أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- الرواية التي مُنعت في بعض الدول. ج (2)















المزيد.....

-خريف الكرز- الرواية التي مُنعت في بعض الدول. ج (2)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6547 - 2020 / 4 / 26 - 16:14
المحور: الادب والفن
    


( 2 )

إنْزَلقَت تترنح من نسمة هواء أعلى السماء تتنفس مع خيوط الضوء الصفراء المشبعة بالهواء الساخن المحمل بالغبار، ريشة وحيدة رمادية اللون هائمة على وجهها الواهن، قد تكون لطائر حمام برونزي تاه ينعي متاهته، أو لطائر سمان هائم على وجهه خرج عن السرب عند الغروب وحملته إحدى البواخر التجارية القادمة من شرق المتوسط لجهة الخليج، تراقصت تلك الريشة التائهة برشاقة على ضوء المساء الداكن تتحدى السقوط على الأرض كأنها ريشة بجناحين يتخللها الهواء من جهة الشمال لتظل تسابق الريح، في ذات اللحظة الساكنة بالصمت المطبق على الطريق الرملي الباعث على الغبار البني الخانق، احتضن الممر المتفرع عن الطريق ذاته المشوب بالحفر والمطبات وروائح البهارات الخارجة من فتحات النوافذ الخشبية للبيوت القديمة المتصدعة، فتاة آتية بدت للوهلة الأولى كعابرة سبيل، اختلطت روائح العرق المتسللة من أجساد المارة بعبق الطبخ المسائي وفاحت أبخرته في الفلاء معلنةً وقت العشاء الليلي الذي دأب سكان الحي عليه كل ليلة عند هذا التوقيت الزوالي، الصمت والهدوء والعتمة تطبع المكان بسكونٍ شامل يعلن كأنه نهاية الكون.
أقدام صغيرة يدب وقعها على الأرض، لصبية شابة تقارب السابعة عشر شتاءً، ذات بشرة خمرية اللون طرية المظهر، وقوام متناسق الطول يميل للنحافة، ولكنه مكتنز عند الردفين والفخذين، وعينين واسعتين رماديتين تفوح منهما نكهة البحر، ظلت تسير على إيقاع ضوء المساء الأصفر الساطع من بقايا الشمس المستسلمة للأُفول، بينما ظلت الريشة المحلقة في الفضاء يداعبها التيار الساخن لهواء الشمال القادم من جهة الساحل البحري لجنوب المحرق يسابق ظلها وتحوم في دوائر حلزونية تتمرغ في الهواء ليسكبها على رأس الفتاة، لمحتها تطير فوقها كأنها تدعوها للتحدي فيما شذرات من تراب باقٍ على أطراف ضفائرها البنية اللون، بدت وهي تقطع الطريق ينتابها قلق شرس انْعكس على خطواتها المتلاطمة كموج يضطره التيار للانحراف والتلوي، لا وجود لبشر على الطريق وكأنه وقت الاخْتباء، لا إنس ولا جن إلا من بضعة عصافير صغيرة كالحة اللون تسبح في الفضاء، يقتحمها طائر الخطاف الرشيق وهو يشق الخلاء بانسيابية فجة تميزه عن بقية العصافير، كانت هذه الطيور وحدها في هذا التوقيت ما قبل العتمة تكسر رتابة اللحظة التي تشبه توقف الأشياء عن الحركة من دون أن يتوقف الزمن في هذا الحي الذي يشبه رقعة مقتطعة من مساحة القمر، عندما يتسع قرصه المضيء في بعض الليالي المقمرة.
صفير الريح يختلط بصرير الباب الخشبي الكبير ذي اللون البني الملطخ ببقع بيضاء وصفراء نتيجة القدم وتسرب الرطوبة إليه وهو يفتح في وجه الفتاة المسرعة بالولوج دون حتى إلقاء التحية على المرأة الصدئة التي اسْتقبلتها بفظاظة وهي تغلق الباب خلفها، فينزع لإطلاق صوت كأنه منشار يركض في لوح صلب، يختفي مع هرولة المرأة السمينة البيضاء كالحليب ذات الأربعين عاماً وقد برزت رقعة خضراء على طرف خدها الآسر بمحاذاة فمها، عبارة عن وشم عراقي النكهة، تبعتها الفتاة الصغيرة عبر فناء ترابي يتوزع على جانبيه عددٍ من الغرف تتوسطها صالة كبيرة مفروشة بسجاد أعجمي قديم وتضم كنبة محشوة بالقطن مُدَعمة بأطراف جدارية ذات نقوش اسلامية مطرزة بصورة كبيرة لطائر الطاووس بدا عليها القدم، تهترّأت حوافها بشدة لمضي عدة سنين عليها ولكثرة الاستخدام. وعلى الجانب المقابل ظهر حاجز خشبي يفضي إلى الصالة الوسطى الفاصلة عن بقية الغرف على الجانبين، طُلي باللون الأسود وفي أعلاه ظهرت قطعة قماش وردية اللون تحجب الرؤية عندما تنسدل على الحاجز اللولبي لتسمح برؤية الداخل والخارج من الغرف لدى إسدال القماش، عَبَرَت الفتاة الصغيرة الخمرية اللون الحاجز نحو الغرفة الثالثة الواقعة في الوسط وأُغلق وراءها الباب وظلت المرأة الأربعينية البيضاء تتلفت من حولها كما لو أنها تخشى سقوط نيزكاً فوق رأسها من الأعلى، سرعان ما فُتِح باب الغرفة الأولى في الطرف الآخر من غرف المنزل الواقعة بالطابق الأول ليخرج صبيٌ بدا من وجنته الوردية لم يتجاوز السابعة عشرة، أبيض البشرة، حاد الملامح، شهابي العينين، يرتدي بذلة مخططة بنية اللون وقميصاً أبيض واسعاً، وقد بدا على سماته الوجاهة رغم صغر سنه، راح يتلفت حوله من دون أي حرج أو ارْتباك مما يدل على اعْتياده المكان، وقف عند الحاجز محملقاً في وجه المرأة التي أفاقت على وقع صوته الجهوري قائلاً بنبرة تهديد لا تتناسب مع مظهره الرقيق وعمره.
