أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - فان كوخ .... رحلة ضوئية باللون والجسد للتطهير من العنف















المزيد.....



فان كوخ .... رحلة ضوئية باللون والجسد للتطهير من العنف


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 1876 - 2007 / 4 / 5 - 11:15
المحور: الادب والفن
    


أولا
:التطهير باللون والجسد
لا بد أن يكون الإنسان الذي ينتظر الموت مدخنا غليونه بلامبالاة كما فعل الفنان الهولندي فان كوخ بعد انتحاره ، صاحب رؤيا ووجد لم يدركها عصره، ولم ندركها نحن الآن أيضا ، إذ هو فنان يمتلك إحساسا بعبثية الوجود وخاصة بعد ان شاهد هو بالذات فردوس النور ووهج النار المقدسة هذه في أحلامه فمنحته الرؤيا القدسية المنفلتة بعيدا عن الواقع. مثل هذا الفنان لن يترك هذه النعمة ليرى الواقع بعيون غيره. ولأنه رأى جحيمه على حقيقته، أصبح شاهدا ملعونا على مآسي عصره فرفضه المجتمع وعده مجنونا. ولكن هل يمكن ان يصاب بالجنون كحالة عصابية ذلك الذي رأى فردوس الفن والجمال وما وراء الرؤيا ؟
إذن فنان مثل فان كوخ(1890 - 1853 ) يمكن ان يصاب بنوبات الوجد والرؤيا، من خلالها يمتلك سلطة السيطرة التامة على الحلم الذي يستمده من الواقع بالرغم من أنه لا ينتمي إليه، وهذا البعد هو الذي يجعله قادرا على تحويل الواقع الخشن والمظلم إلى أحلام وفن ينتمي إلى جمال خالص يحسده عليه حتى الملائكة. لهذا فان السلطة الشمولية والهيمنة الإبداعية تأتي دائما من رجاحة العقل والقدرة و الخيال الذي يؤشر حقيقة الواقع. وسلطة "فان كوخ" تكمن في رؤيته الفنية الشمولية. أما الجنون فيقوم بتخريب سلطة العقل. لذلك فانه يؤكد (بأن المشاعر التي أعانيها تتجه نحو الأبدية) لأنها متحولة إلى رؤى لونية وبصرية وضوئية تنطلق من جوهر الواقع للوصول إلى اللامرئي إلى تلك النجمة في اللانهاية.
ان هذا المفهوم لفن فان كوخ يدفعنا للتفكير بان هذه المشاعر هي نوبات الوجد الفني التصوفي التي لم يفهمها معاصروه ، و مازال الكثير من هذا الوجد غير مفهوم حتى هذه اللحظة . وبالتأكيد فان هذا يحيلنا إلى طبيعة التناقض بين الفنان والمجتمع وبالذات إلى موضوعة العنف (ليس فقط الجسدي وإنما الفكري أيضا والذي أصبح سمة في وقتنا الحاضر) الذي يمارس دائما ضد الفنان الذي يمتلك موقفه ورؤياه الخاصة المتفردة عما يراه الآخرين .
ان انتحار فنان مثله يرى الجمال بهذه الحساسية وهذا الوجد يعني بان هنالك خلل في الوجود والعلاقات الإنسانية، ويؤكد أيضا انطفاء النور الذي يعني الجمال نتيجة للعماء البشري، ففيبدو انتحاره وكأنه انتصار على ظاهرة العنف والقسوة والجنون الجمعي لان فنان مثل فان كوخ لايستطيع العيش إلا في عالم أكثر إنسانية وأكثر جمالا واقل عنفا .

ياالهي ..يا إلهي ماذا فعلوا بالإنسان
(الفنان والعنف )
يؤكد الشاعر و الفيلسوف المسرحي أنتونين آرتو في كتابة المهم عن مأساة فان كوخ تحت عنوان (المجتمع هو القاتل أو ضحية المجتمع ) ، بان المجتمع الذي عاش فيه فان كوخ هو الذي دفعه إلى القنوط من الحياة ومن ثم الانتحار. وهو يذنب المجتمع الذي عاصر فان كوخ سواء في هولندا أو في فرنسا لأنه رفض وبقسوة وعنف فنان مثله يمتلك هذه القدرة الفنية وتلك الحساسية الخاصة إزاء السمو الفني والإنسان الآخر والطبيعة.
ويكون طبيعيا في الأزمنة الاستثنائية وجود العنف الاجتماعي ضد الفنان عموما مما يؤدي إلى حدوث ذلك التصادم والتناقض الذي يشكل خطورة على الفنان والمجتمع ذاته. لكن من ذا الذي شكل خطورة على الآخر؟.
بالتأكيد أن هذا التناقض الذي ينتج العنف لا يمكن ان يسمح للفنان بممارسة علاقات إنسانية طبيعية مهما كان واعيا لحجم الهوة بينهما، لان الواقع والنظام الاجتماعي يعملان على ربط الفنان بالمتناهي أي الواقع وقوانينه و التكيف بالوجود المحدود ليرى الواقع فونغرافيا، أي كما هو ومن وجهة نظر المجتمع، وليس من وجهة نظر الفنان الذي يعمل من خلال المتناهي للعبور إلى اللام تناهي أي إلى الوجود المطلق. لان العملية الإبداعية هي لحظة مطلقة تخضع للزمن الفني وليس الزمن الواقعي، بالرغم من ان الفنان يتناول الواقع كموضوع وكأساس للرؤيا. لذلك يمكننا اكتشاف مانعوه بالغياب في المرئي والذي يرفضه فان كوخ لأنه يعني غياب الفنان والرؤى الفنية الحقيقية عندما يرسم الواقع الفوتوغرافي. ان تقنين الفن بأطر يفرضها الواقع أو سياسة الاستهلاك المعتمدة على التصورات العقلية الجمعية وخارج الحلم التي تفرضها مقتضيات خاصة، بالتأكيد يشكل عنفا إزاء الفن والفنان كإنسان في مجتمع ما . ولكن الجانب الآخر، الإبداع الفني الذي يعتمد حرية التخيل والحلم، هو الحضور في اللامرئي وهو كشف اللامرئي في الحياة والوجود والطبيعة عن طريق الإبداع والفن الذي يحقق حضور القيمة واللوحة الفنية.
