|
غابرييل غارسيا ماركيز ... و ريح شقاء ايرينديرا
مصطفى العوزي
الحوار المتمدن-العدد: 2870 - 2009 / 12 / 27 - 19:12
المحور:
الادب والفن
" كانت ايرينديرا تحمم جدتها حين هبت ريح شقائها " هكذا تبتدئ رواية " إيرينديرا البريئة " للكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز ، فاسحة المجال نحو أفق تطلع مفتوح يمكن معه للقارئ أن يرسم نهايات متعددة وفق ما توجه له حالته النفسية و كذا سعة خياله ، تحكي الرواية قصة فتاة قاصر تعيش رفقة جدتها المتسلطة ، هذه الأخيرة تمارس قسوة زائدة عن اللزوم على حفيدتها إيرينديرا ، و التي حدث أن نشب مرة حريق مهول بالخيمة التي تقيم فيها مع جدتها مما أتى على كل ما تملكه الجدة و حفيدتها ، فكان أن قررت الجدة جر حفيدتها لامتهان البغاء حتى تتمكن من تسديد ما خلفه الحريق من خسائر ، و منذ تلك اللحظة و إيرينديرا تعيش حياة شقاء و تعاسة ، تتوزع بين تلبية رغبات طابور طويل يصطف كل يوم أما الخيمة ، مقدمة لهم خدمات جنسية بأثمان تقديرية تبث في قيمتها جدتها التي أصبحت لها مهام المشرف عل تنظيم لقاءات المتعة الجنسية هذه ، يساعدها في ذالك بعض الهنود الذين استعبدتهم الجدة بأثمان زهيدة ، و فوق ذالك و كلما نحت الشمس نحو المغيب ، و انتهت إيرينديرا من خدمة زبناء المتعة ، إلا و طلبت منها جدتها القيام بأعمال منزلية عديدة من طبخ و غسيل و تنظيف علاوة على تحميم جدتها ذات الجثة الضخمة . تعرفت إيرينديرا على شاب هولندي في مقتبل العمر كان يعمل رفقة والده مهربا للحلي ، و معه بدأت تنسج خيوط علاقة غرامية ستقرر معها و معه مرة الهرب خارج حدود الوطن ، لتبوء المحاولة بالفشل و تعود إيرينديرا للخدمة الجنسية ، لكن هذه المرة مكبلة بسلسلة حديدية مع سريرها حتى لا تفكر في الهرب مرة أخرى . و بين الممارسات الوحشية للزبائن الجشعين وهول العيش في كنف الجدة القاسية تنموا إيرينديرا شكلا و جوهرا ، و ينموا معها في المقابل حب الفتى الهولندي و الرغبة من الإنعتاق و مطالعة شمس الحرية ، الأمر الذي لن يتأتى إلا بقتل الجدة و هو ما ستقدم عليه إيرينديرا و الشاب الهولندي ، لكنها و بعدما رأت جدتها غارقة في دماء موتها الناجم عن طعنات الشاب القاسية ، هربت مسرعة في اتجاه الشاطئ و بعدها غابت عن الأنظار ، لتنتهي الرواية مستفسرة عن المآل كما صوره غارسيا ماركيز بقوله أنه لم يعرف لإيرينديرا أثر بعد ذالك . تندرج هذه الرواية ضمن ما يعرف بالرواية القصيرة و هي شكل نثري و روائي تحديدا يقتصر على شخوص و فضاءات و أحداث محدودة ، لكنه يمتز بغنى المواقف الإنسانية و بجمالية الحكي النابعة من قوة الاختزال و عناصر التكثيف ، علاوة على اعتماد هذا الصنف من الرواية على القصة الواحدة دون تعدد القصص كما هو الشأن بالنسبة للرواية الطويلة ، و قد اعتمد غارسيا ماركيز هذا الشكل في روايات أخرى نذكر من بينها الرواية التي صدرت له سنة 2004 ( ذكرى عاهراتي الحزينات ) . على المستوى الفني تطبع الرواية كباقي أعمال غابرييل غارسيا ماركيز ، خاصية الواقعية السحرية ، و هي التقليد الأدبي الذي دأب ماركيز الكتابة وفقه ، سيما و أنه يعد رائد المدرسة الواقعية السحرية التي تشتهر بها الأعمال الأدبية بأميركا اللاتينية . مرة أخرى و كعادته يأبى غابرييل غارسيا ماركيز إلا أن يكون متميزا ، في كتاباته و اختياره للمواضيع ، فبعد قصة الحياة و النشوء و نهاية العالم التي تضمنتها رائعته العالمية " مئة عام من العزلة " ، و بعد قصة الحب و الموت كما جسدتها رواية " الحب في زمن الكوليرا " ، هذه المرة كان الموعد مع قصة الطفولة و براءة المرحلة الصبيانية ، و مدى الجرم الذي يعترضها وسط مجتمع يقدس اللحظة الذاتية على حساب لحظات الأخريين . غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب عن مجمل أعماله مع التنويه الخاص الذي حظيت به رواية " مئة عام من العزلة " ، قرر مؤخرا و تحت وقع المرض و بلوغه من الكبر عتيا ، التوقف عن الكتابة خاتما مساره بالسيرة الذاتية الرائعة التي بيع منه الملايين و التي اختر لها كعنوان " عشت لأرو ي" . نعم غابرييل غارسيا ماركيز ما عشت إلا لتروي ، في ظروفك الصحية الحرجة الآن لا يسعنا إلا أن نتمنى لك صحة جيدة و بقية في العمر ، لأنه بعد الموت لن تروي ، ساعتها سنشتق للرواية .
#مصطفى_العوزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جامعة ... و دورة إستدراكية
-
الهجرة الى أين ؟
-
جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الفقيه داود التأهيلية بالمضيق و رس
...
-
الاسلام و ظواهر المجتمع ( 4 )
-
الاسلام و ظواهر المجتمع ( 3 )
-
الاسلام و ظواهر المجتمع ( 2 )
-
الاسلام و ظواهر المجتمع ( 1 )
-
موسم الهجرة الى أصيلة
-
غابرييل غارسيا ماركيز ... على خطى الرواية و التقشف
-
جنون و حرائق و سهول
-
العالم الثالث و فن الانتقام
-
العربية ... اللغة و العصر
-
لماذا تقدم الغرب و تاخر الشرق
-
سيجارة مارلبورو
-
الحلوة دي في قفص العولمة
-
هل نحن مجتمع قارئ ؟
-
المرأة : الضحية الاولى للعولمة
-
ستظل الخطيبي في الذاكرة موشوما
-
لصوص دون كيشوت و انتهاكات حقوق الانسان
-
رحلة
المزيد.....
-
الشعر في أفغانستان.. ما تريده طالبان
-
أكثر من 300 لوحة.. ليس معرضا بل شهادة على فنانين من غزة رحلو
...
-
RT العربية توقع اتفاقات تعاون مع وكالتي -بترا- و-عمون- في ال
...
-
جامع دجينغاربير.. تحفة تمبكتو ذات السبعة قرون
-
حملة ترامب تطالب بوقف عرض فيلم -ذي أبرنتيس- وتتهم صانعيه بال
...
-
ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي
-
فنانو مسرح ماريوبول يتلقون دورات تدريبية في موسكو
-
محاكمة ترامب.. -الجلسة سرية- في قضية شراء صمت الممثلة الإباح
...
-
دائرة الثقافة والإعلام الحزبي تعقد ندوة سياسية في ذكرى النكب
...
-
كراسنويارسك الروسية تستضيف مهرجان -البطل- الدولي لأفلام الأط
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|