عن روحاني وغورباتشوف وما بينهما


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4234 - 2013 / 10 / 3 - 15:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


كان صديقي الراحل فريد هاليداي واحدا من أهم الخبراء الغربيين في السياسة الإيرانية حقق شهرة عالمية حين تنبّأ في أواسط السبعينات بأن إيران كانت مقبلة على ثورة في وقت بدا البلد فيه واحة للإستقرار والإزدهار. حين كسب السيد محمد خاتمي الإنتخابات عام 1997 ليصبح الرئيس الخامس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، نشر هاليداي مقالا قصيرا يقترح فيه النظر إلى الرئيس الإصلاحي الجديد كمقابل إيراني للزعيم السوفييتي غورباتشوف الذي أرست سياساته الثورية: البرسترويكا المعيدة لهيكلة الإقتصاد، والغلاسنوست المتبنية للشفافية والعلنية، والإنفتاح على العالم الغربي أسس تقويض النظام السوفييتي (ودولة الإتحاد السوفييتي فيما بعد) وانتقال روسيا إلى نظام تتناسب ديمقراطيته مع تاريخ البلاد الإستبدادي. كتبت لهاليداي متسائلا إن كانت المقارنة الأقرب للدقة ينبغي أن تكون مع زعيم سوفييتي آخر هو نيكيتا خروتشيف (1953- 1964) الذي خلف ستالين وأدخل، هو الآخر، إصلاحات عميقة على البنية السياسية والإقتصادية للبلاد لكن تلك الإصلاحات لم تتحدّ قط الركائز الأساس التي قام فوقها النظام السوفييتي: احتكار الحزب الحاكم للحياة السياسية وتغلغله في كافة مسامات المجتمع، السيطرة الشاملة للدولة على الإقتصاد وإحكام قبضة الأخ الكبير على توابعه من بلدان أوربا الشرقية.
لعل الفارق بين الزعيمين السوفييتين لم ينبع من اختلاف في رؤاهما أو طموحاتهما الشخصية. فقد اعتلى غورباتشوف سدّة الحكم معلنا بجزم أنه لن يسمح قطّ بقيام أحزاب سياسية إلى جانب الحزب الشيوعي وأكّد بأن البريسترويكا تعني إصلاحا للنظام الإشتراكي لا تغييرا له. يكمن الفارق بالأحرى في التغير الهائل للإطار المجتمعي الذي أحاط بفترتي حكمهما التي فصلت بينها ثلاثة عقود. حين شرع خروتشيف بإصلاحاته، كان سيف الرعب الستاليني قد أودى بحياة خمسة ملايين روسي حسب التقديرات، وأضعافهم مروا على منافي سيبريا. لكن الجيل الذي عاش ذلك الرعب كان هو نفسه الفخور بالنصر الهائل الذي حققه نظامه على الوحش النازي، وهو الفخور بأنه استطاع نقل بلده من موقع ثانوي إلى ثاني أقوى دولة في العالم، ومن بلد محاصر إلى امبراطورية ذات توابع يعترف بها العالم. كان الشعب، باختصار، يريد تغيير الستالينية لا النظام السوفييتي.
تبدو المقارنة بين نظامين سياسيين في بيئتين مختلفتين مغامرة كبيرة، لكنها تنطوي على قدر من الإغراء.
يأتي روحاني إلى الرئاسة وقد انقضى ربع قرن على انتهاء حرب السنوات الثماني المدمرة مع العراق، حرب يفخر الإيرانيون بنظامهم الذي أنهاها من دون أن يحقق الخصم هدفا واحدا من الأهداف التي أعلنها حين بادر بشنّها برغم أن هذا الخصم حظي بدعم الغرب والشرق على السواء. حقّا أن الخميني تمنّى لو أنه تجرّع السم على أن يوافق على وقف إطلاق النار، لكنه كان يأمل بإسقاط نظام البعث في العراق لا مجرد الوصول إلى نهاية مشرّفة للحرب. ويأتي روحاني على خلفية اختناق اقتصادي نجم عن العقوبات التي فرضها العالم عليه بسبب نشاطه النووي المشكوك في أهدافه. كل هذه عناصر قد تؤمّن له قاعدة أوسع مما حظي به خاتمي من شعبية بين الشباب وأبناء الحضر والمتعلّمين. لكن قطاعا كبيرا من غير هؤلاء ظل وفيّا للفقيه وولايته وللمبادئ الطهرانية للثورة الإسلامية. لنقل بتعبير آخر أن الغالبية لم تطرح مشروعية النظام السياسي الإيراني على أجندتها أيام خاتمي فيما تزايد عدد من يشككون فيها اليوم. لايمكن لأكثر مؤسسات استطلاع الرأي مهارة تقنية أن تصنّف مواقف الإيرانيين الراشدين إلى منتقد أو معاد لسياسة أو إدارة رئيس في ظل نظام يحرص على بقائه أو لايرى ضرورة لتغييره أولا، ورافض للنظام السياسي كله ثانيا، ومؤيد يحمل موقفا إيجابيا تجاه مايجري ثالثا. لكن ظاهرة التجرؤ على رفع شعارات مناهضة للفقيه التي بدأت منذ الإنتخابات الرئاسية السابقة فضلا عن تمرّد الرئيس عليه وبقائه في الحكم رغم ذلك تشيان بأن الفقيه المعصوم لم يعد كذلك في أعين كثيرين، بمن فيهم من يحتل موقعا مسؤولا وأن الفقيه نفسه بات مدركا لذلك.