وهذا يعني ان الفنان يحاول دائما الانتماء إلى الحياة بكل تناقضاتها وهارمونيتها وأسرارها اللامرئية أي محاولة الانتماء إلى الوجود النقي المكتنز بغنى الحياة الحقيقية الخفية وليس إلى الواقع، وبما ان شروطه لا تمنح الحرية للفنان ان ينتمي لهذا الواقع يبدأ التناقض و التصادم والصراع في داخل الفنان بين ان ينتمي إلى المتناهي أو إلى اللامتناهي. وبمعنى أكثر وضوحا ان مثل هذا التناقض هو الذي خلق الأزمة الحقيقية لفنان مثل كوخ . حيث عندما فهم هذا التناقض وقرر الانتماء إلى هدف الحياة البعيدة المنال والمطلقة لمعرفة ورسم بعض أسرارها، شكلت مواضيع لوحاته وألوانه وعنف إيقاعه حرجا ورفضا اجتماعيا حادا. لذلك فانه تشرد كثيرا وعانى طويلا من اجل ان يمسك الزمن الفني وإمكانية تمكنه من فنه من اجل ان يفهم الحياة ويفهم مكانه في هذا العالم ويفهم أزمته التي هي أزمة الإنسان الحساس إزاء عبثية الواقع والطبيعة و الوجود .ولهذا فان مهمته الفنية وتشرده تشبه إلى حد ما تشرد وعذابات الشاعر الرائي آرثر رامبو من اجل ان يتوصل إلى كتابة الشعر البصري .
وكان فان كوخ يبحث عن خلاصه في انتماؤه الكلي إلى الحياة و يود أن يعيش حياة طبيعية منظمة بعيدة عن الفن أو عن المسار الذي انتهى إليه. فهو لم ينقاء روحةن رساما في بداية الأمر. لذا فان نقاء روحة وحسه التصوفي دفعاه إلى أن يكتشف خلاصه بالدين مما دفعه إلى الانتماء للعمل كمساعد راهب. وحاول ان يكون قديسا بين الفقراء والبائسين ليساعد هذه الأرواح المعذبة في مناجم الفحم البلجيكية. هناك اكتشف حقيقة الوجود واستغلال الإنسان وصراعه فصرخ (يالها من حياة رهيبة مرعبة ياالهي، ياالهي ماذا فعلوا بالإنسان) وفي ساعات غضبه واحتجاجه ضد هذا الوجود المتهرئ الذي يشبه الجحيم يكتب إلى أخيه ثيو الذي كان يعيله وله الفضل الكبير في استمراره بالحياة ومداومته على الرسم. (أتنكر لكل الأعراف والتقاليد وارفض المحيط الذي ولدت فيه) وهذا دفعه إلى ان يصبح واحدا من هؤلاء البؤساء في كل شئ حتى في عيشهم المدقع ، وكان يوزع عليهم ما يملكه ويظل جائعا لأسابيع حتى وصل حد الموت ولم ينقذه إلا أخوه ثيو كما هو عادته .
وحاول ان يجد خلاصه في الحب المتمثل في حبه لأرسولا الشابة الإنكليزية المتزمتة التي كانت تعطف عليه
عندما استأجر عندهم غرفة أثناء إقامته في لندن، عندما كان يعمل في متجر لبيع اللوحات الفنية لكنه فشل. وحاول ذلك مرة أخرى في ان يحب ابنة عمته الأرملة كاي وان يقنعها بالزواج لكنه فشل . وبعد ذلك في حبه لصديقته المدمنة المومس(سين)، فكان فاشلا في كل هذا حيث كان يطرد من حظيرة الحب دائما كما يقول هو (يا لقلبي .. لقد شمل حبه العالم بأسره ولكن لا يجد قلبا واحدا يخفق له ) (انظر هنري بير شو ).
فازداد نفوره من الواقع وأصيب بصدمة هائلة، ففي كل هذه العلاقات كان هو فقط الذي يمنحهن حبه، ولا يفهم لماذا يرفضنه.ولكن عندما أحبته ماركو بيجمان التي تكبره سنا حد العشق بعد ذلك بسنوات عديدة، بعد ان فقد إيمانه بكل شئ، أعادت له بعض الأمل في إمكانية خلق علاقات اجتماعية فحاول ان يتزوجها ويعيش حياته الطبيعية، لكن أهلها رفضوا ذلك، لأنهم يعتبرونه إنسانا يتلهى بحياته، ومتشردا غير قادر على ضمان لقمة عيشه ، ولم يشفع لها حتى تناولها السم، ونتيجة لنصيحة الطبيب حتى تشفى، اضطر فان كوخ ان يدوس على قلبه ويتوارى عنها إلى الأبد .
مارس فان كوخ في بداية حياته مهن مختلفة، وعندما لم يجد منفذا لجأ إلى تحقيق رغبة أخوه ثيو في امتهان الرسم. ولتذمره من الدراسة لم ينتسب إلى معهد للفن وإنما اخذ دروسا على يد بعض الفنانين. وعندما انغمر في الرسم شعر بنور يضئ روحه واهتدى إلى عذاباته بدون ان يفهم أسبابها،واكتشف في ذات الوقت طريقه وحياته الخاصة في الفن والحياة وتوحد متتبعا تلك النجمة في سماء لازوردية كان يؤمن بأنها الوحيدة التي أما ان تهديه إلى الأبدية أو تدفعه إلى هوة الجحيم. أصبح غريبا، فقطع صلته بكل شئ يلهيه عن فنه، وتخلى عنه أصدقاءه باعتباره مجنونا، وحينما تخلت عنه حبيبته المومس سين قتلت في داخله حلم انتماءه للمجتمع إلى الأبد ، وتركز لديه شعور الغربة اعتبر نفسه منبوذا أبديا في هذا العالم. لأنه (قبل ان يصبح فنانا كان يشعر بأنه ضيف في هذه الأرض، وعندما امتهن الرسم أصبح منفيا في الوجود والحياة)
فقضى حياته متوحدا مع زهور عباد الشمس و نجوم السماء التي تتدلى كالثريات الكبيرة ليلا كما رسمها، ومع ذلك الهمس الأبدي لشخصياته التي كانت تنتظر المعجزة دائما كما في لوحة جوزيف رولين ساعي البريد الذي يجلس متأهبا ومصغيا، أو لوحة اغستينه رولين وهي تنتظر باستكانة واستسلام شئ ما. أو لوحة امرأة من آرلس الهائمة بما قرأته في كتابها الذي بين يديها. ولوحةـ امرأة جالسة في المقهى ـ بنظراتها الغريبة الساهمة، أو تخطيطاته لصديقته المومس (سين) بجلوسها وانتظارها عارية وكأنها قربان أبدي يهيئونه للذبح، يا إلهي ما الذي فعل بشخصيات لوحاته ؟ والذي فعلت هي وألوانها النارية الجحيمية بالفنان ذاته ؟.

