الى الماضي القبلي، وجعله التوجه المقصود السائد للمعرفة والاخلاق والقيم.
ان المنطقة الابرز التي نقلت تقاليدها الى المدن الرئيسية في العراق هي "العمارة"، وهي اقليم زراعي عشائري رئيسي، محاط بأرياف وأهوار وأنهار، وفيها مدن ومراكز مدنية ولكن طابعها العشائري الريفي هو السائد، وسأستعمل تسمية العمارة فيما يلي من المقال لا بمعنى مركز المحافظة فقط، وأنما للاشارة الى المنطقة التي تسمى ميسان كلها. ويشار في كثير من المواضع الى كون استفحال تقاليد العمارة العشائرية داخل المدن الرئيسية التي نزح اليها الفلاحون، هو السبب وراء ما أصبح يعرف بترييف المدينة. ان لهذا الطرح ما يبرره، ولكنه يعكس وجهاً أو بعداً جزئياً من العملية وليس كل جوانبها وأبعادها. وللوقوف على أبعاد هذا العملية يتعين تقصي الأسس التاريخية والعوامل التي قادت الى هذا الواقع.
وجاءت البروليتاريا النازحة لتجد نفسها غريبة في مدنية هجينة ضعيفة مفككة اذا جاز القول. فمن بقايا عثمانية بسبيل الزوال أو الانحلال، الى أورَبَة طارئة معزولة دينياً وفئوياَ، دينياَ لتركزها في أوساط اليهود والمسيحين بصورة رئيسية، وفئوياَ لتركزها في أوساط محدودة نخبوية وعدم تجذرها واتساعها شعبياَ، بسبب ضعف مستوى الصناعة والتمدن في عراق مستهل القرن العشرين. وبين أنماط معيشة حرفية خاضعة لهذه للاشكال المشار اليها، ولم تستطع تطوير مدنيتها الا ضمن حدود ضيقة، بحيث لم تتحول الى ثقافة سائدة، ولم يكن من الممكن أن تتحول بسبب محدودية هذه الفئة من الناحية الاجتماعية، والروح المحافظة بشدة للحرفيين، والناتجة عن متطلبات الحفاظ على انماط الحرف والمراتب الاجتماعية المرافقة لها والتي تتطلبها بحكم طبيعة حياتها بالذات.
وسرعان ما جرى دمج تلك المدنية بل ابتلاعها من قبل الأشكال الجديدة للسلطة وللطبقات الاجتماعية الصاعدة. وكون الفلاح مستقر في الريف، فان نزوحه الى المدينة واستقراره فيا هو بدرجة ما امتداد لشكل حياته السابق ولكن مع تغير مهنته أو حرفته. لقد لعبت العمارة بهذا الصدد دور الناقل للتقاليد القبلية الى المدينة. كما ان ريف العمارة الذي لم يتألف من عمال زراعيين أزاء ملاكي أراض غرباء معزولين، بل فلاحين ضمن المشيخة أو العشيرة، أي في كيان يعتمد اسمياً على الاقل رابطة الدم، فان هذا الواقع قد ساهم الى حد بعيد في تشكل نوع بعينه من الأفكار والتصورات عن المجتمع والعالم بالصورة التي شكلت الشخصية الاجتماعية للفلاح والتي شكلت مفهومه وقيمه. كيف ينعكس هذا الشكل من الاستملاك في أفكار وتقاليد وأخلاق الناس؟ وما دور هذه الافكار، في تبني تيارات فكرية بعينها؟ ما هو دور الافكار التي يكتسبها الافراد عن الحياة في تشكل الوعي العام السياسي لدى عموم الشعب الكادح؟ وهل يحصل تبني الافكار بصورة طوعية أم ان القسر والتمسك بالتقاليد يرسم اتجاهات تفكير الناس؟ كل هذه الاسئلة ذات أهمية وهي مترابطة، وتقود الاجابة عليها الى تكوين تصور أوضح وأكثر موضوعية عن المجتمع المعاصر الذي لم ينفصل عن تاريخه القريب. وهذه المسألة مهمة ليس للتوثيق بل لاستخدام المفهوم المادي للتاريخ ليكون سلاحاً في النضال كما يقول كاوتسكي①.