- لا أُريد أن تكبر المشكلة ويصغر عقلك يا دلال، فالمشكلة لا تكبر إلا إذا كانت عقولنا صغيرة.
أطالت النظر في وجهه المتورد الذي بدا عليه الفجور وبادرته قبل أن يسترسل مرة أخرى بالكلام.
- أُذكرك أن من يصفعك اليوم، سيعشقك غداً، سامحها، من أجلك جلبتها من حُضْن زوجها الذي لم يمر على زواجه منها سوى شهرين لتكون في حضنك الليلة، ماذا تريد أكثر؟
تأمل وجهها المشوب بندوب صغيرة عند حافة الذقن وعينين بارزتين، ورد عليها هذه المرة بنبرة تحمل شكوى ومرارة.
- خانتني العاهرة مع الإنجليزي المحتل، لا تملك حتى شيء من وطنية، فهي تكشف بتعريها له وتركه يغتصبها نيتها على خيانة بلدها.
فوجئ بها تنفجر بنوبة من الضحك، تحولت لقهقهة تدريجياً إلى أن انتهى بابتسامة مقتضبة تلتها قائلة وقد تغير صوتها بعد نوبة الضحك.
- صباح العاهرة تقي أفندي، الإنجليز مصدر رزقنا تقي والكلب الذي في فمه عظمة لا ينبح تقي أفندي، جوري نعم العاشقة، لكنك لم تقدرها وما زال بطنها متورماً مما فعلته بها مع رعونتك الصبيانية، ورغم ذلك جاءت اليوم في طلبك.
نفض عن كتفة الغبار ورفع رأسه للأعلى يتفحص غرف الطابق الأول من الدار ثم عاد موجهاً الكلام نحوها هذه المرة بتمهل ينم عن مجاملة.
- أكره الإنجليز.
ردت مبتسمة رغم ما بدا على ملامحها من نفاد الصبر.
- غداً ستحبهم عندما تتعامل معهم، غير مبادئك تقي حتى تتغير عاداتك مع البنت، لا تذلها من أجل المال.
دنا منها تقي وأخرج من جيبه ورقة نقدية ووضعها في يدها وصاح بصوت أجش محتداً.
- دلال، أَنْتِ خوش قوادة لكن جوري مو خوش عاهرةً.
فيما هما يتجادلان، تناهت أصوات جلبةٍ من خلف الستار لأصوات فتيات، تركته واقفاً بجمود وهرعت نحو الغرفة الوسطى، فتحت الباب واقتحمت المكان، كانت الغرفة مطلية باللون الأصفر، اتجهت محتدة وهي تصرخ في وجوه ثلاث نساء متوسطات العمر رِحْنَ يتشاجرن بحدة على قطعة قماش، أمسكت اثنتان منهن بطرفي القطعة فيما سدت الثالثة الطريق عليهما، تدخلت دلال بينهما وانْتزعَت القطعة وصفعت الأولى على وجهها وركلت الأخرى على مؤخرتها قائلة بنبرة حادة لا تخلو من تهديد وإذلال.
- لا شيء يفسد السوس إلا الصدأ وأنتن ألْعَن من الصدأ، أين جوري؟
حاولت الفتيات الرد معاً فسارعت المرأة بحركة عصبية من يدها اليمنى ملوحة بها في الهواء.
- اخرسن، واحدة منكن تنطق والبقية يأكلن تبن، أين اختبأت جوري؟ طاهرة أَنْتِ تكلمي.
تقدمت طاهرة، فتاة بيضاء كالزبدة المحلية، تدلى شعرها الأسود فوق جبهتها الواسعة وبرزت عيناها جاحظتين تدلان على أرق طويل مرت به، ردت على سؤال دلال القوادة بلكنة فارسية.
- تبكي في الغرفة الزرقاء حالما سمعت صوت تقي أفندي في الفناء، يا عيني عليها لم تأكل منذ..
- نطقت طاهرة تقي بحرف النون، فيما قاطعتها دلال بحدة وهي تومئ لهن بالابتعاد عن بعضهن، وقبل أن تخرج التفتت فجأة نحوهن لتجد الاثنتين عادتا وأمسكتا بقطعة القماش، وحينها القيتا بالقطعة على الأرض حين لمحتا الغضب يتطاير من عيني المرأة التي خرجت وقد تركت عينيها المتقدتين بالشرر في المكان.
عادت للشاب الذي توجه نحو الشرفة الأرضية المطلة على الفناء وراح يدخن سيجارته وينفث دخانها في الهواء متأملاً السماء التي بدت معتمة مع اختفاء قرص الشمس من الأفق، إلتفتَ نحوها وبادرها قائلاً.
- حين يزداد الظلام لا أرى المصابيح مشتعلة وهذا إعلان عن نبأ ما لديك في العمارة.
- لم يأتِ زيت المصابيح بعد.
عادت وهذبت من لهجتها وتعمدت جعلها أرق وهي تشير بيدها لداخل المنزل قاصدة الفتاة جوري.
- إسمع تقي، جوري ما زال شراعها مغسولاً ومتألمة مما جرى لها ولن تشبعك الليلة وهي مجروحة، ادخل ولاطفها وداعبها ولكن لا تبحر فيها، تعال بعد يومين أوضبها لك وستدخلك الجنة.
شفط السيجارة حتى نهايتها وقذف بها إلى الفناء من النافذة عبر الشرفة الخارجية.
- خلافي معها سببه الإنجليزي العاشق، لتضاجع من تضاجع لكن لا تعمل عاشقة مغرمة مع المحتل.
تنهدت ومطت شفتيها وقالت بنبرة فقدان الصبر.
- يا تقي، لا جنة تريد دخولها ولا جهنم تعجبك، احْترت معك، تزوجها إذا ما كنت تُغِير عليها، لا تجعلها كالماء المالح كلما شربت منه ازْددت عطشاً، ويلاه منك تقي.
في الأفق بدأ الظلام يخيم على المنزل ذي النوافذ الخشبية ولاح بصيص ضوء شاحب انْبعث من إحدى النوافذ العليا، رفعت دلال رأسها تنظر للأعلى فيما سار الشاب نحو الخارج يُطْبق عليه الصمت، وفيما هو يهم بفتح باب الخروج لمح وجه امرأة تطل من نافذة جانبية تلوح له بيدها، لم يتمكن من تلمس ملامحها في العتمة، ابتسم وهو يدرك أنها لن ترى ابتسامته، خرج متمتماً وأطلق لقدميه العنان.