وكما هو معروف فقد تميزت علاقته بصديقته (سين) المومس البائسة والمحتقرة من الجميع والتي عاش معها بعناد فنان عظيم، فأعطته إمكانية رسم لوحات وتخطيطات مختلفة لها وكأنه يريد تخليدها فنيا كما خلد فنان عصر النهضة الملوك والملكات والأميرات العابثات . ووضع أسماء مختلفة للوحاته مثل، امرأة حاقدة على الحياة، السيدة العظيمة، أم ترضع طفلها ، إمرأة عارية، إمرأة تخفي وجهها الباكي بين ذراعيها، إمرأة مترهلة الثديين … وغيرها. ومادام الآخرون يحتقرونها كمومس فهو يشعر بمسؤولية إزاءها وعليه ان يحبها ويساعدها. ولأنه يريد ان يتوازن مع قراراته، عليه ان يقطع صلته بالجميع، الفنانون منهم و الناس .
ان فهم جوهر الحياة الحقيقي والقدرة على تحويل اللون إلى نور والوصول إلى جواب على سؤاله الأساسي (لماذا الإنسان بائس إلى هذا الحد)، يتطلب مسك الزمن وعدم التساهل مع الذات حتى وان أدى هذا إلى ان يكون مرفوضا من الجميع ومعزولا عنهم (فبذلك أتمكن من تركيز انتباهي على أشياء ليست عابرة، أريد أن أترجم جمال الطبيعة الأبدي) وبمعنى آخر انه يريد التعبير عن عمق الألم الإنساني(حتى عندما أغرق في الفقر أجد في نفسي انسجاما وموسيقى هادئة وصافية . ففي أكثر البيوت فقرا، في أكثر الأركان صمتا، أرى لوحات ورسوما) فهو يؤمن بمقولة مواطنه الرسام ميلييه (الفن صراع من اجل الحقيقة) وهو يرسم من اجل إنقاذ روح الإنسان لأنه يؤمن بان الرسم هو (فتح ثغرة خفية عبر جدار حديدي يفصل بين ما نحس به وبين ما يمكننا ان نفعله، ولكي يتسنى الحصول على هذا المنفذ من الضروري التسلح والتمسك بالصبر)، لكن في ذات الوقت كان كوخ يأمل من خلال مزاولة الرسم ان يمنع تجمع الأسى في قلبه حتى لا يموت ميتة عفنة (أنني أعيش لكي أرسم). انه فنان صاحب رأس احمر مهوس بالطبيعة والحياة .
وقد قضى فان كوخ حياته بحثا عن فردوسه المفقود، لأنه لا يفضل ان يرسم إلا ذلك اللامرئي في الحياة، ذلك الذي يحاولون إخفاؤه ألا وهو بؤس الإنسان وما يثقل عليه من وجود تلك الأشياء التي تحيطه أي البؤس بمفهومه الوجودي الشامل وليس حصره بالبؤس الاقتصادي، وهذا كان واضحا عندما رسم (طبيعة صامته) للتعبير عن بؤس عصره وبؤس الحياة وبؤس الواقع كما في لوحاته الحذاء، والكرسي، زهور عباد الشمس وغيرها، أو تلك اللوحات التي تعبر عن تآكل الإنسان لكنها تمجد إبداعه الإنساني مثل (آكلو البطاطا ، والأحياء الفقيرة، والفلاحين الكادحون وعمال المناجم البؤساء الخ) أو لوحاته التي مجدت الطبيعة من خلال استخدامه تلك الألوان التي تعطي عظمة جديدة . وبتأكيده على تلك الحياة الخفية في مجمل لوحاته أظهر لنا فان كوخ و بلا مواربة بؤسنا الحقيقي مما يدفع الآخرين للغيظ فشتموه (لماذا لا يريد هذا الكلب الأجرب الذي يرافق عاهرة متمرسة، أن يرسم مناظر جميلة وسارة بدلا من ان ينغمس في رسم الأحياء الشعبية الفقيرة)، ولكنه كان يهمس بتنبئه (أعلم بان فني سيكون له قيمة كبيرة في المستقبل) وفي وحدته الفنية تحولت أسئلته إلى لوحات احتقرها معاصروه وابتهج بها واندهشوا لها معاصرينا،فأخذوا الآن يشترونها بأغلى الأثمان ليتطهروا من شعورهم بالذنب إزاء العنف الذي مارسه أسلافهم ضده.
