لا يوجد عراقي واحد على الإطلاق يقبل بأن يبقى الاحتلال في العراق فترة أطول مما يجب، ولا أعتقد إنه من مصلحة الأمريكان والبريطانيين البقاء أيضا. ولكن
خروج الأمريكان المبكر معناه، إنه سيترك وراءه كل أعداء الأمس من بقايا النظام البعثي المنهار، وكذا كل الذين أرسلت بهم دول الجوار من سقط متاع ليحاربوا باسم الدين، يحاربون العراقيين قبل الأمريكان، من سلفيين وأصوليين (مرتزقة الدين) ينتمون لأحزاب أصولية عربية وإسلامية، ساهم بذلك دولا لها مصلحة بعراق مفتت غير مستقر، وذلك من أجل تحقيق مصالح إقليمية معينة ضيقة وحتى واسعة، كل هؤلاء ومن هو مازال يكمن تحت الأرض متربصا لفرصة أفضل فينهض، هذا فضلا عن باقي الأوراق الخبيثة لدول أكثر دهاء في الجوار يحتفظون بها لكي يلعبوها في الوقت المناسب. فلو ترك العراق الهش أمام كل هذه التيارات العاتية يصارع لوحده، فإنه لابد سينهار من الضربات الأولى لكل هذه الأيدي المتربصة به، وحتى حسني مبارك قد أدرك حقيقة، مفادها، لو انسحبت قوات التحالف من العراق الآن، فإن ذلك يعني حربا أهلية ستكون في العراق. بالرغم من أن الرئيس المصري قد أدرك هذه الحقيقة متأخرا بعض الشيء، ولكن وجدت لزاما علي أن أستشهد بها لقذارة الدور الذي لعبته مصر منذ أن بدأت نذر الحرب على العراق تشتد وتأكد الجميع من إنها واقعة لا محالة. ومازالت مصر مستمرة بذلك الدور، فرجل مصر في الجامعة العربية، عمرو موسى، لا يدري لحد الآن ماذا فعلت سوريا وكيف ساعدت على الإرهاب في العراق!
هذه الإشكالية الكبيرة التي نواجهها اليوم كعراقيين، وذلك من خلال حالة من الإبهام بفهم ما يجري على الساحة العراقية، هذا ما يجعل من الكثيرين يعيشون حالة من الإحباط وحتى التراجع عن المواقف التي اتخذوها، هذا فضلا عن الأعراس الإعلامية التي تقيمها الصحف والفضائيات العربية الغبية لما يجري هذه الأيام من مستجدات ذات أهمية بالغة.
لم يكن كيسنجر يسخر حين بين ما معناه إن الإستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب باختصار هي ""إن على الولايات المتحدة أن تهيئ الظروف الموضوعية للإرهاب كي يطفو على السطح فتحاربه وأن لا تنتظر ظهوره فتحاربه"". إن الإرهاب وكما يفهمه المخطط الأمريكي، كالعوالق في المياه الراكدة، لا يمكن أن تراها إلا إذا تحركت المياه لتثير ما ترسب في القاع.
وهذا ما تفعله الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب في العراق الآن. وهذا له من الإيجابيات والسلبيات في آن واحد، فالإيجابيات هو إجبار اللاعبين على إن يلقوا بكل أوراقهم مهما كانت كبيرة ومثيرة، وإن لا يبقوا واحدة لكي تلقى على الطاولة في آخر لحظة، كل الأوراق يجب أن تلقى الآن وليس في المستقبل، وهذا مهم جدا بالنسبة للعراقي الذي يطمح بوطن حر ديمقراطي مستقر سياسيا واقتصاديا في المستقبل، وأن لا يبقى كما المريض الذي يعاني من مرض عضال لا يدري متى سيقضي عليه، ومن ناحية ثانية، وكنتيجة لمثل هذه الإستراتيجية، فإن الضحايا ستكون كثيرة والثمن غال جدا علينا، نحن الذين أنهكتنا السنون وهوان الدكتاتوريات المتعاقبة والتي كان ختامها البعثية الأسوأ من الفاشية التي عاثت في الأرض فسادا لثلاثة عقود ونصف.
نعم، لقد تعبنا ولكن ثمن الحرية دائما من أغلى الأثمان.
