|
|
الظاهراتية بين الوجود كوعي والوجود ككينونة هوسرل مقابل هايدغر
احسان طالب
الحوار المتمدن-العدد: 8573 - 2025 / 12 / 31 - 16:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هوسرل: الوجود كوعي حرصا على عدم التكرار سنستخدم (هوس) دلالة على هوسرل، و(هاد) دلالة على هايدغر. يرى إدموند (هوس) مؤسس الظاهراتية (phenomenology) أن مهمة الفلسفة هي دراسة الوعي ذاته وتجربته للعالم. بالنسبة له الوجود هو وجود الظواهر كما تظهر لنا في وعينا. يركز (هوس) على: أن الوجود ليس شيئا خارجيا مستقلاً بل هو دائما لـ شيء ما يظهر ويتجلى في الوعي. الوجود يظهر لنا عبر التجربة الواعية. وأن الذات المتعالية ( Transcendental Ego) هي النواة الأساسية للوعي التي تنظم وتعطي المعنى للعالم كوجود ظاهر في عالمنا. هذه الذات ليست جزءاً من العالم الطبيعي، بل هي الأساس الذي يجعل العالم ممكناً في تجربتنا وفي معرفتنا. الإنسانية: الإنسان هو في الأساس ذات ووعي. وجوده (الإنسان) هو وعيه بذاته وبالعالم وقدرته على "قصد" الأشياء ومنحها تصورات قصدية. هايدغر: الوجود كـ "الكينونة" والوجود-في-العالم انطلق مارتن (هاد) من الظاهراتية الهوسرلية ولكنه انتقدها بتشدد وطورها بحسب رأي البعض، ورأى أن (هوس) أهمل أهم سؤال فلسفي: وهو سؤال الوجود ( Being ) نفسه. بالنسبة لهايدغر الوجود ليس مجرد ظاهرة في الوعي، بل هو شيء يجب أن يُفهم من خلال وجود الإنسان نفسه. فالوجود (Sein) (يكون) هو مفهوم مركزي في فلسفته، وهو الشيء الذي يجعل الوجود ممكناً ولأن هذا المفهوم مجرد وصعب الفهم. يرى (هاد) أن السبيل الوحيد لفهمه هو دراسة الكينونة (Dasein) أي وجود الإنسان. أن يكون في حالة معينة، في موقف معين؛ أن يكون معرضا لظروف معينة؛ أن يكون لديه صفة معينة، أو مزاج معين، أن يكون بصحة جيدة، متعبا، مرحا وما إلى هنالك من حالات لحظية وظرفية متباينة. يعارض (هاد (فكرة (هو) عن "الذات المتعالية" كمفهوم للوجود، ويرى أن الذات هي الكينونة Dasein)) وهي ليست شيئاً منعزلاً، بل هي دائماً وجود-في-العالم، أي الإنسان لا يوجد ثم يدخل إلى العالم، بل هو جزء لا يتجزأ من العالم الذي يحيط به ويتفاعل معه. الإنسانية: وجود الإنسان (الكينونة) ليس وعياً منعزلاً، بل هو وجود متلقى ( thrown ) في عالم معين (الزمانية)، ووجود مشغول ( preoccupied ) بالعالم من حوله (الوجود-بجانب-الشيء). الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدرك أنه زائل (الوجود-نحو-الموت) وأن وجوده هو مشروع دائم. يمكننا تلخيص التباين الأساسي بين (هوس) و(هاد) كبداية وتسهيل وصياغة واضحة بالآتي: منهجيا (هوس) يبدأ من الوعي لفهم الوجود. (هاد) يبدأ من الوجود الإنساني (الكينونة) لفهم الوجود، ويركز (هوس) على الذات المتعالية كمركز للمعنى. (هاد) يرفض هذا التركيز ويرى أن الذات مرتبطة ارتباطاً جوهريا بالعالم والزمن، ويسعى (هوس) لتأسيس فلسفة علمية دقيقة. (هاد) سعى لإعادة طرح السؤال عن معنى الوجود نفسه. التجربة المعيشة والإدراك الحسي لدى (هوس): إن الفارق بين الوعي والتجربة المعيشة هو نقطة جوهرية في فلسفة (هوس). الوعي عند (هوس) ليس مجرد حالة "صحوة" بل هو "القصدية" أي أن الوعي هو دائماً وعي لشيء ما. إنه نشاط موجه نحو موضوع معين (مثل الإدراك الحسي، التذكر، التخيل). التجربة المعيشة كمصطلح عميق دقيق، هي