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خريف الكرز- الرواية التي مُنعتْ في بعض الدول. ج (1)
- ماذا يحصل عندما تقود الحملان الأسود؟؟!
- الحرب القادمة بين عالمين...
- حب محرم - من رواية الخراف الضالة...
- رسالة من العتمة (........) يسرا البريطانية
- بحر الشهوات مقطع من رواية -قمر باريسي-
- خريف سنمار الإخباري
- ثقافة الأفيال الضالة؟ رؤية ضد تيار المقاطعة!
- هل تعود الشيوعية إلى أوروبا من باب الكورونا؟
- من رقصة أخيرة على قمرٍ أزرق
- مافيات عربية تغتال الأدباء...
- أزمة الرواية العربية... كشف المستور... ‏جوخة الحارثي نموذجا
- العمل المنزلي في زمن كورونا
- حجرُ النهاية
- العالم يتضامن في وجه الحرب العالمية على كورونا
- في الحجر الثقافي...!
- الفرق بين الله والشيطان أن الله يسأل والشيطان يجيب...
- عربيًا فقط - موت الرواية؟ أم نهاية القارئ؟
- لص القمر سنمار الإخباري
- انتحار الرواية!


المزيد.....




- بعد أنباء -إصابته بالسرطان-.. مدير أعمال الفنان محمد عبده يك ...
- شارك بـ-تيتانيك- و-سيد الخواتم-.. رحيل الممثل البريطاني برنا ...
- برنامج -عن السينما- يعود إلى منصة الجزيرة 360
- مسلسل المتوحش الحلقه 32 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- -الكتابة البصرية في الفن المعاصر-كتاب جديد للمغربي شرف الدين ...
- معرض الرباط للنشر والكتاب ينطلق الخميس و-يونيسكو-ضيف شرف 
- 865 ألف جنيه في 24 ساعة.. فيلم شقو يحقق أعلى إيرادات بطولة ع ...
- -شفرة الموحدين- سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- الحلقة 23 من مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة الثالثة والعشرو ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- الرواية التي مُنعت في بعض الدول. ج (2)