أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - مازن لطيف علي - فارس كمال نظمي : قراءة سيكولوجية في أنماط الشخصية العراقية الحالية















المزيد.....

فارس كمال نظمي : قراءة سيكولوجية في أنماط الشخصية العراقية الحالية


مازن لطيف علي

الحوار المتمدن-العدد: 1944 - 2007 / 6 / 12 - 12:22
المحور: مقابلات و حوارات
    


حاوره : مازن لطيف علي
الهوية الاجتماعية بكل أشكالها الفرعية: الوطنية، والعرقية، والدينية، والطائفية، والأسرية، هي بدءاً ضرورة تكيفية ونتاج حتمي لرغبة الفرد بالانتماء لكينونة اجتماعية ما، يستمد منها شعوره بالأمن والمكانة والاحترام، حتى في حالات غياب التنافس بين الجماعات الاجتماعية المتجاورة. كما إن متانة الهوية الوطنية لدى جماعة معينة لا يتناقض بالضرورة مع وجود هويات فرعية متعددة لدى تلك الجماعة، بل قد تنشأ حالة من التكامل بين البعدين الوطني والديني للهوية الاجتماعية مثلاً، كما هو الحال في المجتمع الأمريكي الحالي..هذا ما يؤكده
فارس كمال نظمي: اختصاصي علم نفس الشخصية وعلم النفس الاجتماعي بجامعة بغداد، والعضو المؤسس للجمعية النفسية العراقية في حوارنا معه.


كثير من النظريات حول شخصية الانسان العراقي ترى أن التراكم الحضاري كفيل ببناء ارث اجتماعي عظيم، لكن ما يظهر على السطح يثبت عكس ذلك، فالتشظي والدمار الذي لحق بالعراق يتحمله الفرد العراقي ضمن المنطق الجمعي للمفردة .ماهو موقفكم من هذا الرأي ؟

- اختلفُ جوهرياً مع مقولة ان الفرد العراقي مسؤول كلياً عما لحق ببلاده من تشظي و دمار. فكل مجتمع بشري يتعرض لأزمة وجود ومصير عميقة، لا بد أن يصنف من الناحية السيكولوجية إلى أنماط متنوعة بل ومتناقضة أحياناً من الشخصيات السائدة فيه، ولا معنى لتعميم نمط واحد من الشخصيات على كل أفراده. وبمعنى أدق، إن المجتمع بمعناه السوسيولوجي هو المصنع التأريخي لأنماط متباينة ومتنافسة من الشخصيات الاجتماعية في لحظة زمانية معينة. فما الذي يحدث اليوم في مجتمعنا العراقي؟
استطيع القول، وباختزال مقصود لأغراض الحوار والبحث (مستثنياً من هذا التحليل "الشخصية العراقية المقاومة" سواء تلك التي كافحت ضد الفاشية السابقة أو تكافح اليوم ضد الاحتلال الأجنبي والظلم الاجتماعي بشتى أنواع الكفاح)، إن مجتمعنا بات يتألف من شخصيتين رئيستين: "شخصية هدمية عدوانية"، و"شخصية بناءة مسالمة"، دون تجاهل حقيقة أن كلا هاتين الشخصيتين لها شخصياتها الفرعية العديدة.