كل ما "نعيشه" بشكل مباشر، وهي تشمل الإدراك الحسي (كأن ترى لوناً أو تسمع صوتاً أو تتذوق طعما) قبل أن يصبح له معنى في الظهور، إنها التجربة في حالتها الخام، كما تظهر للذات دون تدخل مسبق من المفاهيم أو الأحكام. التجربة المعيشة هي المادة التي يعمل عليها الوعي القاصد. (هوس) يرى أن الإدراك الحسي بما هو جزء من التجربة المعيشة، ليس مجرد استقبال سلبي للبيانات، بل هو فعل إدراكي واعٍ يمنح الأشياء معنى؛ لهذا فإن الإدراك الحسي ليس منفصلاً عن الوعي بل هو أحد أشكال "القصدية" التي يمارسها الوعي. دليل رفض هايدغر للذات المتعالية لهوسرل هذا الرفض ثابت ومؤكد في الفلسفة القارية وهو يمثل جوهر الانشقاق بين هايدغر وهوسرل. والدليل جاء من صلب فلسفة (هاد) حيث الكينونة مقابل الذات المتعالية. (هاد) يرفض تماما فكرة ان "الذات" هي وعي منعزل، كما هو الحال في الفلسفة الديكارتية التي تأثر بها (هوس). الذات المتعالية لدى (هوس)، كما يفهمها (هاد)، هي "أنا" مجردة تعلِّق العالم لكي تكتشف ماهيتها. في المقابل يرى (هاد) أن وجود الإنسان (الكينونة) هو دائماً "وجود-في-العالم". فالوجود ليس ذاتاً متعالية كما يرى (هاد)، ان فهمنا للوجود يأتي من تفاعلنا العملي مع العالم، وليس من تأمل "ذات" منعزلة. الكينونة ليست وعياً أو ذاتا، بل هي ذلك الكائن الذي يوجد في عالم من الأدوات والمشاريع والعلاقات الاجتماعية، والتي تحدد هويته. (هاد) لم يذكر (هوس) بالاسم في كتاب الوجود والزمان، لتجنب ان يقرأ كتابه كمجرد جدال مع أستاذه، لكن نقده للذات المتعالية كان واضحاً. لقد انتقد (هاد) أي فلسفة تبدأ من الذات أو الوعي باعتبارها نقطة بداية، ورأى ان هذا المنهج يقع في خطأ "الانطولوجيا الذاتية" التي تغفل عن السؤال الأساسي: ما هو الوجود؟. (هاد) يرى أن محاولة عزل "الذات المتعالية" عن العالم هي عملية مصطنعة وغير مجدية، وإن وجود الإنسان كـ "كينونة" هو دائما وجود في سياق زمني وعالمي. الآخر في فلسفة هايدغر عند (هاد) لا يمكن فهم الآخر ككائن خارجي منفصل عني. بل إن الآخر هو جزء جوهري من بنية وجودي ككينونة (Dasein) وهذا ما يسميه الوجود-مع (Mitsein). الوجود-مع (Mitsein): بالنسبة (لهاد)، الكينونة هي دائما "وجود في عالم" و "وجود مع الآخرين" . هذا ليس مجرد وجود إلى جانبهم، بل وجود تشاركي. فالعالم الذي أوجد فيه هو عالم مشترك، والأدوات التي أستخدمها هي أدوات "لدينا" . حتى في وحدتي، فأنا وحيد في عالم مبني على أساس من "الوجود-مع". الوحدة والجمهور (Das Man) : الوجود-مع ليس دائما وجودا أصيلا . غالبا ما نكون مسيطرين من قبل "الجمهور" وهو الأنا العامة غير الأصيلة. في هذا الوجود غير الأصيل، لا أكون أنا نفسي بل أكون "الواحد" (the one)، الذي يفعل ما يفعله الجميع. هايدغر يرى أن هذا يمثل هروباً من القلق الوجودي ومن المسؤولية عن وجودنا. بشكل أساسي الوجود بالنسبة لـ(هاد) هو وجود اجتماعي بالضرورة، الآخر ليس شيئا نكتشفه بعد أن نكون أنفسنا بل هو أساس وجودنا من البداية. البينذاتية وليفيناس: نقد الوجود إلى الأنطولوجيا هنا يأتي الاختلاف الجذري، خاصة مع الفيلسوف إيمانويل ليفيناس الذي يرى أن فلسفة (هاد) رغم عمقها لا تزال تقع في فخ "الأنطولوجيا" (فلسفة الوجود) وتغفل عن "الأخلاق". بالنسبة لليفيناس، (هاد) يدمج الآخر في عالم "الكينونة" و"الوجود-مع" بمعنى