هل ولّدت الثورة المصرية يسارا جديدا؟


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 3510 - 2011 / 10 / 8 - 19:23
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     


برغم بطولات كثير من قادة اليسار المصري، إلا أنه لم ينجح في التحول إلى حركة جماهيرية منذ نشوئه في أوائل القرن السابق إلا في حالات عابرة مثل مظاهرات 1946 التي قادها الشيوعيين واليسار الوفدي ضد حكومة صدقي باشا، ومن ثم حركات الطلبة في أواخر الستينات واوائل السبعينات، وهي حركات ظلت ذات طابع طلابي ولم تنتقل إلى أوساط جماهيرية أخرى.
يعرف مؤرخو تاريخ مصر الحديث وحركاتها السياسية إن من بين الأسباب الرئيسة لعزلة اليسار المصري كون قادته من أبناء الطبقات شديدة الثراء، بل الباشوات، الذين تبنوا قضايا الفقراء، لكن نبلهم لم يكن كافيا لمد جسور بينهم وبين عامة الناس. حدّثني القائد الشيوعي الراحل أحمد صادق سعد إن عبارة "ولد وفي فمه ملعقة ذهب" لم تكن مجازيا في حالة ولادته، بل أن أبويه وضعا فعلا ملعقة ذهب في فمه. وان انضاف إلى ذلك كون كثير من أولئك القادة كانوا من أصول أجنبية تنتمي إلى أقليات عاجزة عن فهم واقع المجتمع المصري. وهنا أيضا أشير إلى رواية سمعتها من صديق يساري أثق في مصداقيته عن حوار جرى بينه وبين واحد من هؤلاء المناضلين الذين انخرطوا في حركة اليسار منذ ستين عاما. كان الإثنان يتناقشان عن أحداث أيلول 2011 في أمريكا وخرافة أن العرب كانوا وراء الحدث، فأكّد له ذلك المناضل عدم صحة تلك الخرافة لأن "العرب لايمتلكون عقلا متطورا كهذا"!!!
ومع إن حركات الإسلام السياسي تعرضت إلى قمع مشابه لما تعرّض له اليسار، إلا أن الأوائل نجحوا في إقامة منظومة قيم عدا أفكار الدين الإسلامي تربطهم بجمهورهم وتعايشوا معهم برغم الثروات الهائلة التي كونوها من مصادر عدة بعضها مشبوه.
بعد مجئ النظام الناصري الذي افتتح عهده بإعدام القائدين العماليين البقري والخميسي، خرج قادة اليسار المصري من سجون أبو زعبل والقلعة مثخني الجراح ومات بعضهم تحت التعذيب مثل شهدي عطية الشافعي ليروا أن بطولاتهم لم تلاق أي صدى بين عامة الناس. كان الشعب ملتفا حول النظام مسحورا بإنجازاته. ولم يغير في الأمر إن جيلا جديدا من أبناء الفئات غير الميسورة تسلّم قيادة حركة اليسار. وأمام هذا الإحساس بالشلل والعزلة لم يجد كثيرون مجالا غير الإنخراط في مؤسسات النظام: ترأس لطفي الخولي تحرير مجلة الطليعة، وعمل محمود أمين العالم محاضرا لكوادر التنظيم الطليعي في الإتحاد الإشتراكي العربي، الحزب الرسمي والوحيد في ظل نظام عبد الناصر، وانخرط آخرون في مؤسسات أخرى، معرّضين أنفسهم لنعوت بيع أنفسهم للنظام فيما وجد آخرون الأعذار لهم إذ كان الشعب يرى في عبد الناصر أسطورة وطنية لا يعارضها إلا الخونة.
بوسع المرء تعداد ما لايقل عن أربعة أحزاب شيوعية تشي بتمزقه، وهو كان ممزقا أصلا. فلم يكن مستغربا موت الحركة الشيوعية منذ الثمانينات، بل أن كثيرا من اليساريين صاروا وهم يحاولون استعادة مواقعهم يرفعون شعارات ويتبنوا شعارات تحاول العمل على أرضية الإسلام السياسي مثل كراهية الغرب والدفاع عن الإستبداد بحجة إن الأنظمة المستبدة تعادي الإمبريالية.
