رؤيتان متناقضتان لما بعد صدام


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 366 - 2003 / 1 / 12 - 05:02
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات     

 

"أم الندوات" هو الاسم الساخر الذي اطلق على اجتماع 32 من المعارضين العراقيين في ويلتون بارك. فور وصولهم تسلّم المشاركون نشرة صغيرة تعرّفهم في اختصار بتاريخ هذا القصر الريفي حيث يفترض وضع المبادىء الكبرى التي يجب ان تطبَّق في مرحلة ما بعد صدام. ومن الصعب التغاضي عن الرمزية في اختيار هذا المكان، فقصر ويلتون بارك احتضن الالمان والبريطانيين الذين كانوا مكلفين تحديد عملية الانتقال الديموقراطية في ألمانيا ما بعد النازية. وعلى الأرجح فقد أراد المتهكمون أن يلفتوا الى أن الألمان الأوائل الذين شاركوا في هذه المباحثات في ويلتون بارك كانوا من أسرى الحرب الألمان المسجونين في بريطانيا... 

  والتسمية الرسمية لـ"أم الندوات" هي "ندوة المبادئ الديموقراطية”، وهي ليست سوى واحدة من الثماني عشرة مجموعة من السياسيين والخبراء العراقيين الذين يجتمعون حالياً في رعاية وزارة الخارجية الأميركية من أجل صياغة الرؤى المستقبلية لعراق ما بعد صدام، وذلك في مختلف المجالات، من بنية الحكومة الانتقالية الى مسائل البترول والاقتصاد ودور وسائل الاعلام والجمعيات. 

  وإذا ما تركنا جانباً الحجم التقني للمسائل موضوع البحث، وبالرغم من المؤتمرات الصحافية المطمئنة حول المداولات الحضارية بين هؤلاء العراقيي الأصل ومن مختلف المشارب المتباينة، فإن مجرد عقد مثل هذه اللقاءات يكشف تماماً المأزق الذي تواجهه الادارة الأميركية في العراق، وما يشهد على ذلك هو المجادلات القوية بين وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية من جهة، وبين نائب الرئيس والمحافظين الجدد في البنتاغون والكونغرس من جهة أخرى.

   وفي الجهة الخلفية يتلطى خلف الصمت مساعد خاص للسيد بول وولفويتز ونائب وزير الدفاع الأميركي وموظف كبير من مكتب نائب الرئيس ديك تشيني. فهل أن مهمتهم هي مراقبة مندوبيهم... أم منافسيهم في وزارة الخارجية؟ هذا امر تصعب معرفته. فبالتأكيد ان المواجهة بين وجهتي النظر داخل الادارة الأميركية تقوم فقط حول نوعية الزعماء والنظام السياسي الذي يجب إعداده لعراق ما بعد صدام، وحول الوسائل الملائمة لفرض النظام. لكن هذه المواجهة ترتدي اهمية كبرى في ما خص مستقبل الاستراتيجيا الأميركية في الشرق الأوسط. وهذا النزاع القديم دخل رسمياً المؤسسات في ظل الرئاسة الحالية، فوزارة الخارجية، والى جانبها وكالة المخابرات المركزية، قد اتخذت موقفاً واقعياً ("الحمائم”)، مقررة تغيير النظام في العراق تنجز به عملية إعادة الاستقرار الاقليمي الذي أخلّ به الرئيس صدام حسين. وفي الطرف الآخر هناك البنتاغون، تدعمه مجموعات نافذة في الكونغرس ونائب الرئيس ومجلس الأمن القومي، الذي يعتمد موقفاً إيديولوجياً ("الصقور”)، يقول بأن هذا التغيير يجب أن يكون نقطة انطلاق لـ"موجة ديموقراطية"، من أجل تحويل العراق رأس حربة في نشر الديموقراطية في المنطقة بعد تحويلها واحة ليبيرالية مقربة من الأميركيين. 

  ويعود هذا النزاع في أساسه الى اواسط الثمانينات من القرن الماضي حين قام قطاع نافذ في حكومات كل من ريغن وبوش الأب، مدعوماً بجيش كامل من "البحاثة" ومن الدعائيين ورجال الأعمال والسياسيين، ببذل جهود كبيرة وبصرف أموال طائلة من أجل استمالة بعض الديكتاتوريات القومية، وخصوصاً السيد صدام حسين، للتحالف بشكل وثيق مع الولايات المتحدة من أجل محاربة الأصولية وتأمين تزود الغرب النفط في شكل منتظم (1). 