إن الهدف من كل ما نراه من أعمال الإرهاب والتخريب في العراق، هو إنهم يضنون إن الأمريكان سيخرجون من مجرد تفجير أنبوب النفط أو قتل جندي بلغم. هذه هي الأوراق الصغيرة التي تلقى على الطاولة، فلا الأمريكان سيرحلون خوفا منها ولا العراقيين يجدون فيها ما هو غير طبيعي فيواجهون ويتحدون بإصرار.
أو حين ستميتون في الأمم المتحدة من أجل إجبار الولايات المتحدة من أجل وضع جدول زمني للانسحاب، بالطبع كل هذا متزامنا مع تصعيد لتلك الأعمال التخريبية والإرهابية، بهذه الوسيلة وتلك سيرضخ الأمريكان للضغوط وهكذا سيضعون ذلك الجدول الزمني وينسحبون تنفيذا لرغبتهم. أي غباء سياسي هذا!!
وهكذا صدر قرار مجلس الأمن بالإجماع بقبول النسخة المعدلة كما يظنون. في الواقع، كان الأمر مختلف تماما، وهذا ما عبرت عنه الإدارة الأمريكية من إنهم سوف لن يتركوا العراق إلا وهو قادر على الدفاع عن نفسه، وهذا ما نريده نحن العراقيين مهما غلى الثمن، حتى وإن كان بإطالة أمد الاحتلال قليلا.
ما السبب من وراء المحاولات لدفع الأمم المتحدة لاستصدار قرار يحدد جدول زمني لانسحاب قواه الاحتلال؟ رغم إنها حلم غير قابل للتحقيق قبل أوانها، ذلك الأوان الذي يحدده العراقيون قبل الأمريكان، إلا إنها تعني الكثير، فلو حدث ذلك بغفلة من الزمن، وانسحب الأمريكان من العراق قبل أن يحققوا ما عبروا القارات من أجله ورهنوا مستقبل أمريكا السياسي والاقتصادي به، فإنه سيعني إن المتربصين بالعراق سيضعون من جانبهم جدولا زمنيا آخر لغزو العراق بعشرات المؤامرات وكل أنواع الإرهاب الممكن تصديرها للعراق، ذلك العراق الهش الجديد الذي يسهل انهياره تحت وطأت مؤامراتهم ومن سيرسلونه ليعزز الإرهاب في العراق، مستفيدين من تجربة هذه الأيام التي نعيشها الآن، ليكون التخطيط محكما والموت زؤاما والدماء أغزر من الفراتين. كل ذلك من أجل أن يثبتوا لشعوبهم إن الديمقراطية، تلك التي تقض مضاجعهم ليل نهار، غير ممكنة لمثل دولنا العربية والإسلامية. ومن ناحية أخرى ستكون فرنسا أقرب من أي وقت مضى من تحقيق حلمها الخالد بامتلاك ولو شيئا من نفط العراق، وتركيا ستكون قد اقتربت من تحقيق حلم كمال مصطفى أتاتورك وإيران ستجد ولاية جديدة للفقيه أقرب إليها من هدب العين، والعرب العروبيون الذين يزدادون غباء يوما بعد يوم، والعياذ بالله، سيضيعون الفرصة بالتوسع نحو أراضي العراق، وذلك كعادتهم بتضييع الفرص الذهبية على مر التاريخ، وسيضعون اللوم على أمريكا التي لم تنسحب لها في الوقت المناسب، ولكنها انسحبت عندما كان الوقت مناسبا لغيرها، وربما سيكون السبب هو إن العرافين وقراء الفنجان لم يكونوا صادقين بما قالوه من نبوءات جاءتهم من بواطن علم الغيب والجن المسخر لعرافيهم.
الغريب، إنهم يستميتون من أجل محاولات لا يقرها القانون الدولي بعد صدور القوانين التي تنظم المسألة من مجلس الأمن والتي وافق عليها جميع أعضائه في وقتها.