أن الآخر يصبح مجرد كائن آخر (a being) ضمن عالمي، يتم فهمه من خلال "مشروع" الكينونة. هذا المنهج لا يعطي الآخر ما يستحقه كـ غير قابل للاختزال. مفهوم "وجه الآخر" (The Face of the Other): في مقابل مفهوم الوحدة مع الجمهور. يرى ليفيناس أن الآخر لا يمكن فهمه من خلال أي مفهوم، (قالب) بل يظهر لي من خلال "وجهه". هذا "الوجه" ليس مجرد وجه مادي، بل هو ظاهرة أخلاقية، إنه يتجاوز عالمي ويقدم لي أمرا أخلاقيا: "لا تقتلني" لأنني أختلف معك بالهوية (مثال). هذا الأمر يتجاوز كل ما هو وجودي أو معرفي أو جمالي. البينذاتية عند ليفيناس: هي ليست مجرد علاقة بين ذاتين بل هي علاقة أخلاقية أساسية؛ الأنا ليست هي الأصل، بل هي تتأسس من خلال لقائها مع الآخر الذي يطالبها بمسؤولية مطلقة. يكمن الجدل الذي أشرنا إليه سابقا أن (هاد) يرى أن علاقتنا بالآخرين هي علاقة أنطولوجية (وجودية) أساسية، حيث الوجود-مع هو جزء من بنية وجودنا كـ "كينونة". بينما ليفيناس يرى أن هذه العلاقة هي في الأساس أخلاقية، حيث الآخر يتجاوز أي فهم أنطولوجي ويطالبنا بمسؤولية مطلقة. الجدل إذن ليس حول وجود الآخر من عدمه، بل حول مكانة الآخر في الفلسفة هل هو موضوع يُفهم من خلال الوجود، أم هو مصدر أخلاقي يتجاوز كل وجود؟ مقتبسات من أقوال (هوس) و(هاد) - حول الذات المتعالية، في كتابه تأملات ديكارتية يوضح (هوس) مفهوم "الأنا" الخالص الذي يبقى بعد عملية التعلق الظاهراتي: الاقتباس: "الأنا المتعالية هو اسم لمجموع الأفعال القصدية الحية للوعي التي تُكوِّن العالم" المصدر: Cartesian Meditations, Section 43 تأملات ديكارتية. - حول القصدية، في كتابه "أفكار نحو ظاهراتية خالصة يصف هوسرل القصدية بأنها السمة الأساسية للوعي: الاقتباس: "بالقصدية، نعني تلك الخصوصية التي تتمتع بها التجارب في أن تكون وعياً لشيء ما" المصدر: Ideas I, Section 37، الأفكار الممهدة - حول الكينونة والوجود-في-العالم، في كتابه "الوجود والزمان"، يرفض هايدغر فكرة الذات المنفصلة ويُعرِّف الوجود البشري من خلال علاقته بالعالم. الاقتباس: "يشير تعبير "الوجود-في-العالم" إلى البنية الأساسية للكينونة. إنه يعني أن وجود الكينونة مرتبط دائماً بعالم، وهو ليس أبداً ذاتاً منعزلة". المصدر: Being and Time, Section 12 الوجود والزمان - حول الوجود-مع، يعزز هايدغر فكرة الوجود الاجتماعي للكينونة كجزء من بنيتها الأساسية في "الوجود والزمان". الاقتباس: "الكينونة هي في جوهرها وجود-مع... عالم الكينونة هو عالم مشترك". المصدر: Being and Time, Section 26 الترنسدنتالية الهوسرلية: يمكننا القول بأن الترنسندنتالية المتعالية هي ذروة الابستيميلوجيا الهوسرلية وأنها نهاية مستويات التعليق التي ذكرها هوسرل في كتاب الأفكار الممهدة، وهي الغاية المنهجية. يُظهر هذا الطرح أن التعليق الظاهراتي ليس غاية في حد ذاته، بل هو مجرد أداة منهجية، فالهدف من التعليق ليس إنكار وجود العالم، بل هو الوصول إلى مستوى الوعي الخالص، أي الذات المتعالية، التي هي مصدر كل معنى. يرى (هوس) أن العالم كما ندركه في حياتنا اليومية (العالم الطبيعي) هو "معطى". ولكي نفهمه فهما أساسيا يجب أن "نعلق وجوده المادي وننتقل إلى مستوى الوعي الذي "يكونه". هذا المستوى هو ما يسميه هوسرل "الوعي الترنسندنتالي" أو "الذات المتعالية"، وهذا نهاية درجات التعليق، ما