  وقد ظل هذا المنطق ساري المفعول حتى ما بعد الحرب العراقية الايرانية (1988)، وحتى عندما بدأ الرئيس صدام حسين يهدد المصالح الأميركية مباشرة. كما استمر بعد حرب الخليج وهزيمة العراق والانتفاضة الشعبية التي أثارتها في ربيع العام 1991، دعوة الرئيس بوش الأب الشعب العراقي الى "ان يخلص نفسه بنفسه”. وسيستمر المدافعون عن التحالف مع بغداد في لعب دور أساسي، فقد نجحوا في إقناع الادارة، ليس بعدم دعم هذه الانتفاضة وحسب، بل بعدم استخدام قوات التحالف سلاحها مع أنها كانت تحتل سدس البلاد حين كانت قوات الرئيس صدام حسين تسحق هذه الانتفاضة موقعة 60000 قتيل على الأقل. فبحسب هؤلاء المستشارين أن أي انتفاضة شعبية قد تفضي الى نتائج غير مرغوبة، وانه يمكن تأمين المصالح الأميركية بشكل أفضل عبر عملية تغيير محدودة بإقصاء الرئيس ومقربيه، مع الحفاظ على الأسس الجوهرية في النظام.

   وخلال السنين العشر الأخيرة وجدت كلتا هاتين النظرتين من يؤيدها من العراقيين. فقد راهن "الواقعيون" على "الائتلاف الوطني العراقي" المؤلف من بعثيين سابقين يدعون الى القيام بانقلاب محدود. أما منظّرو المحافظين الجدد فقد وقع اختيارهم على "المؤتمر الوطني العراقي" وهي منظمة تدعي بقوة استيحاءها الأفكار الليبيرالية والمقربة من الغرب. وبالطبع فإن هاتين الحركتين، إضافة الى بعض الفصائل الأقل أهمية أو بعض أعضاء المعارضة، ليست مجرد عميلة للارادة الأميركية. ذلك أن تشكّل كل منظمة يعكس الى حد بعيد التغييرات العميقة التي أحدثها النظام البعثي في المجتمع.

   وهكذا نجد أن "المؤتمر الوطني العراقي" مؤلف في غالبيته من أفراد يدينون بصعودهم الاجتماعي والاقتصادي و/أو السياسي الى الأنظمة ما قبل الجمهورية (قبل سقوط الملكية في العام 8591)، في حين أن إدارة "الائتلاف الوطني العراقي" تجمعت من تلك الطبقة التي نمت في ظل الأنظمة الجمهورية وخصوصاً في ظل نظام حزب البعث. فإذا لم يكن للفريق الأول أي شيء مشترك مع النخبة الحالية الحاكمة في بغداد، فإن أعضاء الائتلاف الوطني العراقي، وإن كانوا قد انفصلوا عن حزب البعث، لا يزالون يشاطرون أولئك الذين يدينون لهم بصعودهم الكثير من ذهنيتهم واساليبهم.

   فمستقبل العراق مرهون بالطريقة التي سيزول بها نظام الرئيس صدام حسين عن الساحة السياسية. فهل أن سلسلة هجومات مدمرة على البنى التحتية وعلى السكان المدنيين في البلاد ستفتح المجال أمام الدعاية البعثية لإظهار الولايات المتحدة وكأنها تستهدف الشعب العراقي، وللسيد صدام حسين باتخاذ موقف المدافع عن الأمة؟ أم بالعكس سيبدو الديكتاتور وكأنه يسعى الى التشبث بالسلطة مهما كان الثمن؟ الا إذا اتت رصاصة الرحمة للنظام من أحد الجنرالات أو أيضاً الا إذا سقط هذا النظام أمام انتفاضة شعبية؟ إن الاجابات عن هذه الأسئلة هي التي ستحدد فرحة او تخبط العراقيين العاديين وثقتهم في النظام الجديد وبالتالي إن كانوا سيميلون الى تطبيق العدالة بأنفسهم في الشارع أو بالعكس إن كانوا سيوكلون هذه المهمة الى القادة الجدد.

   لكن كيف ستتمكن أي حكومة انتقالية من فرض إرادتها على الشعب؟ فما من شيء يؤكد الحصول مسبقاً على ولاء القوات المسلحة لأي نظام جديد. فبعد ثلاثين عاماً من الاعداد العقائدي ومن العزلة عن العالم الخارجي سيكون من الصعوبة بمكان تحقيق التواصل بين الادارة الجديدة والعسكريين. وإن انهياراً مفاجئاً لنظام الرعب سيفتح المجال أمام انفلات مشاعر الانتقام من دون أي خوف، وما يثير القلق أكثر هو ان الوجود الكثيف للقبائل والعائلات والمصالح ستهدد باستمرار بحدوث انقلاب عسكري. 