ففي سنوات الإحباط التي عاشها ترد إشارة منصفة وتقيم دقيق لتمايز فن فان كوخ من الناقد ج. ألبير أورييه. وبالرغم من أنها جاءت متأخرة إلا أنها كانت ضرورية لرفع معنويات فان كوخ وهو في مصحة سان ريمي آنذاك . وقد نشر في مجلة ميركور دو فرانس تحت عنوان "المعزولون " (ان مايميز جميع أعمال فنسنت فان كوخ هو فرط قوتها، وعنف تعبيرها . إنها تشف عن إيجابيته المطلقة تجاه الجوهر الأساسي للأشياء، وعن تبسيطه المتعمد غالبا للأشكال، وعن رغبته الجريئة في النظر إلى قرص الشمس وجها لوجه. وعن العاطفة المتقدة في رسومه وألوانه، وفي ذلك تكمن بجلاء شخصية قوية، شخصية ذكر، شخصية جسورة تبلغ في بعض الأحيان مبلغ الوحشية، وترق أحيانا فتغدو في منتهى اللطف. ان فنسنت فان كوخ يمثل الخط الصاعد لفرانز هالز، ان واقعيته تسمو على الحقيقة التي عبر عنها أسلافه العظام من مواطني هولندا، الذين كانوا يتمتعون بصحبة جسدية وتوازن عقلي بالغين . وما يميز لوحاته هو الدراسة الصادقة للشخصيات،والبحث الدؤوب عن جوهر كل موضوع، والحب العميق الذي يكاد يماثل حب الأطفال للطبيعة وللحقيقة .فهل يحظى هذا الفنان الضليع ذو الروح المتوهجة بمتعة العرفان وإعادة الاعتبار إليه من قبل الجمهور؟ لا أظن ذلك، فهو من البساطة، ومن الذكاء في وقت واحد، إلى الحد الذي لا تفهمه روحنا البرجوازية المعاصرة، ولن يفهمه بشكل صحيح إلا إخوانه من الفنانين) (انظر فنسنت فان كوخ رواية لإرفنج ستون. ترجمة ناهض الريس)
ثانيا :الفوضى المنظمة
ان مشكلة فان كوخ هي :
1. استحالة اكتشاف الحياة الحقيقية التي يبغي، وعدم القدرة على الانتماء إلى الواقع.وبالتأكيد فان عدم الانسجام هذا يؤدي إلى تعميق الهوة بين المجتمع والفنان مما يؤدي إلى رفض الفنان من الحظيرة الاجتماعية ويؤدي أيضا إلى ممارسة العنف الاجتماعي ضده كما بينا سابقا . وبالتأكيد فان هذه العزلة التي قد يرتضيها الفنان ويعدها كعزلة فنية قد تؤدي تراكماتها لممارسة الفنان للعنف ضد ذاته .
2. امتلاك الفنان لرؤيا فنية ذات طابع ميتافيزيقي شمولي ومحاولة انعكاسها على الحياة مما يعمق سوء الفهم بين الفنان والمجتمع و، وهذا أدى إلى رفض فان كوخ رفضا تاما على اعتباره مجنونا، وسجن كثيرا في مختلف المصحات لمعاقبته، ومنع من الرسم فادى هذا إلى حالة من التهميش ضده كإنسان وفنان. وهذا جلياً في أحد التقارير عن وضعه الصحي (يبدو لي، كما يشاركني الرأي الدكتور ٌ Rey انه من القسوة حبس رجل بشكل دائم علما انه لم يؤذ أحدا، في حين انه من الممكن استعادته لحالته الطبيعية باستخدام طرق أكثر رحمة في علاجه) .
وكتب في إحدى رسائله إلى أخيه ثيو (لو ان البوليس قد حمى حريتي بمنعه الصغار والكبار من التجمهر حول منزلي وتسلق النوافذ كما لو أنني حيوان غريب، لو فعل ذلك لاستعدت السيطرة على نفسي)
إضافة إلى هذا فقد عاش فان كوخ في حالة من سوء فهم دائم بينه وبين معاصريه لأقصى درجة حتى في معاناته،
أو في مشروعية الأسباب الحقيقية لاستخدام العنف ضد نفسه . فعندما قطع إذنه بعد الحادثة الشهيرة بينه وصديقه الفنان غوغان، نشر الخبر في جريدة من ذلك الزمان (كان بيكاسو يحتفظ بقصاصة لصورة منها) جاء فيها بين خبرين احدهما عن سرقة سلة من السمك والآخر عن كلب دهسته عربة : (ان فنانا يدعى فان كوخ جاء إلى الماخور رقم (1 ) يسأل عن المومس راشيل وأعطاها إذنه المقطوعة وقال لها احتفظي بها للذكرى) وبالتأكيد فان الروح العبثية التي يتمتع بها الفنان ولا مبالاته للأعراف والقوانين الاجتماعية آنذاك، يدفعه آلي ممارسة السخرية من الجميع، من أولئك الذين كانوا يمارسون القسوة والعنف والتهميش ضده . فالسبب الحقيقي إذن ليس هو إعجاب هذه المومس راشيل بإذنه، وإنما لأنه لم يعد يطيق تلك الأصوات الضاجة التي كان يسمعها ولا يعرف هل هي حقيقة أم وهما. ولكن الفنانون مثل فان كوخ بالرغم من انهم قرابين لتطهير المجتمع، إلا انهم يجدون ذواتهم في هذا التهميش والمنفى الداخلي، سواء كانوا في مدينة القرن التاسع عشر أم في مجتمعنا المعاصر والذي يمارس العنف ضد المثقف عموما والفنان المعاصر بالذات .
لكن إحساس فان كوخ بالفوضى الكونية المنظمة أي الفوضى الحياتية، يشكل احد أزماته الرئيسية، ومن الطبيعي ان يدفع الإحساس هذا بفنان مثله إلى الوعي المطلق بالحرية ومن ضمنها حرية الذات الضرورية للحياة والفن حتى وان كانت غير قادرة على امتلاك المستحيل.
وكثافة الشعور بالحرية تدفعه إلى الإيمان بحرية الفن المطلقة التي لا تخضع للقوانين الاجتماعية، وبما ان الفنان منفي بالحرية لان الفن هو حرية الفنان المطلقة، لذلك عمد إلى ممارسة هذه الحرية من خلال حريته الفنية أي حرية استخدام اللون والضوء والإيقاع والجسد وإعادة خلق الحياة وكائنات اللوحة وألوان الطبيعة. فالسماء تتشكل لديه بألوان حمراء وقاتمة وخضراء وألوان أخرى غير ألوانها الطبيعية، بحسب إحساسه هو بالموضوع الذي تراه بصيرته في تلك اللحظة الإبداعية.ودائما يغمرنا برؤيته اللونية، فالأصفر يتحول لديه إلى نور في فضاء اللوحة ليغمر أرواح الآخرين بتوهج الوجد وبه يصارع إحساسه بالفوضى المنظمة في الواقع والحياة والوجود عموما أي انه يصارع ضد اللاتوازن في الطبيعة والحياة، من اجل خلق التوازن أو على الأقل من اجل خلق إبداعا متميزا يحقق التكامل الفني الخالد فيصبح الموت إزاءه مهرجا قزما يتلهى بمرآته .(أردت استعادة تلك اللحظات التي يتجلى فيها الوفاق بين ذاتي والكون، فلو كان هنالك نظام في الكون، ولو شعرت بأنني على وفاق معه لاستطعت رؤيته ولمسه، ان العالم يعيش في الفوضى) كما يكتب فان كوخ في احد رسائله إلى ثيو الذي لولاه لما كان فان كوخ عظيما في حياته وفنه .

