عن دكتاتور الإعلام والثقافة عموما


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4015 - 2013 / 2 / 26 - 23:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي
3.عن دكتاتور الإعلام والثقافة عموما

ولكن، كيف تستقيم العلاقة بين متسلّط على بعض ثقافة وبين منتجيها؟ ليس من متسلط، مهما كان مجال سلطته ضيقا، يستطيع أن يديم سلطته إن لم يمتلك حاسة شم نافذة تدرك اتجاه الرياح، وإن متأخرا، وتتوصّل في الآن ذاته إلى التعرّف عن القادر على، والراغب في تمويل مطبوع أو وسيلة إعلام مسموعة أو مرئية هي بالتعريف خاسرة، لكن لكل من المتسلّط والمموّل مصالح قد تتقاطع أو تتباين. ومن المهم ألا يستطيع التابعون، أي الكتّاب والإعلاميين، الوصول إلى تلك المصادر بشكل مستقل وإلا فقد أهم عناصر زعامته.
يستميت الدكتاتور/ بائع الثقافة/ الزعيم في الظهور بمظهر المتمتع بصداقات حميمية مع نجوم القطاع الذي يقرر الخوض فيه وفقا للظروف: أدباء، فنانين، قادة شيوعيين، باحثين ومنظّرين. ويستميت من أجل أن يسمّيه هؤلاء صديقا. لكنّه يظل وحيدا، إذ أن العلاقة الندّية والدكتاتورية نافيتان لبعضهما. العلاقات، بالنسبة له، ليست أكثر من ديكور يعرضه أمام الآخرين ليبيّن سطوته على مجاله. هي، بمعنى آخر، وسيلة إرهاب لغير الممتثلين والخارجين عن طاعته. علاقات تنذر الآخرين بأنهم لابد معزولون إن لم يلتحقوا بالركب. علاقات أشبه بالمسرحية الساخرة: كل طرف يلعب على الطرف الآخر، ويدرك الإثنان بأن ما يجمعهم هو المصلحة. مصلحة نشر كتاب، ترويج نتاج، إقامة معرض فني، تقديمهم إلى وسائل الإعلام. ولكن ليس للجنرال من يكاتبه. خارج تلك الديكورات والمصالح المشروعة لمثقفين وفنانين يضطرون للصمت من أجل إيصال نتاجهم، لابد للدكتاتور من أتباع وأجراء. هو يعرف موقعهم، وهم يعرفونها وعليهم عدم تجاوزها وإلا تعرّضوا للنبذ والمجئ بغيرهم. فبضاعة الأجراء رخيصة الكلفة ومتوافرة. وأهم ميزات تلك العلاقة هي إشعار الأجراء، أو قناعتهم كخانعين، بأنهم في سفح هرم يقف هو على قمته (في محاكمات صدّام حسين المسرحية لمن حاولوا ترشيح غيره للقيادة عام 1979، كان يتحدث عن "قدره": ماذا نفعل إذا كانوا في السفوح ونحن في القمة؟) . يقتنعون جازمين بأن وجودهم ومصيرهم معلقان بوجوده ويقتنعون جازمين بأنهم لو حاولوا تجاوز تلك القمة والتواصل مع مافوقها فيسقطون لامحالة في الهاوية. إنه وسيطهم وملّبي حاجاتهم. فلو اقتنع الآخرون بغير ذلك، لفقد المتسلّط مبرر وجوده (وقد حصل هذا الأمر بالفعل من جانب شخصية عربية محترمة رتّبت لقاءات عدة مع من يقف فوق أحد هؤلاء المتسلطين من دون المرور به. فمن يعرض نفسه كقمة يحاول ألا يظهر للآخرين تبعيته لمن هو أعلى. وكانت النتيجة قطيعة لاتزال قائمة بين الإثنين).