  وأعضاء المعارضة العراقية الذين يدافعون عن "سيناريو بسيط" بمباركة من وزارة الخارجية الأميركية، ينطلقون مما يعتبرونه "المعايير الثقافية والبنى القائمة”. فنظراً لتاريخ هذا البلد المضطرب وللظروف الاقليمية والارث البعثي الثقيل، ستشكل عملية الانتقال الديموقراطية المدروسة أمراً جيداً، على أن تعطى الأولوية للاستقرار وتتم العودة بالحد الأدنى الى الوضع الطبيعي، ففي مرحلة اولى سيقلص هذا السيناريو التدخل الخارجي الى أدنى حد مما يذكّر على كل حال بالسياسة الاستعمارية البريطانية في عشرينات القرن الماضي. ذاك ان الأمر سيتطلب منح الكثير من السلطة لكبار زعماء القبائل في الشؤون الداخلية، ومن أجل حفظ النظام في الجنوب يجب الاستعانة بميليشيات المعارضة الاسلامية الشيعية بقيادة المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق التي أسسها ويقودها آية الله محمد باقر الحكيم. وفي الوقت نفسه، وبداعي الحفاظ على الاستقرار يتم ابقاء البنى الأساسية للنظام البعثي والكثير من قادته. 

  وفي المقابل فإن "المؤتمر الوطني العراقي" ينطلق من مبدأ أن النظام البعثي هو من نوع الانظمة النازية، وهذا ما يستدعي اكثر "الغاء الطابع البعثي" وتفكيك البنى التحتية للنظام، ومن هنا ضرورة الدعم المادي الكبير من الولايات المتحدة التي يجب أن تبقى في العراق لمرحلة موقتة طويلة نسبياً كي تحافظ فيه على النظام وتعيد بناء المؤسسات، على أن يتشكل الجيش الجديد من الميليشيات المؤلفة من المنفيين. باختصار إنه استيحاء لنموذج اليابان ما بعد العام 1945 وتحولها دولة ديموقراطية. وفي اي حال فإن سيناريو الصقور هذا لا يخلو من تناقض كبير بين الأهداف والوسائل. 

  فالمشروع الساعي الى جعل العراق يابان الشرق الأوسط مسالماً وديموقراطياً، يندرج في سياق استراتيجيا تهدف الى زيادة صادرات البلاد النفطية ثلاثة أضعاف  لترتفع من حوالى 2.3 مليون برميل يومياً الى 10 ملايين برميل. لكن هذا الهدف المضخم لا يبدو أبداً منسجماً مع عملية تحويل البلد مسالماً وديموقراطياً، فزيادة إيرادات البترول تعني تغذية جذور الطغيان. ومن جهة أخرى فإن زيادة الانتاج ثلاث مرات سيتسبب بهبوط الأسعار ويضر بمصالح سائر الدول المصدرة كلها. غير ان العراق هو البلد الوحيد في منظمة الدول المصدرة للنفط الذي لا يملك منفذاً بحرياً حراً وحتى ان في امكان المدفعية الايرانية أن تطال مرافئ الخليج. ومن المؤكد أن دولاً مثل إيران والسعودية لا تنظر بعين الرضى الى تغيير قد يهدد انظمتها بالسقوط. وبالنتيجة فإن سيناريو من هذا النوع سيشجع بغداد على التحول الى العسكرة أو على الاعتماد على وجود أميركي قوي. وفي كلتا الحالتين فإن الأرباح المتوقعة من رفع الصادرات ثلاثة أضعاف (وهذا أمر افتراضي على كل حال إذا ما أخذنا في الاعتبار احتمال هبوط أسعار النفط) سوف تتبدد على عمليات الانفاق العسكري والاستيراد. 