هل يمكن رسم خارطة سلوكية للأدوار الاجتماعية التي تضطلع بها هاتان الشخصيتان؟

- تبلورت "الشخصية العراقية الهدمية" تدريجياً خلال نصف قرن من الانقلابات والاستبداد والحروب والاحتلال، بوصفها نتاجاً مباشراً للفعل السياسي السادي الذي بوشر بممارسته ضد الفرد العراقي بعد شهور قليلة من قيام النظام الجمهوري وحتى اليوم. وهذه الشخصية، وإن تنوعت انماطها الفرعية النشوئية، إلا إنها تشترك على المستوى الانفعالي – السلوكي بتركيبة متناقضة من العناصر السادو – ماسوشية الممتزجة:
* إنها تغلـّب قيم الموت على قيم الحياة في سلوكها، موظفة شعارات "الوطن" و"الدين" و"الواجب" و"الفضيلة" لتبرير أفعالها الهادمة لحياة الآخرين.
* تكره خصومها حد العمل على إفنائهم.
* تتسم بالسايكوباثية، أي ضعف الضمير، وعدم الاتعاظ بالتجارب، والاندفاع والتهور.
* لا تحقق توازنها النفسي أو رضاها الانفعالي إلا عبر مشاهد التدمير والقتل وهدم الحياة.
* أي لباس ايديولوجي ترتديه هو قشرة دفاعية ظاهرية تخبيء تحته منظومة متسقة من الميكانزمات العدوانية الموجهة نحو ذاتها أو نحو الآخرين، والتي يحركها الاحباط اللاشعوري العميق، بوصفه العنصر التكويني الأبرز لهذه الشخصية.
أما الأنماط الفرعية لهذه الشخصية الهدامة فيمكن تحديدها بوضوح من خلال العودة للعوامل السوسيو– سياسية التي أدت الى نشوئها وتطورها:
1- الشخصية الهدمية الفاشستية: نشأت على مدى أربعين عاماً في أقبية المؤسسة الأمنية والسياسية للنظام الفاشي السابق. تحكمها عقدة الاضطهاد والشك، ولا تجد أي امكانية لاستعادة شعورها بالأمن النفسي المفقود إلا بإقصاء الآخرين وايلامهم واإفنائهم. وهي ما تزال في أوج نشاطها اليوم، بعد أن استبدلت وجهها القوموي السابق بأقنعة متأسلمة جديدة، إذ وفر لها الوضع السياسي الجديد امكانية واعدة لاستمرار اضطرابها النفسي، ودون أي محاولة موضوعية لإعادة تأهيلها والحد من هدميتها.
2- الشخصية الهدمية "الارهابية": تركيبة نفسية مستحدثة منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان/ ابريل 2003م، نتجت عن تلاقح بيضة "الإرهاب" (مع التحفظ على هذا المصطلح) المستنسلة اصطناعياً في مختبرات دول الجوار، بحيمن العولمة الأمريكية المتوحشة التي لا تجد في العراق أكثر من حساب مصرفي مغلق ينبغي اختراق شفرته مخابراتياً عبر كسر شوكة بنيته البشرية الموحدة. ولهذه الشخصية امتداداتها النسيجية مع الشخصية الأولى (الهدمية الفاشستية) بزوغاً وديمومة ومصيراً، إذ تحكمها عقدة الولاء للجمود، والرعب من التطور وتكفيره، والافتتان بعقيدة تقريب الموت من الجميع، فشعارها الضمني: ((عليّ وعلى أعدائي)).
3- الشخصية الهدمية الطائفية: تبلورت ملامحها ببطء نسبي خلال الأعوام الثلاثة التي اعقبت الاحتلال، ثم برزت بجلاء في بداية العام الرابع الذي نشهد قريباً نهايته. كان لفرق الموت التي أنشأها "نيغرو بونتي" اثناء تقلده منصب سفير الولايات المتحدة في العراق على غرار فرق الموت التي سبق أن أسسها في السلفادور في ستينات القرن الماضي، الفضل الأكبر في المباشرة بنشوء هذا النمط من الشخصيات، وعبر تكنيك بسيط جداً: ((بعد أن تنجح بتأسيس نظام سياسي طائفي البنية، عليك أن تبدأ بقتل عدة عشرات من أفراد ينتمون لطائفة معينة يومياً وترمي جثثهم الممزقة في مناطق تسكنها أغلبية من الطائفة الأخرى، والعكس بالعكس، ثم تفتعل