ولأن الندّية والإستقلالية مدمّرة لهذا الهرم أو مزعزعة له على الأقل فقد إن أي مثقف يملك حسّا باحترام الذات يمضي أشهرا في العمل معه ليغادر بعد ذاك. ولكن، كما في أي وضع مأساوي/ كوميدي كهذا، يندفع عشرات لملء الفراغ. لايهم أن يكون هؤلاء أشباه مثقفين، بل لعل من المفضّل أن يكونوا كذلك. المهم أن يضمن الإمتثال والطاعة. إنه يستمتع ويحفز الأخرين من أتباعه على التعامل معه بصفته معشوقا، يتنافسون فيما بينهم لينالوا رضاه أكثر من غيرهم. هكذا يتوالد أتباع يعبدون دكتاتورا، متظاهرين بأنهم يجهلون عبوديته لآخر.
بات القول مألوفا "يتحول البعض إلى آلهة لأن هناك من يركع لهم". ولن يُخدع الدكتاتور بعبارات التزلّف. لابد أن يكون الأتباع مرّوا بامتحان عبروه بنجاح كحمل أقلام تسجيل يزودهم بها لوضعها في جيوبهم لتتجسّس على الرفاق، أو التصدّي لحملة الأفكار الهدّامة في الوقت المطلوب. ولأننا في عصر الفضائيات والديمقراطية، فإن فرض الموالاة يتخذ أشكالا أكثر دهاءا قد يكون من بينها شراء معدّي برامج في قنوات مستقلة يحدد لهم مواضيع حلقات برامجهم والمساهمين الذين يجب استضافتهم ونوع الأسئلة التي يجب توجيهها والشخصيات التي تُحرّم دعوتها.
لأختتم بذكر تجربة شخصية مررت بها مع أحد هؤلاء ولعلها هذه فرصة لأشكره، ولو متأخرا، لانه ساعدني في الإسراع باتخاذ قرار مغادرة الحزب. فقد كان التغني بالبيرسترويكا والشفافية على أشدّه في النصف الثاني من الثمانينات. ولم يكن الأمر ليكون إلا كذلك بعد أن تبنى السوفييت هذه المبادئ. حينها قدمت دراسة موسعة تسعى لمعالجة الإنحطاط الذي وصلت إليه صحافة الحزب. وللقارئ أن يدرك كيف يجابه قائد لعب دورا أساسا في إيصال تلك الصحافة إلى ذلك الوضع دراسة هدّامة كتلك. اجتمع مكتب الإعلام، الذي كنت أحد أعضائه، بقيادته، وجاء رد الحزب المفند لآرائي مكتوبا. ورد الحزب هنا يعني رد المكتب السياسي الذي كان قائدنا لاعبا رئيسا، أن لم يكن اللاعب الرئيس، فيه. ولأننا هيأة "ديمقراطية" فقد طُلب من كل عضو من أعضاء المكتب إبداء رأي فيه وتفاوتت الآراء بشأنه وهو أمر طبيعي. حتى جاء دور السيد المطيع الذي أحاول نقل "آرائه" بأعلى درجة من الدقة: "إن هذا ليس مجرّد رد على أفكار الرفيق عصام. إنه وثيقة علينا الرجوع إليها دائما للتعرّف على السياسة الإعلامية التي يجب علينا اتّباعها". مكافأته؟ إنه الآن "مشرف عام" على صحيفة لاتوزع أكثر من مئتي نسخة في الشهر.
يومها سألت نفسي: بمَ نختلف عن مكتب الإعلام القومي الذي يقوده صدّام حسين. كل هذا ونحن في المعارضة. فكيف سيكون الحال لو سقط النظام؟
وسقط النظام. لم نستلم السلطة، لكن من قبضوا على سلطة إعلامية هائلة لايزالون يخشون من مثقف أعزل فرد ويسعون عاجزين إلى فرض الحُرُم عليه!´




*****************************************************************
في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي

2- حديث الملموس
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=347070

1- حديث النظرية والتاريخ
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=346755