فإذا نظرنا بشمولية للوحات فان كوخ جميعها لاكتشفنا بأنه استطاع ان يخلق كونا جديدا من الألوان تسبح في فيض من النور كأنه النار المتوحشة والملتهبة جمرا والمنبعثة من أحاسيسه الداخلية المطلقة كتعبير ضد شعوره الدائم بالفشل مما يدفعه إلى الانكفاء في داخل ذاته وروحه وبصيرته كالأنبياء عندما ينعزلون في البداية في الصحارى.وهذه الأحاسيس العنيفة تنعكس في الحركة الوحشية المطلقة للكائنات والأشياء والأعشاب وحقول الحنطة والأشجار . والهدف ليس التعبير عن عمق الألم الإنساني فحسب بل التعبير عن ذلك السر الغامض في الحياة عموما.لذلك فان الحياة التي رسمها فان كوخ هي حياة تود ان تخرج من فضاء اللوحة، لأنها تعبير عن الوجود الحقيقي المكثف للكائنات وللإنسان وأشياؤه مما يخلق ميتافيزيقيا حضورها المرئي بالرغم من ان هذا الوجود المكثف يبدو قريبا من الواقع، وتكون دائما قريبة من روح وادراكات المشاهد العادي لدرجة انه ينذهل بها . ولكن لاكتشاف العالم اللامرئي والرمز الخفي في ماوراء اللون ودلالاته، والنور والظل أو ديناميكية وسكونية مكونات اللوحة، يحتاج حقا إلى مشاهد نموذجي .
ولكن في اللوحات التي رسمها فان كوخ في مرحلته الهولندية وبالذات لوحاته عن مناجم الفحم في بلجيكا يمكن تأشير ذلك الإحساس القاتم الذي ينعكس من الألوان القاتمة للتعبير عن حقيقة الحياة، إنها شخصيات حفرت وجودها فخلدت، وهذا واضحا في لوحة (آكلو البطاطا) القريبة من مزاج الفنان حيث حاول التعبير عن قدسية الجهد الإنساني الخّير، وهذا واضح من كون هذه العائلة الفلاحية التي تمد يديها لتأكل البطاطا على ضوء المصباح هي ذات الأيدي التي حرثت الأرض. وبالرغم من ان عالم هذه العائلة غارق في ظلام الألوان القاتمة للتعبير عن حقيقة وجودهم إلا أن النور المشع من المصباح يبدو،عند التمعن به، كأنه يزداد إشعاعا في كل لحظة. ولكن فان كوخ في مرحلة لاحقة عندما انتقل إلى فرنسا ذهل عند مشاهدته الألوان المشعة التي تغزو البصر والبصيرة في لوحات الانطباعيين الفرنسيين، وكذلك اطلاعه على بعض لوحات من الفن الياباني، وتأثير هذا جعل ألوانه تصبح أكثر إشراقا وبدأ التجريب على اللون، وعندما عاش في الجنوب الفرنسي بشمسه الساطعة تحولت لوحاته إلى نار متوحشة يصل لهيبها إلى المشاهدين.
نجوم كالمرايا في البحر
تنسجم أحاسيس فان كوخ مع الليل حيث يعتبره أكثر حيوية من النهار، فالألوان فيه توحي بالحلمية لذا فانه كان في كثير من الأحيان يرسم ليلا وفي الهواء الطلق، مما يثير ريبة الآخرين فأما ان يحتقرونه أو يبتعدون عنه.ولوحاته عن الليل والنجوم فرضت كموضوعة جديدة في تاريخ الفن التشكيلي و كانت مفضلة لديه حيث بدأها في باريس و استمر فيها في آل ( جنوب فرنسا ) حتى نهاية حياته. ويمكن القول بأنه بدأ مرحلة التعبير عن الأشياء اللامرئية والأحاسيس الحقيقية وموسيقى جسد الكائن وهسيس اللون والنغم الكوني من خلال ضربات فرشاة مرنة تبهرنا بنور غريب، ومعاني جديدة يستمدها من الطبيعة مضيفا لها خياله وإرادته ، وكأنه يريد ان يحول الطبيعة إلى رمز روحي تصوفي . فنجمته المتلألئة في سماء زرقاء موحشة، تعبر عن حلم الإنسان وأمله الكامن في المدى الغامض والبعيد، ومن اجل هذا أصبح اللون الأساس الجوهري لفنه. وهنا أصبح أسلوبه الفني واضحا من حيث انه لايعتمد من خلاله على إعادة تصوير الأشياء والكائنات والتعبير عما يراه، وإنما استخدم الألوان والخطوط والتناغم أو التنافر الإيقاعي للتعبير عن الأعماق الداخلية لذاته استرشادا بمفهوم الفنان بيسارو حول ضرورة مبالغة الفنان في التأثير من خلال استخدامه الألوان .