إن واجب الحكومة الانتقالية ومجلس الحكم الانتقالي هو تهيئة الدستور للاقتراع عليه وإجراء انتخابات لاختيار ممثلي الشعب وتشكيل البرلمان العراقي الشرعي الجديد، وإجراء انتخابات أخرى من أجل اختيار حكومة ورئيس وإقامة جميع مؤسسات المجتمع المدني، وبحيث يكون الجيش والقوات المسلحة العراقية قادرة تماما على حماية مكتسبات الشعب تلك، وذلك بظل قوانين تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وقضاء مستقل وعادل، آن ذاك فقط، يكون من حق البرلمان والحكومة العراقية المنتخبة أن تطلب من الاحتلال أن يترك العراق ويجلي قواته مشكورا، بحيث يكون ممثلي الشعب العراقي الشرعيين متأكدين من أن الوضع السياسي مستقر وليس هناك أي تهديد للإخلال بالأمن.
لهذا السبب، ليس هناك إمكانية لوضع جدول زمني للانسحاب في الوقت الحالي من قبل مجلس الحكم الانتقالي والحكومة الانتقالية وليس من حقهم أن يفعلوا ذلك على الإطلاق، كما أسلفنا.
اسقط بيدهم جميعا وعادوا خائبين من الأمم المتحدة التي كانوا يعولون عليها، وكل ما فعلوه هو إرهاب وقتل للشعب العراقي وتخريب لبناه التحتية وإخلال بالأمن.
إن حرب العصابات التي يديرها فلول النظام البعثي المنهار والسلفيون من الإسلاميين والمرتزقة العرب ليست هي كل ما يريد له كيسنجر والمخططين الأمريكان من جبهات لمحاربة الإرهاب، فهناك مازال الكثير من العوالق في المياه التي كانت راكدة ويجب أن تنقى قبل الجلاء.
فالضغوط عل إيران وسوريا من قبل الولايات المتحدة المتزامنة مع عمليات محاربة الإرهاب في العراق بعد أن أصبح الجبهة المركزية له، بحسب التعبير الأمريكي، ليست إلا مزيدا من إثارة ما ترسب من عوالق في القاع أو محاولة للضغط من أجل إلقاء الأوراق الأقوى على الطاولة، وخصوصا من قبل الذين تسميهم الولايات المتحدة محور الشر، وهم بالفعل كذلك.
بعد أن تكون تلك العوالق قد طفت على السطح، لم يبقى إلا محاربتها، فلو تركت كما هي مترسبة في القاع، سوف لن يكون العراق قادرا على مواجهتها يوم يقف لوحده أمام قوى الظلام هذه، والتي لا تعرف أن تعمل شيء سوى حياكة المؤامرات وتصدير الإرهاب الحقيقي لدول الجوار، وكذا الحال لكل من يحاول أن يأخذ من يدها السوط الذي تلهب به ظهور شعوبها، ومن يفعل ذلك، عليه أن يتحمل النتائج.
وها هي الورقة الأقوى، التي لا أعتقد إنها ستكون الأخيرة، بيد الإيرانيين يلقون بها على الطاولة قبل الأوان، على الأقل، قبل الوقت الذي كنا توقعه. تلك هي ورقة مقتدى.
بالفعل، فهذه هي الورقة الأقوى منذ سقوط الطغيان ولحد الآن، وهي التي تحمل معها نذر الشر المستطير الذي كان يقاتل من أجله كل الطائفيين ومثيري الفتن ودول الجوار ومن له مصلحة غير مشروعة في العراق، اتحدوا جميعا، منذ اليوم الأول لسقوط النظام البعثي وراحوا يعملون باستماتة من أجل أن تتوسع دائرة ما يسمونه بالمقاومة إلى مناطق أخرى من العراق، وها هي إيران تقدم هذه الهبة لهم على طبق من ذهب، ظنا منها إنها ستشل حركة العراق نحو بناء مستقبله وتحقيق مشروعه الذي ناضل من أجله مدة تسعون عاما.
إن هذه الورقة الخائبة لن تستطيع أن تفعل شيئا، أو أن تعيش كما عاشت واستمرت أعمال التخريب والقتل على أيدي بقايا النظام السابق، ذلك لأن البيئة التي تحتوي هذه الجهة هي غير البيئة التي احتوت ومازالت تحتوي فلول النظام المقبور ومن انضم إليهم، فليس للعراقيين مصلحة بما يفعل السيد مرتضى وأتباعه، وسيجد العراقي من يجعل هؤلاء يستفيقون من الغفلة التي هم فيها ويثوبون إلى رشدهم.