ومع كل هذا فإن أي خطوة غورباتشوفية غير محسوبة من جانب روحاني لن تكون إلا انتحارا سياسيا. ذلك أن قفزة هائلة كهذه لن يكتب لها النجاح إلا في ظل سيناريو قريب مما حصل في مصر وتونس، اي استجابة لحركة جماهيرية عارمة ضد النظام السياسي للجمهورية الإسلامية.
لعل وجه المقارنة الأكثر أهمية لنا كمشرقيين يتعلّق برؤية روحاني لعلاقات إيران الإقليمية. في عام 1956، أغرق خروتشيف هنغاريا بالدماء واحتل جيشه عاصمتها بودابست حين ثارت بوجه النظام الشيوعي. وبرغم الإدانات اللفظية من الغرب، كان ثمة إقرار ضمني بأن السوفييت أحرار في التعامل مع توابعهم. في عامي 1989- 1990 لم يفعل غورباتشوف شيئا، ولم يكن بوسعه فعل شئ، حين تتالت ثورات أوربا الشرقية وبلدان البلطيق.
أستبق اعتراضا وجيها مفاده أن الرئيس في إيران ليس صاحب الكلمة الأولى في السياسة الخارجية التي هي ملكية الفقيه بحكم الدستور. إنما لابد من التذكير بأن قادة الإسلام السياسي، الناجحين منهم على الأقل، هم زعماء سياسيون بالدرجة الأولى. والفقيه يدرك أن ثمة سخطا عارما على النهج الشتائمي والعدائي الذي قاد إلى عزلة إيران إقليميا ودوليا. والفقيه يدرك أنه ليس طليق اليد تماما في اتّباع أهوائه وتطبيق رؤاه. ومشاهد عودة روحاني من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات دلالة كبيرة في هذا السياق. في مقابل القلّة التي رمته بالأحذية والبيض، وفي مقابل إعلان الحرس الثوري اعتراضه على مهاتفته لأوباما احتشدت جمهرة كبيرة مرحبة به. من المرجّح أن الأوائل حظوا بدعم المرشد، لكن هذا يعني أن روحاني استفاد من حيّزه لفرض رؤيته على الأخير.
إذن، لمَ هذا القلق الرسمي العربي من انفتاح روحاني؟ بعد عام من تولّي خاتمي الرئاسة، جمعتني ندوة بأستاذ جامعي يعمل مستشارا لزعيم خليجي. كان آخر ماتوقعت سماعه هو القلق من هذا التحول إذ هو، في رأيه، مؤشر على أن إيران لن تولي كبير اهتمام بعلاقات التضامن الإسلامي التي تشدّها بمحيطها وستسلك نهجا وطنيا لايأبه بتلك العلاقات. دهشت لأنني كنت أتوقع بأن هذا التطور ينبغي إن يكون موضع ترحيب. ففي كلتا الحالتين انبنت السياسة الخارجية الإيرانية على ماتراه قيادتها تحقيقا للمصالح الوطنية. لكنها في ظل خاتمي سابقا وروحاني حاليا لن تغلّف مسعاها بغلاف آيديولوجي يصور تمددها الإمبراطوري رسالة دينية وصل التعكز عليها ذروته مع أحمدي نجاد الذي كان يردد أنه يرى المهدي المنتظر حاضرا عند اتخاذه المواقف السياسية.
تتكرر تلك المفارقة المثيرة اليوم. قلق من جانب خصوم إيران التقليديين في مجلس التعاون الخليجي من أن يؤدي التقارب بينها وبين الولايات المتحدة إلى منحها ضوءا، وليكن باهت الخضرة، في التعاطي معهم بتصلّب في مقابل تقديم إيران تنازلات في خصامها النووي مع الغرب. وقلق إسرائيلي من أن يؤدي التقارب إلى إنهاء التهديد بتوجيه ضربة عسكرية لها والسكوت على تدخلها في شؤون سوريا والعراق ولبنان وبعض دول الجزيرة العربية. وقلق قوى الإسلام الشيعي العراقي من أن تنكفئ إيران على حل مشاكلها الداخلية فلا تعود طرفا يرجّح كفة قوة على أخرى في مجرى الصراعات الداخلية المحتدمة. وقلق لابد وأن يكون عميقا من جانب حزب الله الذي قد يواجه مأزقا خانقا إن انضاف انكماش إيران عن دعمه إلى انغماسه في المستنقع السوري. هكذا يجمع جديد إيران أطراف الصراعات الإقليمية حول موقف شبه واحد. موقف ينظر إلى العلاقات الدولية كمعادلة صفرية تستتبع كل زيادة في طرف منها إلى نقصان في طرف آخر.
من المستبعد تماما أن يؤدي التحول الإيراني الحذر إلى انقلاب وضعها الإقليمي والدولي. قد تتّخذ إيران الرسمية مواقف أكثر حذرا وتعقلا تجاه النظام السوري، لكن قوافل الحرس الثوري المباركة من الفقيه خامنئي لن تنقطع عن التدفق لإسناده. والملف العراقي الذي يشرف عليه قائد فيلق القدس سليماني لن ينتقل إلى مكاتب وزارة الخارجية. في كلا هذين البلدين ثمة مصالح راسخة ورهانات كبرى تمر عبر الترابط مع طواقم الحكم فيهما. فهل سيكون الأمر كذلك مع الحركات الثورية غير الحاكمة؟ إن شعر حزب الله بالضيق من روحاني، فلعله محق في ذلك، لأن موضوعة "استنزاف مواردنا وتوجيهها للخارج" تكررت مرارا على ألسنة إصلاحيي إيران على مدى السنوات الفائتة.