رسائل نصّية عن سيرة العراق في ربع قرن


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4294 - 2013 / 12 / 3 - 08:50
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     

[بمناسبة مرور ربع قرن على صدورها، طلبت مني صحيفة "الحياة" المساهمة بمقال شديد التكثيف يلخص مامر به العراق خلال هذه الفترة. ومع أن المهمة بدت شبه مستحيلة، فقد آثرت أن أكتب "رسائل نصيّة" أشبه برسائل sms التلفونية]

عام 1976 توعد صدام حسين، نائب الرئيس العراقي آنذاك، من يحاول قلب نظام البعث بأنه سيتسلم عراقا احترق نصفه في إشارة إلى تشبثه بسلطة لن يتخلّى عنها.
عام 2003 تسلّمت قوات الإحتلال عراقا لا يعرف أحد كم احترق منه، لكن صدّام وفي بوعيده.
حين صدرت الحياة عام 1988 كان العراق خرج توّا من ثماني سنوات من حرب طاحنة سقط فيها أضعاف أضعاف من سقطوا في حربيه التاليتين مع أمريكا عامي 1991 و 2003. لكن جحيم الحربين التاليتين وأبعادهما الدولية، وربما العداء الشامل لإيران الثورية والتواطؤ الأمريكي والإقليمي مع صدّام في حربه الأولى، أحالها حربا شبه منسية.
إن كان لي أن أضع آثار كوارث العراق المتتالية على تركيبته الإجتماعية ومساره الراهن في سلّم تنازلي فإن منسيّتين ستحتلاّن القمة: تأتي الحرب مع إيران في المركز الثاني، إذ يتصدر السلم خنقه طوال ثلاث عشرة سنة بأقسى حصار اقتصادي عرفه أي مجتمع في التاريخ الحديث، حصار مرتبط بلاشك بحروب وجرائم نظامه.
لم تكرّس الحرب عبادة القائد الفرد فقط، بل أنها كرّست تقديس القسوة والعنف. لن أنسى مقالا كتبه عضو قيادة قومية للبعث يلخّص فلسفة حزبه: ليس مهما من نحارب ولا هدف الحرب. الحرب بحد ذاتها مهمة إذ هي تصهر الأمة وتوحّدها خلف قائد متميّز. وهكذا كان. ماكنة هائلة أطلقت الغرائز الكامنة لدى أي شعب لتوحّده وهو يتلذذ بصور جثث وأشلاء عدو مزّقناه. بتحديد العدو، حددنا من نكون: نحن البوابة الشرقية لأمة العرب ولولا استبسالنا لانهارت الأمة. لكننا متميزون عن الأمة فالشعار الرسمي بات "العراقي يتقدم". نريد وحدة عربية بشرط قيادة العراق للأمة. أعيد بناء بابل فنُقش كل صف حجارة بين صفّين باسم صدّام حسين وانتشرت صور القائد وهو يتسلم الراية من نبوخذ نُصّر. بررت نشوة اكتشاف الذات كل ممارسة وحشية حتى لو فضحت الممارسة عري سردية الأمة العراقية. فطوال عامين أجهزت عملية الأنفال على مازاد عن 150 الف كردي يفترض أنهم جزء من تلك الأمة.
في ظل الحصار المبتدئ عام 1990، تكفّلت الهزيمة في حرب الخليج الأولى والإنتفاضة الشعبية أوائل عام 1991 والإنهيار المريع في مستويات معيشة السكان وتفكك مؤسسات دولة كانت مفرطة المركزية ذات يوم في إيصال العراق إلى حاله الراهن. فكردستان السائرة اليوم نحو استقلال لاشك قادم خرجت عن سلطة بغداد منذ ذلك الحين. وأكثر من شهر من المذابح بحق أبناء الجنوب المنتفضين مكّن الإسلام السياسي الشيعي من مد جسر آيديولوجي يبدأ باستشهاد الحسين ليضفي على "مظلومية الشيعة" هالة أسطورية. وأعاد اكتشاف الجياع لرجال دين طوائفهم وشيوخ عشائرهم أملا في الحصول على بعض من فرص العيش. وصار العراق ثاني أكبر البلدان من حيث عدد لاجئيه إلى سكانه.
على أنقاض سلطة تتهرّأ انطلقت سردية الوحدة العراقية المصطنعة والشعب الذي لاجامع بين مكوناته. وعلى أنقاض تلك السلطة ومن بين صفوفها تدافعت سلطات تتصارع: سلطة ابن الرئيس وجيشه الخاص، فدائيي صدّام ومطابع نقوده الخاصة، وسلطة الصهر وسلطة الرئيس وابنه الثاني، وسلطة أثرياء الحصار وملوك ما سُمّي بكوبونات نفط الحصار. وأتّخذت الوحشية بعدا أسطوريا مع تقنين ذبح النساء المتهمات بالبغاء على أيدي حملة السيوف من الفدائيين. أكان لمقاومة الإحتلال ألأ تترافق مع الرقص على جثث قتلى العدو وتعليقها على الجسور؟
يوم السقوط المدوّي لتمثال صدّام في التاسع من نيسان 2003، بدا الشعب خدرا. لم تنطلق مظاهرات ساخطة ولا فرحة. وحدهم الجياع واللصوص انطلقوا لنهب كل ما وقعت أعينهم عليه.
من داخل بيت كاد العفن يقوّضه أعلن القائمون الجدد على الأمور انطلاق العملية السياسية لبناء عراق ديمقراطي تعددي. لم يكونوا جهلة في فن السياسة حين أصرّوا على البدء من النهاية، من إجراء الإنتخابات في بيئة بلغ الإستقطاب الطائفي والقومي ذروته فيها، وفي ظرف مكّن أمراء الحرب المدججين بالسلاح والمال من أن يكونوا اللاعبين الوحيدين في الساحة.
ثمة تعددية اليوم، تعددية الفرق المسلّحة. وثمة مساع حثيثة لإعادة إنتاج دكتاتورية لن تكون ببشاعة نظيرتها البعثية بالتأكيد. وثمة فسحة شديدة الضيق يحاول تيار مدني ضعيف النفاذ من خلالها. لكن الإستبداد العراقي، حتى وإن تغلّف بشعارات سيادة القانون يظل يجد أساسه المتين في دولة الريع النفطي القابضة على مصادر الرزق وعلى مصائر الناس بالتالي.