ومع إن كثيرا من اليساريين أدركوا حقيقة موت اليسار المصري القديم وضرورة الدفاع عن القيم الديمقراطية، فإن حلولهم دارت حول تأسيس منظمات مجتمع مدني لا جدال حول نبل القيم التي تبنت. فماذا كانت النتيجة؟ بعض، لاكل، قادة تلك المنظمات توافدت زرافات ووحدانا على القذافي وصدام حسين وغيرهم لتدعم "نضالهم ضد الإمبريالية". وأفرادا كنت أعرفهم في أيام نظامهم نقلوا مساكنهم إلى الزمالك والمعادي. في أواخر الثمانينات كنت في واحد من المؤتمرات التي لاحصر لها عن حقوق الإنسان التي لاحصر لها في القاهرة. وأنا في طريقي إلى الجلسة، نظرت إلى أسعار غرفة الفندق لليلة واحدة. قلت لصديقي الكبير سمير أمين، وكان يلعب،عن جدارة، دورا محوريا في ذلك المؤتمر: هل انتبهت إلى أن سعر الليلة في الفندق الذي أنزلونا فيه يتجاوز متوسط الدخل السنوي للمواطن المصري؟
اليسار المصري الذي أنجبته ولعب دورا قياديا في الثورة المصرية يمثل قطيعة مع اليسار المصري القديم، ليس فقط بسبب أعمار قادته، إذ يندر أن تجد شابا في قيادات اليسار ال "قديم" بل لأسباب جوهرية أخرى.
خذ مثلا كيف يتعرّف اليسار في أنظار هؤلاء الشباب: الديمقراطية والتعددية، العدالة الإجتماعية، التعاطي مع الغرب بندّية من دون خوف منه، المساواة بين جميع المواطنين، الدولة المدنية أو العلمانية. لقد ولدوا وتربّوا في ظل نظام معاد لكل تلك القيم: نظام يتحدث عن التعددية مكرسا بقاء حزبه متحكما في مفاصل الدولة، يتعامل مع الغرب بخضوع مذل، يفتح الباب أمام لصوص المال العام، يصرّح بالمساواة بين الجميع لكنه يبقي دبلوماسيا بارزا هو بطرس بطرس غالي وكيلا لوزير الخارجية بسبب دينه.
وما هي مصادر شعبية اليسار المصري الجديد؟
المعطيات المتوافرة لدي، وهي غير كاملة بالتأكيد، تشير إلى أن قادة الشباب هم متعلمون من أبناء الطبقات المتواضعة أو الوسطى، تخرجوا باستثناء واحد، من جامعات مصرية، سافروا إلى الغرب وتعاطوا مع مجتمعاته: حامد سعيد قائد العدالة حركة العدالة والحرية التي يشير البعض إلى أنها كانت نواة الثورة، خريج كلية هندسة حلوان وابن عامل نسيج، عمره 25 سنة، محمد سامي القيادي في حركة 6 أكتوبر إبن ميكانيكي سيارات وخريج كلية التجارة في جامعة عين شمس، شادي الغزالي حرب إبن أخ أسامة الغزالي حرب قائد حركة الشباب في حزب الجبهة الشعبية، جراح تدرب في لندن وعمره 32 سنة، محمد عباس من قادة الشباب في حركة الأخوان المسلمين، خريج كلية إدارة الأعمال في جماعة القاهرةـ، عمره 26 سنةـ وائل غنيم الذي أطلق الدعوة للثورة عبر الإنترنيت خريج جامعة القاهرة، تربّى مع والديه في الخليج مما يعني إنه ينتمي إلى طبقة وسطى، وتبقى أسماء الشهيرة التي كل ما يتوافر لي من معلومات عنها إنها كانت تدرس في مدارس أجنبية في مصر.
هل يكفي ما سبق للقول بأن اليسار المصري ال"جديد" مختلف عمن سبقه من جهة وسيكون أساسا لتيار جماهيري ليس مطلوبا أن يتزعم الحركة الشعبية بل أن يلعب دورا مؤثرا ونافذا في الحياة السياسية من جهة أخرى؟
لا أعرف!! فما أكثر الحركات الجماهيرية التي غرقت في إغراءات السلطة والنفوذ الذي تتمتع به إثر ذلك. وما أكثر من بدؤا من أصول من إصول متواضعة وخضعوا لاحقا لإغنية الراحل الشيخ إمام: يعيش التنابله في حي الزمالك/ وحي الزمالك مسالك مسالك.
لأني لا أخفي انتمائي لليسار العصري وتضامني مع يسار مصر الجديد، أضع يدي على قلبي!!!