إن هذا المقال يستهدف التصدي لمسألتين، وجدت اثناء البحث انهما متوازيتان بصورة لا فكاك لها، الاولى هي تأثر المدن الرئيسية بقيم الريف والأساس التاريخي لهذا الواقع، والمسألة التي ارتبطت ببحث هذه المسألة هي كيفية تشكل الافكار العامة عن المجتمع والحياة وفق المنظور العشائري، وكيفية استمرارها مع زوال القاعدة المادية التي تشكلت على أساسها، والتي شكلت ما يعرف بالعقلية العشائرية، والتي تعيد انتاج نفسها كأفكار ولكن على أرضية أجتماعية اقتصادية لا تشبه الأرضية التي انطلقت منها خلال تشكلها. وخلال البحث وجدت نفسي أمام مسألة ملحة هي الاخرى، وقد فرضت نفسها خلال سير المقال، والتي لا يمكن التوصل الى نتائج تاريخية ذات اهمية دون التعرض لها، لترابطها مع أصل الموضوع، الا وهي اصل العائلة والعشيرة في المجتمع الشرقي.
إن المقال الحالي لا يمكن أن يغطي المواضيع الثلاثة المحورية المشار اليها، وبالأخص المسألة الاخيرة التي تحتاج الى دراسة خاصة، لا على أساس الأعراق والأنساب وانما على أساس التطور التاريخي ودوره في إتخاذ القبائل والآنساب هذا المسار أو ذاك.
وفيما يخص دينامية تشكل الافكار والتقاليد، سيتطرق البحث لها في خطوطها العامة وبمقدار ما يخص الأوساط العشائرية. لأن هذه المسألة تشكل إحدى مهام دراسة التطور الاجتماعي وأثره في تشكّل الأفكار والمفاهيم على صعيد المجتمع ككل، وليس على مستوى فئة أو وسط بعينه، وهو ما يقود بالتالي الى التعرف على مسارات وقنوات البنى التي تشكل قلاع التقاليد والقيم.
ان فهم الواقع المعاش للناس وأفكارهم وتقاليدهم على أساس التصور المادي التاريخي، وليس فقط فهم الحوادث أوالوقائع السياسية والتيارات السياسية، هو بحد ذاته سياسة، بل هو السياسة الفعلية. لأن الاسلحة الايديولوجية لدى البرجوازية المسيطرة في المجتمع اليوم، تستمد قوتها الى حد بعيد، من التعمية على الواقع وزج أذهان الشعب بعيداً في التاريخ والحروب والأعراق والدين، لكي تبقي الانسان في وضع يشبه من تشرئب عنقه للسماء وقدمه معلقة في الهواء ولا تلامس الأرض. هذا من جانب ومن جانب آخر، بمقدار ما تكون القاعدة المادية للانتاج والمعيشة متأخرة، بمقدار ما يزداد دور الايديولوجيا في السياسة.
يشكل الجانب السياسي جانباً محورياً في هذا المقال، فليس المقصود دراسة وجه من ظاهرة، وهو الوجه الموصوم بكونه سبب تراجع المدنية، أي نزوح أهل الريف وتأثيرهم في المدينة، بل تقصي الاستعداد النفسي والاجتماعي للايجابية والتقدم كذلك، وهذا جزء من أهداف هذا المقال. وبدون دراسة التطور الاجتماعي، والتعرف على أنماط الحياة التي سادت وعلى الآثار الفكرية لها في أذهان الجمهور، سيكون تقييمنا لدور البروليتاريا الريفية معتمداً بصورة عامة على تقييم الاحداث التاريخية، وخاصة التي تطابق فترات انتعاش الحراك الشعبي وتصاعد الشعبوية. أي باختصار بالتركيز على الاحداث السياسية لا على التطور الاجتماعي وأثره في تشكل الافكار، سواء المحافظة والرجعية او الافكار الثورية والتقدمية، ولا على دينامية حركة المجتمع ودينامية تفاعل الافكارالعامة للناس مع الاتجاهات السياسية.