في الوقت نفسه اعتداءات مدفوعة الثمن على معابد مقدسة تعود لكلا الطائفتين)). فحدث الاستدراج المنتظر، وانخرطت أعداد محدودة ولكن مؤثرة من أفراد الطائفتين بتأثير مصالح السياسيين ضيقي الأفق، في سلوك "ميليشياوي" متطرف هدفه الانتقام الدموي الأعمى من الطائفة الأخرى، دون أي وعي أو دراية منهم بأبسط مباديء البناء الفقهي لفكر الطائفتين، وما إذا كانت هناك حقاً خلافات عقائدية من أي نوع تستدعي افناء الآخر وتدميره على هذا النحو. وحدث هذا الاستدراج بشكل خاص في القاع الطبقي لأتباع الطائفتين، إذ كلما ازداد الاحباط الشخصي والاجتماعي للفرد وانغلقت أمامه السبل المشروعة للإصلاح واستعادة الحقوق، أصبح أكثر استعداداً للاندفاع اللاعقلاني للتنفيس عن مكبوتاته بالتفتيش عن أي كبش فداء بديل يحوّل ضده كل طاقة اليأس والحرمان والذل التي تغلي في اعماقه. أما المفقس الطائفي الأساسي الذي ما برح يديم وظيفة هذه الشخصية ويشجع على تماهي المجتمع بها، فهو المؤسسات الأمنية التي أسسها ضباط الاحتلال ومستشاريه على نحو يراد به قصم ظهر الدولة المدنية العراقية العتيدة وإظهار عجزها أمام التنامي السرطاني لجماعات ما قبل الدولة في أحشائها.
وهناك، على الضفة الأخرى من نهر الدم العراقي، تسكن "الشخصية العراقية البناءة المسالمة"، بخصائصها التأريخية المتراكمة: ((التسامح، والتحضر، وقوة التحمل، والابتكارية التكيفية، والولع بالثقافة، وتمجيد قيم الحياة، والتفتيش عن ايجابيات الآخر المخالف، والتدين الهاديء))، والتي تشكل بنوعها وكمها المادة الأساسية العظمى من النسيج الاجتماعي العراقي التقليدي. هذه الشخصية أمست تراقب بفزع جيوش الاحتلال وفرق الموت وكتائب الانتحاريين في الشوارع، وتستمع للجنرالات الشقر وزعماء الميليشيات والطوائف على شاشات التلفاز، وقد أدركت تماماً أن حضارة البناء والحياة والتسامح يمكن أن تغدو ((رهينة)) الى أجل غير محدود بأيدي عصابات سياسية محلية وكوزموبولتية تحترف الهدم والاستئثار والتعصب.
إن مساحة التماس التفاعلي بين الشخصيتين "الهدمية" و"البناءة"، يمكن عدّها هامشية وغير ذات أثر؛ بمعنى أن الفعل السياسي المفبرك من خيوط تقع خارج النسيج الاجتماعي العراقي التقليدي، لم يستطع النفاذ بآلياته "الهدمية" ونتائجه النفسية "العدوانية" الى الشخصية العراقية المسالمة بخصائصها التسامحية المتحضرة، إلا بامتدادات محدودة يمكن وصفها بـ"رد الفعل الانعكاسي الآني" الذي يتصل بتلقائية الاستجابة الميكانيكية لا بالذخيرة القيمية الجمعية بعيدة المدى. إن المتجول المحايد اليوم في بيوت بغداد ومدارسها وجامعاتها وأسواقها، يستطيع أن يتلمس الخصائص العيانية الملموسة لهذه الشخصية العراقية البناءة المغلوبة على أمرها، ومقدار اعتزازها المتجدد الصامت بهويتها الوطنية المحببة، ومبلغ نفورها وازدرائها لسادية الفئات الهدمية المتسلطة عليها.
أما الفعل الاحتجاجي الجمعي لاستعادة التوازن، فسيظل مؤجلاً إلى حين، ما دامت المسافة النفسية بين الادراك والفعل لدى الفرد العراقي ما تزال مزروعة بالسلبية والقهر واللاجدوى والعجز المتعلـَّم منذ عقود، وهي خصائص تتصل بالفاعلية السلوكية وتوقعات النجاح والاحباطات المتراكمة أكثر من صلتها بخصائص البناء العقلاني المنجز للشخصية الحضارية للفرد العراقي، وهو ما يجعلنا متفائلين بشأن ما سيؤول اليه المشهد الدموي الحالي.


