حديث الملموس - في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 23:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي
2. حديث الملموس
من حق القارئ أن يُصاب بالملل من قراءة التهويم النظري. فلأنزل من عليائه وأكسب الهيكل ملموسية مستمدّة، في كثير من جوانبها، من تجربة شخصية متواضعة.
تجلّى انحطاط وتعفن الشكل اللينيني للتنظيم والفكر الحزبي في عقد الثمانينات. واؤكد هنا على "الشكل اللينيني" إذ أرى أن نماذج يسارية أخرى قادرة على التفتّح وهي تتفتح أمام أعيننا. ومع هذا، يخطئ من يظن أن الصراع على التحكم بالسلطة الآيديولوجية قد أفل آنذاك. فالسلطة الآيديولوجية، لاسيما إن كانت مصحوبة بسلطة المال، تمثّل معقلا حصينا لمن يتحكم بها. بل أن هذه السلطة قد تكتسب دورا أكثر أهمية مع تلاشي أوهام الوصول إلى السلطة السياسية. عند ذاك، لابد من شد الجمهرة المتبقية، المتشرذمة والمتلاشية، بل وشد التنظيمات المتناثرة هنا وهناك، حول تعاليم مهما كانت خاوية. لكل طور من الأطوار "بطله": بطل دوغمائي قادر على الوصول إلى مصادر تمويل لها، هي الأخرى، مصلحة في الإبقاء على حلفائها الصغار في المنطقة. وهكذا تقرر إصدار فصلية عنوانها الفرعي "دفاتر الماركسية اللينينية في العالم العربي". ظل الصديق محمد كشلي ذو روح الدعابة ولاعب الدور البارز في تحويل حركة القوميين العرب إلى تبني الماركسية (بغض النظر عن تحولاته الشخصية الأخيرة) يقول "إن الماركسية اللينينية تطورت بالفعل إذ تحولت إلى ماركسية ليبيية" إشارة إلى تمويل القذافي وغيره لحركات شيوعية. في عام 1986، عقدت الدفاتر ندوة "فكرية عالمية" حاشدة لدعم ليبيا في مجابهة الإمبريالية.
كنت المحرر الرئيس لتلك الفصلية التي خرجت أول أعدادها من على مائدة طعام شقتنا المتواضعة في دمشق.
وكان ثمة محرمات جديدة. من المحرّم نشر مقال أو مقابلة أو مقتطف صادرة عن تحريفيين، يساريين متطرفين، منحرفين يمينين، ماركسيين برجوازيين صغار. لامكان لمناضلين شيوعيين مصريين مثل ميشيل كامل وأحمد صادق سعد وميشيل كيلو ورياض الترك أو أي عضو من تنظيمه، ولا لبرجوازيين صغار ماركسيين لم يعبروا بعد مطهر الشيوعية المقدس مثل فواز طرابلسي، والقائمة تطول. في أواخر الثمانينات كتب لي فواز من باريس ساخرا: "جماعتكم يتصرفون كالماسونيين، يقررون من يدخل أو لا يدخل إلى محفلهم". أجبته برد لايقل سخرية: " ليتهم كانوا كذلك. فالماسونيون، كما نراهم، يتحكمون بالعالم. أما جماعتنا فهم أشبه بالآباء اليسوعيين. يجتمعون في غرف مغلقة لكي يقرروا من تنطبق عليه صفة المسيحي أو لاتنطبق، في حين أن أحدا لايأبه بهم".
بدهي أن الشيوعية كانت تعني هنا القيادة السوفييتية (قارنوا ذلك مع ولاية الفقيه). مثالان لم، ولن، يغيبا أبدا عن بالي. مات ديناصور إسمه بريجنيف زعيم الحزب الشيوعي السوفييتي في عام 1982. كانت قناعاتي بالتنظيم السياسي الشيوعي، لا بالمنهج الماركسي الذي لا زلت مؤمنا به، قد تزعزت. وأعلنت رأيا لم يكن أول أو آخر رأي يستفز صاحب الدفاتر: إنني بتّ اشعر بالخجل من الإرتباط بحركة هدفها التجديد والمساواة والتطلع إلى المستقبل. لكنها تعيش في الماضي ولاتجدد أو تسعى إلى المساواة.
نشرنا مقالا، لن أستحي إن قلت أني كتبته إن كنت فعلت ذلك، لكنني لا أتذكر بصدق من كتبه، "وداعا بريجنيف، مرحبا أندربوف" (لم تكن الدفاتر صدرت بعد فنشر في شهرية الحزب، الثقافة الجديدة، وكان مسؤولها هو مسؤول الدفاتر فيما بعد) والأخير هو من خلف بريجنيف. بعد عام لا أكثر، نشرت الدفاتر "النظرية" مقالا لايقل "أهمية": "وداعا أندروبوف، مرحبا تشيرنيكو". فقد مات الأخير! كنت قد تركت الدفاتر قبل ذاك لكني دّعيت لندوات أقامتها الدفاتر الفكرية تنقد القديم المتكلّس. فقد مات تشيرنينكو بدوره وجاء غورباتشوف حاملا فكرة البيرسترويكا والتجديد. فصارت الندوات تشيد بثورية البيريسترويكا بقيادة الزعيم الجديد غورباتشوف.
لماذا إذن اتخذ رجل ذكي نافذ في الحركة الشيوعية قرار إصدار مطبوع "فكري" آنذاك؟
لأن القادة هم آخر من يدركون حجم التحولات التي تدور حولهم. ثمة عالم عاشوا به، تربّوا في أحضانه، افتقدوا أي ثقافة جاءت من خارجه، تمتعوا بإحساسهم بالسطوة على جمهورهم عبره، استفادوا من الإمتيازات التي وفّرها لهم، بنوا في ظله هرما يقتربون، ولايصلون إلى قمته، بقدر تملقهم إلى المتحكمين به.