يعني أن (هوس) يرى أن التعليق يؤدي بنا إلى نقطة لا يمكن تجاوزها بالشك أو بالرد أو التجاوز، هذه النقطة هي الأنا المتعالية نفسها بما أنها الأساس المطلق للمعرفة. شيء لا يمكن الشك فيه، ووجد هذا الأساس في يقين الوعي بذاته (أنا متأكد من وجودي كوعي، حتى لو شككت في وجود العالم الخارجي). يعتبر كتاب "أفكار نحو ظاهراتية خالصة" وثيقة تأسيسية توضح العلاقة بين هذه المفاهيم. في هذا الكتاب، يقدم هوسرل الخطوات المنهجية للتعليق (فصوله الأولى) ثم ينتقل إلى وصف عالم الوعي الخالص (الذات المتعالية) الذي يتم الكشف عنه من خلال التعليق. ملاحظات (هوس) المنهجية في "الأفكار الممهدة" ليست مجرد تعليمات، بل هي إصرار على أن الفلسفة يجب أن تكون علماً دقيقاً يستند إلى التجربة الداخلية للوعي بالعودة إلى الأشياء نفسها"، ولكن ليس الأشياء المادية، بل الأشياء كما تظهر في الوعي، مع التركيز على الماهيات. إن القول بأن الترنسندنتالية المتعالية هي ذروة الإبستمولوجيا الظاهراتية صحيح، لأنه يحدد هدف (هوس) في الوصول إلى أساس مطلق للمعرفة يتجاوز العالم الطبيعي، وذلك من خلال منهج صارم من التعليق. الأزمة والعلم هل أزمة الأمم الأوروبية هي في العلم أم في المنهج وهل الأزمة علمية أم روحية؟ بالنسبة إلى هوسرل الأزمة ليست علمية، بل هي أزمة روحية. وهذا هو جوهر انتقاده. يقدر هوسرل الإنجازات المذهلة للعلوم الطبيعية، مثل الفيزياء والرياضيات. وهو لا يهاجم المنهج العلمي في حد ذاته، بل يرى أنه يمثل "يقينا شبه مطلق". لماذا؟ لأن هذا المنهج يعتمد على افتراضات معينة ولا يضعها موضع شك. - اليقين شبه المطلق: العلم الطبيعي يفترض وجود عالم موضوعي ومستقل عن الوعي، ثم يدرس قوانينه. هذا المنهج حقق نجاحات كبيرة، لكنه يترك السؤال الأساسي دون إجابة: ما هو الوعي الذي يدرك هذا العالم؟ وما هو المعنى الذي يمنحه له؟ - اليقين المطلق: يرى هوسرل أن اليقين المطلق لا يمكن العثور عليه إلا في عالم الوعي الخالص، أي في الظاهراتية المتعالية. الأزمة الروحية يقول هوسرل في محاضرته "أزمة العلوم الأوروبية". "الأزمة لا تتعلق بالدقة العلمية أو المنهج العلمي، بل بمصير الإنسانية الأوروبية نفسها. إنها أزمة روحية" العلوم الطبيعية أصبحت النموذج الوحيد للمعرفة، وتم إهمال الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود والمعنى والقيم، العلم أصبح غريبا عن الحياة الإنسانية، فهو يصف العالم كأشياء بلا معنى وقيم، بينما الإنسان يعيش في عالم ملئ بالمعاني، بتجاهل الأسئلة الوجودية، فقدت الإنسانية الأوروبية "أساسها الروحي" الذي كانت تبحث عنه الفلسفة في الماضي. لذلك يرى (هوس) أن الحل ليس في التخلي عن العلم، بل في إعادة توجيهه. يجب أن تدمج العلوم ضمن فلسفة أوسع تضع الإنسان والوعي في المركز، وتعيد للعلم دوره في خدمة الحياة الإنسانية، أن (هوس) لا ينتقد العلم بل ينتقد الموقف الذي أصبح فيه العلم هو الحقيقة الوحيدة مما أدى إلى ازمة عميقة في روح أوروبا. الفينومينولوجيا منهج لكل العلوم. إن المعرفة معطاة في الحدس والمطلق، وإن الوجود هو وجود في الوعي، وإن الحدس المطلق قادر على كشف الحقائق بمنهج ظاهراتي يعتمد على تراكم الخبرة المعيشة والكشف عن الماهيات والجواهر الحقيقية للأشياء. كان طموح (هوس) هو تأسيس الظاهراتية كعلم صارم يوفر أساسا لكل العلوم الأخرى، في