ألا تعتقد ان هناك تصدعاً واضحاً أصاب الهوية العراقية، رافقته تداعيات نفسية مريرة سببتها عوامل عديدة كالاستبداد والهيمنة؟ ترى ما هي عناصر الرؤية الكاشفة لأسباب هذا التصدع والاعتلال؟ وهل تتحمل كيانات مجاورة للعراق جزءاً من مسؤولية ذلك؟

- الهوية الاجتماعية ليست مفهوماً مطلقاً جامداُ يتراوح بين الغياب الكلي والكينونة الكلية، بل بناء اجتماعي مرن، متعدد الغايات والكينونات، قادر على انجاز تحولاته وتمظهراته بما يتلاءم مع سيكولوجية اللحظة الراهنة.
والهوية الاجتماعية بكل أشكالها الفرعية: الوطنية، والعرقية، والدينية، والطائفية، والأسرية، هي بدءاً ضرورة تكيفية ونتاج حتمي لرغبة الفرد بالانتماء لكينونة اجتماعية ما، يستمد منها شعوره بالأمن والمكانة والاحترام، حتى في حالات غياب التنافس بين الجماعات الاجتماعية المتجاورة. كما إن متانة الهوية الوطنية لدى جماعة معينة لا يتناقض بالضرورة مع وجود هويات فرعية متعددة لدى تلك الجماعة، بل قد تنشأ حالة من التكامل بين البعدين الوطني والديني للهوية الاجتماعية مثلاً، كما هو الحال في المجتمع الأمريكي الحالي.
وعطفاً على محورنا السابق حول نمطي الشخصية العراقية: "الهدمي" و"البنـّاء"، يصعب الجزم أن تصدعاً حقيقياً قد أصاب الهوية الوطنية العراقية بمفهومها الجمعي الشامل. فالإغراء والقسر اللذين يواجههما الفرد العراقي اليوم لدفعه نحو الهرولة خلف هويته الطائفية في ظل تراجع النخبة العقلانية العراقية عن ممارسة دورها التأريخي المعهود، يقابله وعي يومي عميق لديه بأن الطائفية لم تجلب له الا انعدام الأمن وفقدان المكانة وغياب الاحترام وانطفاء المعنى الايجابي للحياة. فالعراقيون بطبيعتهم الشغوفة بقيم الحياة وأسئلة الخلود، لم يكونوا مفتونين يوماً بطوائفهم أو أعراقهم على حساب عراقيتهم أو انسانيتهم الأممية حتى في سنوات الاستبداد والحروب. ومرد ذلك هو التداخل الأسري والعشائري والعرقي والاقتصادي والثقافي بين الجماعات البشرية العراقية إلى الحد الذي أصبحت فيه هويتهم الوطنية هي الملاذ الأوفر حظاً لتحصيل الأمن والمكانة والاحترام.
يحتاج الفرد العراقي لهويته الوطنية أكثر مما يحتاج لهوياته الفرعية الأخرى. وإن المحاولات الجارية حالياً لقسره على تغيير هذه المعادلة النفسية الموضوعية قد تنجح مؤقتاً في جرفه الى نقطة التردد والصراع بين مفهومي الوطن والطائفة، إلا إن الجذر المتحضر للشخصية العراقية، ونظرتها الواقعية، وتدينها الهاديء اللااصولي، يجعل على الدوام من هويتها الوطنية مفهوماُ قابلاً للمناورة الدفاعية، والتكيف البارع، وإعادة التشكل، ولو بتمظهرات جديدة تحفظ لها ميكانزماتها السيكولوجية الراسخة.
لقد حققت الهويات الاجتماعية الفرعية تناغماً سلمياً وتوازناً نفسياً مستقراً بين وظائفها وأدوارها، ضمن اطار الدولة العراقية العلمانية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، بالاستناد الى ضرورات اقتصادية وديموغرافية تتعلق ببنية المجتمع العراقي المعاصر نفسه. كما كشفت السنوات الأربعة الماضية منذ بدء الاحتلال، إن لهذا المجتمع قدرة استثنائية على مقاومة الموت الاجتماعي المفروض عليه، بالرغم من الغياب شبه التام لإطار الدولة الراعية والمنظمة لحركته البشرية.
وبتعبير أكثر تحديداً، إن الهوية الوطنية العراقية مفهوم نفسي – حضاري منجز الى حد كبير بفعل الضرورات المجتمعية الداخلية. وإن محاولة تشظيتها بتكنيكات سايكوسياسية مصطنعة تمارسها شركات السلاح الأمريكية الاحتكارية ومخابرات دكتاتوريات الجوار، ضمن رقع جغرافية طائفية أو عرقية متناحرة، سيمنح لهذه الهوية بعداً رومانسياً حميماً، يحفز الجيل الحالي لصيانتها واستعادتها جيوبولوتيكياً لاحقاً، بعد أن انتهى آباؤهم من انجازها سيكولوجياً وثقافياً واقتصادياً.