ففي لوحته مقهى ليلي التي أنجزها عام 1888 عن جو إحدى المقاهي التي تعمل حتى الصباح و يلجأ لها الغرباء التائهون عندما يشعرون بالوحشة في مدينة غريبة .وإحساس فان كوخ بوحدته ووحشته في مدينة مثل آرلس جعلها لوحة متفردة . وكما يؤكد هو في أحد رسائله بأنه أراد في هذه اللوحة أن (يرمز إلى ذلك المكان الذي يتحطم فيه الإنسان ويتمزق ويستحيل إلى إنسان تائه أحمق، ينتظر في العدم) وبالتأكيد فان هذا البعد الفلسفي في فهم عدمية الكائن ومحيطه يمنح الفن آفاقا جديدة. وبالرغم من أن الكاتب هنري بيرشو يؤكد بان اللون الأحمر والأخضر الكثيفان و الطاغيان في اللوحة هما رمز لحب الإنسانية الجنوني، إلا إنهما يضاعفان أيضا من تراجيدية ووحشة كائنات اللوحة التي تنتظر شئ ما بسكونية غريبة.
أما في لوحة مقهى في الليل فتعتبر (ترتيلة حب لسكان المدينة والعالم) فاللون الأصفر يفرض وجوده وكثافته، فهو يشع لدرجة الربط بينه وبين النور لأنه يقوم بتأكيد الوجود أو مكونات الحياة والتركيز على الأشياء وإظهارها ليوجدها لذاتها، وبهذا فان النور (الذي يبدو هنا عدوا للزمن) لا ينفصل لا عن الإنسان ولا عن الحياة ، انه يدخل معهما في فرضية الوجود على عكس الزمن الذي يفرض تآكل الموجودات والأشياء تدريجيا ولهذا يخاطب كوخ أصدقاؤه من الرسامين (لينير نوركم نفوس الناس، أعتقد ان هذا هو واجب كل فنان) من هذا المنطلق قام كوخ بتكثيف اللون الأصفر طامحا ان يأخذ سمات نور ملتهب وبالرغم من اكتظاظ فضاء اللوحة، إلا إننا نشعر بالخواء الروحي ليس في داخل الإنسان فحسب بل أيضا ذلك الخواء الذي يخلقه المكان ومكوناته ، فالأبواب والنوافذ الخضراء مشرعة في ظلام أزرق مخضر شاحب، وما يؤكد هذا الخواء هو ان كراسي المقهى ومناضدها تشعرك بوحدتها وعزلتها كما في مقدمة اللوحة، وكأن جلاسها قد غادروها تواً للذهاب إلى الفردوس أو إلى جحيم آخر .
إما البشر في اللوحة وبالرغم من حركتهم التي توحي بأنهم أحياء و يتكلمون فيما بينهم، إلا انهم يبدون وكأن هنالك سرا أو فاجعة ستشيع في المكان لذا فمن السهولة ان نشعر بسكونهم ووحدتهم وعزلتهم، وكأن هنالك قوة ما ستسلب وجودهم، ويؤكد هذا تلك العربة المنبثقة من ظلام البرزخ Partition الكثيف في العمق، وكأنها عربة الموت التي لابد لنا ان يطغي ضجيج حوافر خيلها على كل الأصوات .
و بما أن الألوان لدى كوخ أصبح لها معادلها ورموزها التأويلية ـ الميتافيزيقية، لذا فان هذا السقف الأزرق الموحش الذي يهيمن على عالم اللوحة يبدو كأنه سماء الأبدية، فليس النأي السديمي للنجوم هو الذي يتلألأ فيها بل تبدو وكأنها ألأمل وقد تحول إلى ثريات بيضاء معلقة في سماء قريبة عن الإنسان . ان عمق اللوحة الذي يتكثف في ظلام دامس يعبر عن المجهول في ذاكرة الإنسان. والألوان بالرغم من الكونتراست إلا ان هنالك هارمونيا تطغي على كل شئ حتى مع الفتاة ذات الرداء الأحمر المتجهة نحو هوة الموت الجحيمي في عمق اللوحة المضئ بالأزرق نوع ما.
وسيتكرر هذا الجو الليلي الغريب في لوحة نجوم الليل فوق رونه 1888 فسينعكس ضوء النجوم التي تشبه الثريات على صفحة البحيرة الهادئة بشكل مشع وكأنها توهجات نار متوحشة تتلألأ خارجة من الماء ويلغي الفنان كل ملامح موجودات اللوحة ماعدا عجوزان(رجل وامرأة) يسيران في مقدمة اللوحة باتجاه المشاهد وكأنهما تائهان أو مغموران سعادة بعد ان تذكرا ماضيهما عندما وقفا على جرف البحيرة قبل لحظات. وستتكرر وحدة ووحشة رجل وامرأة مرة أخرى في لوحة (حديقة الشعراء عام1888) حيث يسيران مستوحدين في الظهيرة تحت شجرة سرو ضخمة ، لكن هارمونية ألوان هذه اللوحة تغرينا بسماع الصمت الضروري لكتابة قصيدة في هذه الحديقة .
أما لوحة نجوم الليل التي رسمها في 1889 فتعتبر من لوحاته الرئيسية لعلاقتها بموضوعة لوحات الليل كما يشير
Ingo F. Walther (فهي تعد من الأعمال المهمة التي تعامل من خلالها مع الطبيعة بخيال حر دله على شكل ولون أكدا جوا محددا ومتميزا في مستقبل عمله الفني بعد ذلك. إنها تتراء كلحظة كونية درامية عاصفة تتشكل في السماء على هيئة تيارين ملتحمين فيما بينهما. واحد عشر نجما هائلة الحجم تشع بحدة وسط ليل ازرق داكن يبزغ فيه قمر برتقالي كأنه الشمس وشريط ضوئي عريض يتجه مسرعا ليخرج من الأفق، وتبدو سماء اللوحة وكأنها في اضطراب عنيف . ومن السهولة ان نحصل على هذا الانطباع القوي والمباشر نتيجة لقوة العاصفة الهائلة)
إن اهتمام ورسم فان كوخ لنجوم الليل لابد أن يذكر المرء بنجمة الصباح التي رسمها الفنان دوبيني التي حاول أن يضفي عليها الشاعرية والسكينة والهيبة التي تعم الكون المسكون بالأسرار، وان يودعها إحساس الإنسان الوحيد التائه الذي يشعر بالحزن عندما يقف متأملا في هذا النجم المضيء النائي. وبالتأكيد ان فان كوخ يعرف هذا الإحساس عندما بدأ يرسم حلمه الليلي .