إن بحث موضوع المحتوى الاجتماعي والتاريخي للعشائر ليس موضوعاً وصفياً أو سرداً معلوماتياً، بل انه يتصدى لمسألة ذات بعد سياسي حي قائم، وإن الخوض فيها هو خوض في سياسة واقعية. إن العشائرية يمكن احياؤها وتوجيهها حسب متطلبات أي تنظيم سياسي للطبقات المالكة في المجتمع، إنها مخزون جاهز بيد السلطات للسيطرة على الأفراد وتحجيم أي دور سياسي للكادحين، انها سلطة في البيت، وفي النفس أي الذات، وإن التعامل معها اليوم على انها مجرد ظاهرة من ثقافة وتقاليد الماضي، أو على انها نتاج رغبات أومبادرة مجموعة من الزعماء العشائريين، هو تصور ناقص او قاصر بصورة خطيرة، وكل ما يبنى على ضوئه من سياسات لن يكون علمياً.
لم يجر إعتبار العلاقات المعقدة في الريف، والانعكاس الفكري والنفسي لها في أفكار الناس، ودورها في تشكل تفكيرهم ومعتقداتهم وتطور بناهم الفكرية، هي الميدان الذي يتوجب توجيه الاهتمام النظري نحوه وتحليله، واقتصرت اغلب الأبحاث على تناول تأثر الريف بالتيارات السياسية والاوضاع السياسية والاقتصادية العامة، أو بمقدار ما يتعلق بالسياسة أو التاريخ السياسي بالذات.
إن الاقتصار على تحليل البنى الاجتماعية، بمقدار ما يتعلق بتحليل أحداث أو مراحل سياسية هامة، يعكس إستخدام النظرية بالقدر الذي يخص مجال النشاط السياسي لهذا التيار أو ذاك، وبالتالي عدم إستخدام المنهج المادي التاريخي في التحليل، وبالنتيجة بناء النظرية خارج الحياة، وهو ما قام به اليسار طوال عقود، مما ساهم في عدم تجذر النظرية والفهم المادي في أوساط الجمهور، وبقائه في أوساط الحلقات السياسية والحزبية، والبقاء في إطار تقديم المشورات واللوائح السياسية الجاهزة المستمدة من تصورات خاصة.
إن عدم بلورة تحليل سوسيولوجي مادي لذات الانسان وتأثيرها المتبادل مع السياسة والتيارات الفكرية والسياسية، أدى من جانب آخر الى تصدي فلسفات أو تيارات فكرية غير اجتماعية وغير طبقية الى تولي هذه المهمة، أقصد بذلك الوجودية والعدمية والعبثية.
ليس المقصود من وراء البحث، اثبات الابتكار أو الأسبقية، فلربما سبقني كثيرون الى هذا الموضوع، وليس المقصود كذلك الاستذكار أو تثبيت الحوادث للتاريخ، وإنما للتعرف على علاقة البنى العشائرية بتشكل أفكار الناس. وبالتالي الانطلاق من فهم التطور الاجتماعي الى بناء التصورات السياسية. وستكون احدى أهم منطلقات البحث هي الشكل الذي أتخذه القالب أو البناء الاجتماعي، والذي تمثل في العشائرية أو القبيلة كبناء سياسي ثقافي، ودوره كأطار أيديولوجي يعيد إنتاج نفسه، ويساهم في إدامة أنماط من التفكير تتخطى القبيلة والريف وتهيمن داخل المدن.
_______

1- كارل كاوتسكي الدين والصراع الطبقي في المجتمع الشرقي العبودي القديم. ترجمة سعيد العليمي. ص ص 14 دار روافد للنشر. القاهرة 2014.