الدكتور "على الوردي" تناول طبيعة المجتمع العراقي والانسان العراقي برؤية سوسيولوجية تخللها بعد سيكولوجي ثاقب، اذ خرج بنظرية اجتماعية متفردة. ما سبب النجاح الدائم لهذا النوع من الدراسات من وجهة نظر نفسية؟

- يمكن اختزال المنظور العميق والشامل للدكتور علي الوردي بالمقولة الآتية: ((إن سلوك الفرد العراقي هو دالة للتنافر أو التناشز أو الصراع المعرفي بين قيم الحضارة وقيم البداوة في شخصيته)). وبذلك استطاع الوردي أن يفسر أسباب ازدواج السلوك أو تعدد الأقنعة وتضارب المواقف في شخصية هذا الفرد على إنها نتاج لوجود منظومتين قيميتين متباينتين تحركان جهازه النفسي في آن معاً.
لست الآن بصدد تقويم نظرية أستاذنا الوردي، إلا إنه من المعروف أن المجتمعات الشرقية قد عانت وتعاني قاطبة من مسألة الصراع بين قيم التخلف وقيم التحضر، بحكم التطور الاجتماعي الذي كانت تنتقل به وينتقل بها من عصور الرق والاقطاع والميثولوجيا الى عصور العلم والتنوير والمدنية. فما يزال الانسان الشرقي عموماً موزعاً ضمن أدوار اجتماعية – قيمية متناقضة ومتصارعة يؤديها دونما وعي كاف بازدواجيتها أو تعارض مضامينها. ولذلك فالفرد العراقي، وهو أنموذج للشخصية الشرقية "المتنورة"، يكتنز في سلوكه وتفكيره وانفعالاته صراعاً ثنائي القطبية على مستويات عدة متزامنة، فإلى جانب صراع ((قيم البداوة × قيم الحضارة)) نجد لديه ثنائيات أخرى،لا نريد الخوض في عناصرها التكوينية والوظيفية الآن، ولكن نذكربعضاً منها على سبيل التوصيف والتوضيح: ((قيم التدين × قيم العلمانية))، و((قيم تمجيد العدل × قيم تبرير الظلم))، و((الطابع الجمعي × الطابع الفرداني))، و((التفكير العلمي × التفكير الخرافي))، و((الدافع الاجتهادي × الدافع النقلي)).
ولقد أمسك الدكتور الوردي – بوصفه مبدعاً شجاعاً فريداً من نوعه – بثنائيته الشهيرة، وكرس لها جل تفكيره ومؤلفاته، وأغناها بإسلوبه العلمي المشوق القائم على الشواهد والحجج والمقارنات، مسلطاً شعاعاً كثيفاً على تلك المنطقة المحيرة من الشخصية العراقية. وهنا يكمن سر نجاحه، إذ خاطب المريض بلغة عقلية مشتقة من واحدة من علله التي غالباً ما كان يستشعرها بغموض في وظائفه النفسية ومواقفه السلوكية.
إن نجاح المفكرين الكبار عبر التأريخ، غالباً ما تأتى من إحدى ميزتين أو كليهما؛ إما بسبب قدرتهم الاقناعية الفذة، أو بسبب الأسئلة الجدالية العميقة التي أثارتها أفكارهم سواء لدى النخبة أو عامة الناس. وأظن أن علي الوردي قد امتلك هاتين الميزتين معاً!


لا يزال علم النفس العراقي يعيش دوامة النقل والاقتباس من الأدبيات النفسية الغربية. هل تقترحون حلولاً معينة للنهوض بمدرسة علم نفس عراقية أصيلة؟