لقد عمد الفنان في لوحاته الأخيرة للتعبير عن عمق الموسيقى وشعرية الرؤيا في علاقته بديناميكية أشياء اللوحة . لكن في مجمل لوحاته عن أشجار الزيتون أو أشجار السرو أو حقول الحنطة الذهبية حاول تأشير تلك الحركة غير المكررة التي تشبه حركة ثنايا اللؤلؤ الداخلية، وفي ذات الوقت توحي بدرامية وتراجيدية الموضوع.
ذاكرة الأشياء المتوهجة في النار المتوحشة
كما يستنطق سلفادور دالي الأشياء بوعي شعري ماورائي، كذلك الأشياء مثل الأثاث والمزهريات والأحذية والكراسي وعباد الشمس التي تبدو كطبيعة جامدة ، كانت ذات علاقة حميمية مع فن فان كوخ . بمعنى انه يتعامل معها بطريقة توحي بأنه يمنحها استقلاليتها فتمتلك حركتها وإيقاعها معنى جديدا . لذا يمكننا ان نشعر بوجود نوع من نستولوجيا الأشياء وحضورها المتوهج عندما يتمظهر وجودها المكثف في اللوحة، لان الإنسان لا يمكن ان ينفصل عن أشياءه فهي جزء من ذاكرته، لذا فأنها ككيان مستقل وارتباطا بالزمكان يمكن ان تؤشر أثر الإنسان وهمس مشاعره ومن هنا يمكن التأكيد على الالتصاق الروحي المتبادل للإنسان بالأشياء الالتصاق الروحي للأشياء بالإنسان.
فكرسي غوغان الذي رسمه كوخ إكراما له وابتهاجا بحياتهما المشتركة يمكن ان نلاحظ في خطوطه وحركية الألوان، سمة من الاحتفالية والاستقرار الذي استشعره كوخ عند انتقال غوغان للعيش معه في البيت الأصفر في مدينة آرلس جنوب فرنسا، وهذا معبرا عنه في هارمونيا اللوحة وطغيان اللون الأخضر الذي يوحي بالأمل. وغبطة الموضوع تشعرك بحنين للصداقة التي تشع بنورها من شمعة معلقة تشع في خلفية الفضاء الأخضر، وأخرى على الكرسي وبجانبها كتابين، إنها المعرفة غير المحدودة والوعي المكثف اللذان يخلصان العقل من محدود يته وسكونيته وبؤسه ويخلصان كذلك الروح من سجن جسدها. ويكون هذا الأمر أكثر تجليا عندما يوضعان على قاعدة كرسي خضراء توحي بأحلام تمناها فان كوخ كثيرا و أرادها ان تكون بمثابة الحصانة الداخلية ضد ضيقه وتذمره وقرفه من الحياة وخشونة الواقع .
ويمكن كذلك اكتشاف التعبير عن تشيوء الإنسان من خلال التعبير عن حاجاته وتحولاتها، فهو يعبر عن الكائن العضوي من خلال حذاءه ومزهرياته أو حاجياته اليومية التي يستخدمها لكنه يمنحها بعدها الميتافيزيكي الذي يحررها من واقعيتها. ونظرة مقارنة لكرسي فان كوخ وكرسي غوغان نكتشف الفروق السايكولوجية وإيقاع التعامل مع الحياة والغموض والتعقيد من جانب، والبساطة والتفاؤل من جانب آخر .
أما لوحة (الحذاء) المشهورة (والتي رسمها بأوضاع مختلفة) فان الفنان يضع فيها كل إمكانياته التقنية وتجاربه في اللون وتماسك الموضوع، فهو حذاء متفرد في خصوصيته، ففي الوقت الذي يعبر عن بؤس الإنسان إلا انه مرسوم بإتقان وجمالية عالية لدرجة يمكن مقارنتها مع أية لوحة أخرى عن حياة جامدة رسمها فنان من عصر النهضة يتقن صنعته. لكن هذه اللوحة تثير غضب طبقة المجتمع المسيطر لأنهم يكرهون رؤية الجانب البائس في الحياة لان هذا يعكر صفو أحلامهم الوردية، فهم لم يتعودوا أن يعلقوا في صالونا تهم لوحة لحذاء بائس (كطبيعة جامدة) هم ذاتهم خلقوا بؤس محتذيه.
وفي لوحة الكرسي ولوحته الشهيرة The Bedroom ولوحاته الأخرى التي يعتبرها النقاد طبيعة جامدة عبر فان كوخ من خلالهما عن وجود الإنسان وتحولات أشياءه، وبالرغم من استقلالية وعظمة هذه الأشياء، إلا أننا نشعرها كوجود يعكس الحالة الاجتماعية والنفسية للإنسان ولكنها في ذات الوقت تمتلك أسطوريتها ومثيولوجيتها المطلقة، وهذا مايفرض العلاقة الهذيانية والهمس الوجودي بين الشئ والفنان الذي يجعلها جزءا من عالمه الفني ليعبر من خلالها عن سمو وسقوط الإنسان في مرحلة معينة . لكن يظل كرسي فان كوخ وسريره الخشبي يقلقاننا كوجود فني وكأشياء لها مثيولوجيتها المطلقة بالرغم من ان الزمن يجعل الأشياء في الحياة بلا فائدة بعد ان يتخلى الإنسان عنها.