حين سقط كل شئ وبانت عورات كان الجميع يعرفها نشرت مطبوعة محترمة، لا أذكر إن كانت النيويورك تايمز أو غيرها، كشفا بمن كانوا يتسلّمون رواتب ومبالغ ضخمة من الكي جي بي، جهاز المخابرات السوفييتي المريع. وقامت اسبوعية لبنانية، إسمها الوسط، بترجمة الوثيقة إلى العربية. كان الصديقان كريم مروة وجورج بطل يتناولان الغداء عندنا، إذ كانا يصلان من بيروت إلى بيتنا من دون موعد مسبق, وعليّ أن أقول أن صاحب الدفاتر ومموّلها كان يفعل ذلك قبل القطيعة. وكنّا، وئام وأنا، نسعد بهذه الطريقة الحميمية في التعامل. لكريم حركة وجه أعرفها. يرفع شفته اليسرى وعليها ظل ابتسامة ساخرة: " شو يا... بيقولو إنك عميل للكي جي بي". وللمموّل حركة وجه أعرفها كذلك: ترتفع عيناه فوق إطار النظارة ويزمّ شفتيه: "انتظر علي وسأرى كيف سأقاضيهم". مرّت اثنتان وعشرون سنة ولم نسمع عن حكم القضاء بشأن تلك القضية، بل لم نسمع إن كان ثمة قضية رفعها المموّل أصلا.
كانت الدفاتر تطبع ثلاثة آلاف نسخة لكل من عدديها الأول والثاني. وكان هذا رقما محترما بالنسبة للمطبوعات الفكرية آنذاك. إذ لو كانت حصة كل حزب من الأحزاب الشيوعية 250 نسخة لوصلنا إلى هذا الرقم أو أكثر. أتشرّف بأني كنت أحمل أفلام الأعداد لطباعتها في قبرص وأن صاحب الدفاتر كان يقول لجميع من نلتقيهم، وهم كثر، بأنه يثق بشكل مطلق بأن حامل تكاليف أفلام "الدفاتر" التي تتجاوز ثلاثين ألف دولار لن يسئ استعمال سنت واحد منها. كان هو وغيره من القادة يثقون بنزاهتي، وهو ما أشكرهم عليه، لكنهم كانوا على حق في انعدام ثقتهم بي في تمثيل الحزب في أي محفل نظري أو فكري، وهو ما أشكرهم عليه أيضا! من يصدّق أنني لم أزر الكعبة موسكو حتى اليوم؟
كان كل عدد يحتوي على لقاء مع قائد شيوعي عربي. العدد الأول كان لقاءا مع عزيز محمد قائد الحزب الشيوعي العراقي والثاني مع خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري. يظل في ذاكرتي سؤال كان يلح عليّ أن أوجهه: ما هي السيماء الشيوعية في نظرك؟ إدعو أي مؤرخ لتاريخ الحركة الشيوعية إلى التأكد من وجود هذا السؤال في المقابلات. كان الأمر بالنسبة لي مطابقا، لا متشابها فحسب مع، النص الديني: "سيمائهم في وجوههم". ليست الشيوعية فكرا نظريا يتوصل إليه الفرد عبر قناعة، بل هو "سيماء" تولد معه.
للعدد الثالث، أبلغنا أنه سيذهب إلى عدن لإجراء مقابلة مع علي ناصر محمد رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية (وأوضّح للقراء الشباب أنها كانت دولة مستقلة يحكمها حزب ماركسي). هنا لم يكن ثمة حديث عن "برجوازية صغيرة" لم تعبر مطهر الشيوعية بعد مع أنها لم تكن غير شقيقة لمنظمات مماثلة خرجت من رحم القوميين العرب وتبنت الماركسية. لكنها كانت دولة فقيرة تعيش على المساعدات السوفيتية. ولكن من الذي كان بوسعه أن يمنع رئيسها الثوري من التصرف بميزانيتها كما يتصرف شيوخ الخليج بميزانيتهم، مع فارق أن الرئيس الثوري كان يغدق الأموال لصالح قضية "الثورة" و"الإشتراكية"؟
كانت المقابلة قد وصلتنا حين أعددنا العدد الثالث. وكنت والمصممة والمنفذة زوجتي وئام قد انتهينا من إعداد الأفلام في الساعة الخامسة صباحا, وستقلع الطائرة إلى قبرص في العاشرة أو نحوها. وصل الممّول حوالى السادسة صباحا.
لم يصّق لمبورس، مدير مطبعة آكيل، الحزب الشيوعي القبرصي، حين طلبت منه طباعة ستين ألف نسخة. "تقصد أن مطبوعكم لاقى رواجا فستضاعفون الكمية إلى ستة آلاف؟" "لا يارفيق لمبورس. أحمل معي الآن مئة ألف دولار كدفعة أولى لطباعة ستين الف نسخة".
سأقفز هنا سنوات إلى الأمام.
سقطت الشيوعية.
وأنتقل الثقل من دفاتر الماركسية اللينينية إلى إصدار مجلة أدبية ثقافية محترمة. لقد فقدت تلك البضاعة سوقها. لكن لابد من التشبّث بالسلطة الفكري. قبل هذا، كان المثقف برجوازيا صغيرا ينتج وسيف الإبتعاد عن فكر الطبقة العاملة مسلّطا فوق رأسه.



يليه الجزء الثالث: عن دكتاتور الإعلام والثقافة عموما