- للتعامل مع هذا السؤال، لا بد أولاً من التمييز بوضوح بين مسألتي "المنهج" و"النظرية". فالمنهج هو طريقة في البحث العلمي، أساسها الموضوعية والتقنين والضبط. أما النظرية فهي بنيان من الأفكار والمفاهيم والمقولات والحقائق، يجري تنسيقها بإسلوب يؤدي الى تحليل ظاهرة معينة وتفسيرها والتنبؤ بها، وربما التحكم بمساراتها أيضاً. وقد توظف نظرية ما أكثر من منهج لتدعيم طروحاتها، كما قد يكون منهج ما مشتركاً بين نظريات عدة.
إن ما يعانيه علم النفس في العراق هو الغياب التام للتنظير المحلي مقابل الحضور المتطرف للمنهج المستورد، إلى حد إن أغلب البحوث النفسية العراقية هي في مضمونها اجراءات منهجية متسلسلة تفتقر الى قدرة التوصل الى أي اضافات نظرية ذات صلة بمنطلقات البحث ومشكلته العلمية. ولا أبالغ إذا ما قلت أن هناك خللاً بحثياً – نفسياً في جامعاتنا يطيب لي أن اسميه بـ((فوبيا التنظير)). فالنظرية الأجنبية مقدسة لا يجوز منافستها باشتقاق مفاهيم جديدة، حتى في حالة نقد تلك النظرية أو تبيان نقاط ضعفها. وأظن أن ذلك كله مرتبط بافتقاد مؤسساتنا الأكاديمية لروح المغامرة الفكرية المحسوبة، لأسباب تتعلق بنمط "الشخصية الأكاديمية المحافظة" الذي أشاعته سنوات الاستبداد والركود والبيروقراطية الطويلة، ما دام الاجتهاد كان محرماً في كل مجالات الحياة.
ولذلك، فالنهوض بمدرسة علم نفس عراقية أصيلة، لا يمكن أن يتحقق بإجراءات فوقية آنية معزولة تخص هذه الكلية أو مركز البحوث ذاك، انما يتعلق الأمر بنهضة علمية حضارية متصلة تطال كل الاختصاصات الأكاديمية، يغذيها اصلاح تربوي شامل تتبناه الدولة بميزانية مفتوحة، يبدأ من رياض الأطفال صعوداً، لبناء "شخصية أكاديمية متحررة"، تنظر الى المنهج العلمي بوصفه وسيلة فحسب لا غاية بحد ذاته، وتمتلك الجرأة الفكرية لاشتقاق تصورات نظرية مبتكرة عن الوجود بشقيه الطبيعي والاجتماعي، ولا تقنط من امكانيات دحض النتائج على المستوى التطبيقي، بل تعد الخطأ العلمي خطوة على طريق الوصول للحقيقة العلمية. ودون ذلك، سنظل مبتلعين تقليديين للمعرفة، لا نستطيع تمثلها، ولا انتاجها، ولا حتى اعادة انتاجها!



حاوره : مازن لطيف علي







#مازن_لطيف_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتاب الشهري والمطبوع الاول للحوار المتمدن - نحو مجتمع مدني ...
- سلام عبود : مشكلتنا المزمنة هي أننا لا نقف موقفاً ناقداً من ...
- د.عبد الخالق حسين :الآيديولوجيات أشبه بالأوبئة، لها مواسم وت ...
- سعدي يوسف :لا يمكن لثقافة وطنية ، في بلدٍ محتلٍ ، أن تنهض إل ...
- د. سعيد الجعفر: المثقف العراقي لم يكن مثلاً للمثقف العصامي ا ...
- حوار مع عزيز الحاج
- في ذكرى اغتيال المفكر التقدمي حسين مروة
- حوار مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ
- د.عقيل الناصري: انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العن ...
- حوار مع الباحث والمؤرخ رشيد الخيون
- المفكر ميثم الجنابي ...انتعاش الهوية الطائفية في العراق يمثل ...
- حوار مع الروائي العراقي الكبير : محمود سعيد
- حوار مع المفكر د.ميثم الجنابي
- الشاعر خالد المعالي : افضل مثقف عربي هو ذلك الذي يمتلك لساني ...
- كامل شياع : في العراق اليوم ميول يسارية من شتى الأنواع وحول ...
- سلامة كيلة: الانتماء للماركسية عندنا تم بشكل عفوي وليس وعيا ...
- المؤرخ د. كمال مظهر احمد: لا أزال مؤمناً بالفكر الاشتراكي وم ...


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - مازن لطيف علي - فارس كمال نظمي : قراءة سيكولوجية في أنماط الشخصية العراقية الحالية