وبعد ان عاد فان كوخ من زيارته لثيو وزوجته في باريس والتقى فيها الفنان تولوز لوتريك، شعر بوحدته ويأسه من كل شئ حتى من ذلك الأمل المتبقي له في الحياة، فانغمر بالرسم كوسيلة وحيدة تربطه بالحياة والعالم الآخر. لذلك فان الفنان في الشهر الأخير وقبل انتحاره كان يرسم بمعدل لوحة واحدة في اليوم. لذا فان لوحته الأخيرة (حقل حنطة وغربان) تفرض نوعا من توجس لوني وإيقاعي يعكس تشاؤم فان كوخ ذاته من الحياة، وتعبر عن إحساسه " بالحزن والوحدة ". ففي كل ضربة فرشاة أو لون أو هارمونيا أو تنافر يعبر عن إصراره على يأسه وعبثية الوجود وعلى التمسك بالانتحار معبرا عنه بذلك الطريق الأحمر الممزوج بأحمر متعرج يمتد حتى يتلاشى في العمق البعيد وكأنه تعبيرا رمزيا لحياة الإنسان حيث تتكامل بمرور الزمن ثم تتلاشى رويدا رويدا . لكنه لا يشكل منظورا أو أفقا ما في عمق اللوحة وإنما هنالك التحام بين سنابل القمح الصفراء النارية بالسماء الزرقاء المدلهمة،فتتشكل وحدة هارمونية مع الألوان الأخرى، لذلك فان ألوان هذه اللوحة تعطي انطباعا بتغيرها مع تغير الضوء المسلط عليها أو تغير ضوء النهار، مما يوحي بان هذه الألوان تبرز مجسمة تود الخروج من أفق اللوحة . وبالرغم من الهارمونيا إلا أن ألوان الحقل الملتهب تحت الشمس ، والسماء القاتمة التي تنذر بسر ما، هي ألوان متنافرة تقطعها حركة غربان سوداء في حالة هجوم على حقل الحنطة وكأنها رسل الموت أو الفاجعة وسط عاصفة على وشك الوقوع في حقل حنطة يتوهج بالنضج والخير. وهذه الحركة العنيفة تنسجم مع حركة سنابل القمح التي منحتها الفرشاة ديناميكية، وبالتأكيد فان هذا هو تعبير عن إحساس فان كوخ بالقسوة والعنف الذي مورس ضده. ولكن هنالك إحساس بكلية الموضوع وهذا يعني كلية الوجود ودائرية الكون. ففي هذه اللوحة لا يمكن الفصل بين الجزء والكل، القرب والتنافر، الألفة والوحشية، النار المتوحشة وهارمونية الحركة. لقد رغب فان كوخ في هذه اللوحة توديع عالمنا بصفعة تحققها طقوسية الأصفر والأزرق، وان يرينا دروب حياتنا المليئة بالأسى والتي تتلاشى في أفق غامض لانرى نهايته بيسر. ولكن كوخ كان دائما يجعل الإنسان يمتلك عاطفة لاهبة وشعورا متفردا إزاء مايراه من أفق ملتهب بحقول الحنطة وكأن حرارة الشمس التي تحرق الموجودات في اللوحة هي التي تقرر مصائر الناس الذين يحرثون في هذه الحقول وكأنهم يبحثون عن المجهول أو عن الله الذي تخلى عنهم ن وعندما يخيب أملهم يتوهون في هذه الحقول بلا هدف .
يخبرنا كولن ولسن في كتابه اللامنتمي بان فان كوخ عاد إلى ذات المكان الذي رسم فيه لوحة حقل حنطة وغربان وهو يتمتم (لا فائدة .. لا فائدة .. مستحيل) وبالتأكيد فان هذا نتيجة لازدياد الشعور بفشله في الحياة (كانت حياتي انحدار لامفر منه نحو الهاوية . ما الحياة إلا مصيدة وكنت أتحاشى دائما الوقوع فيها، لكن فات الأوان) وبصمت أطلق النار فاخطأ القلب وكان شاهده شجرة سرو وغربان وحقل حنطة تهمس سنابله وسط طبيعة صامته.. فحمل أمعاؤه وعاد إلى غرفته . وعندما سأله المحقق بشكل فض وبلا احترام عن سبب انتحاره أجابه بهدوء (انه جسدي و أنا حر بالتصرف به، لا تتهموا أحدا).. وعلى كتف أخيه ثيو قال كلمته الأخيرة (لن تنتهي التعاسة أبدا من العالم) وتلاشت روح الفنان رويدا .. رويدا كما تلاشى الطريق الترابي الأحمر في ذات اللوحة، لكن صدى هذه الصرخة مازال يتردد حتى الآن ليس في الحقول التي انتحر فيها وإنما في فضائنا الكوني وفي حقولنا الروحية المضيئة ، لأنها من فنان مفجوع بألم إنساني بالرغم من انه جاهد كثيرا لتحويل ألوانه إلى نور يضئ أرواح الآخرين . وبالتأكيد ان 37 سنة عاشها الفنان كرحلة ضوئية غير كافية لكي يكمل لوحته الكونية التي يبغي ،بالرغم انه تحمل فيها جميع عذاباتنا كالقديسين .
عناوين اللوحات التي درستها وأشرت لها هي:
( وهذه مهمة ) The potato Eaters
(مهمة )The night Café
( مهمة ) Paul Gauguin s Armchair
(هذه جدا مهمة)The Café Terrace, Arles
(هذه مهمة للدراسة)Starry night over The Rhone
The Poets Garden
Still Life of Shoes
The starry night
The Bedroom
(هذه مهمة أيضا لأنها آخر لوحة وارتبطت بانتحاره)Wheat Field with crows



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طنجة .... برزخ الابداع والمنفى
- أسطورة النار المقدسة في الأزمنة المنسية
- الجسد والحضور الميتافيزيقي للشعر البصري
- عبد الرزاق المطلبي واحلام كانت مرمية في الطريق) سر التجسد)
- تعاويذ الحب وتوهج الجسد في بهو النساء
- الحضور الابداعي للكتابة عن المسرح
- باشلار و ظاهراتية الصورة الشعرية
- منفى المثقف في شمال الكوكب
- لا رحيق لزهور تنبت في أرض غير أرضها
- جــدلية الأحــلام بين المتنكــرين و الرعيــة عندما يتحول الم ...
- توهج الذاكرة ........مرثية لعامل الطين وقارئ الفلسفة محاولة ...
- ذاكـــرة المــرآة
- الأقمــــار المنســــية
- عزلة الشاعر في أحلامه - عدنان الزيادي إنموذجا
- النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف
- توهج الذاكرة الفنان إبراهيم جلال وغربة المسرح في وطنه
- خليل شوقي وليالي شجون المسرح العراقي
- توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان
- المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
- الفضاء السميولوجي لعمل الممثل


المزيد.....




- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - فان كوخ .... رحلة ضوئية باللون والجسد للتطهير من العنف