  وقد بينت التجربة التاريخية أن البنى القائمة على الشراكة تتبع سيناريو التحول الخاص بها. فعبثاً تحاول اي سلطة داخلية او خارجية أن تفرض برنامجاً سياسياً تحت ستار التحديث أو احترام الثقافات التقليدية، ففي نهاية الأمر سينتصر المنطق الداخلي منتقماً من اولئك الذين حاولوا أن يعاملوه بالاكراه. فالميليشيات المسلحة التي لا تمثل قطاعات شعبية واسعة أو التي لا ينظر اليها على انها تنهض بأعباء المهمات الشرعية، قد تنزع الى اغتصاب السلطة والى نشر الرعب وتعزيز قبضة اسيادها بدلاً من أن تصبح نواة لجيش مستقبلي. ففي بلد محروم من البنى الشرعية ومن السياسات التمثيلية لا يمكن هذه الميليشيات الا ان تزوّر الاجراءات الانتخابية، وهي محط الكثير من الآمال، وسيكون من الصعب عليها الاندماج بالجسم السياسي للأمة. 

  فقط القوى العسكرية والشرطة بعد إعادة بنائها ستكون لها القدرة على فرض سلطة الدولة والنظام العام، وهذا لن يتم الا بصعوبة على أثر سقوط الديكتاتورية فورياًً. فإعادة تأهيل جهاز عسكري مدمر ومفكك سيطرح مشكلات كما تحويله من قوة مسيسة وأداة قمع الى مؤسسة وطنية يعترف بها الشعب كضمان شرعي للنظام العام ولأمن الأمة. 

  فقد يكسب الجيش والشرطة بعض الاحترام إذا ما بيّنا أهمية تهميشهما وإذلالهما في ظل نظام البعث، فمنذ انتهاء الحرب مع إيران بدأت تتضاءل الامتيازات الممنوحة بكثافة الى الضباط المحترفين، كما أن بعض الجنرالات الذين أدوا خدمتهم على أتم وجه قد أسقطت رتبهم أو عوقبوا. وأياً يكن، فمن اجل أن تتمكن القوى المسلحة الرسمية من النهوض بواجبها يجب ان تعد على انها مؤسسات تابعة لدولة شرعية. 

 لكن نادراً ما نجمت الشرعية في العراق المعاصر عن دستور اعتمد الشكل الديموقراطي، فهي بالأحرى كانت وليدة الاستزلام للدولة وقدرة هذه الدولة على الظهور في نظر الكثير من القطاعات الشعبية على انها مفيدة لها. 

  والخطوة الأولى لتشريع نظام ما بعد صدام حسين يجب ان تكون اعتراف العالم الخارجي به وقبول العراق في صفوف المنظمات الدولية. لكن هذا لن يكون أبداً كافياً لكي يعترف المجتمع العراقي بالنظام، ولذلك سيكون من الأنسب محاولة إقامة التوازن الدقيق، من جهة بين ممثلي الشعب من الذين تسمح لهم مواصفاتهم الأخلاقية والسياسية بكسب الاحترام والثقة، وبين الزعماء القادرين على الحصول على ولاء الجيش والشرطة من جهة أخرى. ودون ذلك صعوبات، إذ ان الشعب في حالات التحول الثورية تحدوه آمال كبيرة. فكلما حاول فرد أو جهاز أن يترك مسافة بينه وبين النظام البائد، اكتسب شيئاً من المصداقية. ومن المعروف في الوقت نفسه أن الكوادر التي تترك هذه "المسافات" لن تكون من الذين يدركون تماماً تركيبة السلطة، ومعظم هؤلاء يجهلون كل شيء عن الأجهزة التي تشكل رافعة للسلطة. 

  وفي غياب ثورة عارمة وشاملة تنتج مؤسساتها وقادتها، سيؤدي سقوط النظام الى فراغ في الحكم يولد حالة من الصراع. وإذا بدا من الممكن انفجار ثورة عفوية فوراً بعد، وحتى قبل، أي هجوم عسكري على العراق، فإن تمييع الثقافة السياسية وإفقارها في المقابل سيجعلان من المستحيل عملياً توافر حلٍ ثوري بالفعل. فأكثر من عشر سنين من العقوبات المدمرة وأكثر من ثلاثة عقود من النظام الاستبدادي فتكت بالطبقات المتعلمة، المسماة وسطى، والتي كان في الامكان أن يخرج منها زعماء جدد متنورون. وبعد هذه المرحلة الطويلة من معاناة لا توصف عاشها ملايين العراقيين لا أحد يستغرب أن يتحرك بعض قدامى الجزارين كأبطال يحملون الأفكار الشائعة، أفكار الليبيرالية والتبادل الحر والتقرب من أميركا.

 

*  باحث واستاذ في جامعة امستردام

1 .اقرأ

Alain Gresh, “Objectif Baghdad” , Le Monde diplomatique, Sept. 2002

 

اللوموند ديبلوماتيك ومفهوم