رأيه العلوم الطبيعية تحقق "يقيناً" في عالم الحقائق المادية، لكنها لا تستطيع أن تمنح الأساس المطلق للمعرفة، أي كيفية ظهور هذه الحقائق للوعي. قدرة الظاهراتية على وضع منهج لكل العلوم هي ادعاء طموح، وليس مسلماً به، المنهج الظاهراتي يتطلب تعليق الافتراضات حول الوجود، وهو ما قد يتعارض مع طبيعة العلوم التجريبية التي تعتمد على هذه الافتراضات لدراسة العالم. ومع ذلك لا يوجد تناقض موضوعي بين العلم والظاهراتية، بل على العكس، كل منهما يريد التأسيس لمعرفة يقينية لا شك ولا لبس فيها، ويعتمد العلم على منهج تجريبي متدرج من الاستدلال ليتوسع ليصل لاستقصاء شامل عبر صحة نتائج التجربة المتكررة العابرة للزمكان، الظاهراتية عند (هوس) تريد تأسيس قاعدة منهجية صارمة لكل العلوم بالعودة لماهيات الأشياء وصولا للحدس المطلق المتمثل في الأنا الترنسندنتالي. الحدس الماهوي والكشف عن الماهيات نقطة الارتكاز الأهم في القاعدة التأسيسية لبنية الظاهراتية كمنهج لكل العلوم هي مبحث "الحدس الماهوي" أو ما يسمى أيضا الحدس الأيدي (eideticintuition) هذا الحدس ليس "صرفا" بمعنى الإحاطة بكل شيء، بل هو إمكانية خاصة على إدراك الجوهر (الماهية)، تلك القدرة ليست عملية تراكمية من الخبرات المعيشة فقط، بل هي قفزة إدراكية تتجاوز تفاصيل الخبرة الفردية لتكشف عن الماهية الكلية، على سبيل المثال، إدراك ماهية "اللون الأحمر" لا يتطلب رؤية كل الأجسام الحمراء في العالم، بل يتطلب إدراك جوهر اللون ذاته. تتحدد قيمة الحدس الإيديتي في المشروع الهوسرلي بكونه النقلة النوعية من "الواقعية الساذجة" إلى "العلمية الصارمة". فإذا كانت الإبستمولوجيا التقليدية قد انشغلت بالفصل بين الذات والموضوع، فإن الحدس الترنسندنتالي يأتي ليعيد تأسيس المعرفة على أرضية "المعطى المباشر". الانتقال من العيني إلى الماهوي (التنوع الإيديتي): إن الحدس الإيديتي ليس مجرد عملية تجريد ذهني كلاسيكية، بل هو فعل رؤية مباشرة للماهية (Eidos). عبر آلية "التنويع التصوري"، يتم تحرير الظاهرة من عوارضها الزمانية والمكانية للوصول إلى "البنية الثابتة" التي بدونها لا يمكن تصور الشيء. هنا، تصبح الإبستمولوجيا علماً للضرورات القبلية، لا مجرد رصد للاحتمالات التجريبية. الوعي الترنسندنتالي كأفق للبداهة: يصل الحدس إلى ذروته عندما يمارس الوعي ارتداده نحو ذاته (الرد الترنسندنتالي). في هذه اللحظة، لا يعود الحدس قاصراً على الأشياء الخارجية، بل يمتد ليشمل "بنية الوعي" نفسها. إنها اللحظة التي تدرك فيها الذات أنها ليست مجرد مستهلك للمعرفة، بل هي "أفق القصدية" الذي يهب المعنى. هذا هو جوهر تمكن الإبستمولوجيا: أن تصبح المعرفة مبنية على؛ حالة الوضوح الكلي؛ إدراك فوري تام، يقين يدل على الحقيقة "البداهة المطلقة" حيث يتطابق القصد مع المتحقق في الحدس. بناءً على مشروعنا النقدي، يمكننا القول إن الحدس الترنسندنتالي عند هوسرل يمثل "المسؤولية الإبستمولوجية" في أقصى صورها؛ فهو يرفض التسليم بالمعطيات الجاهزة أو النظريات المسبقة، مطالباً بالعودة إلى "الأشياء ذاتها". هذه العودة هي فعل أخلاقي معرفي يهدف إلى تخليص العلم من أزمته عبر استعادة المعنى الأصيل للوجود الإنساني داخل عالم الحياة. الحدس الإيديتي ليس مجرد أداة منهجية، بل هو الأساس الأنطو-إبستمولوجي الذي يجعل من الفينومينولوجيا "علماً كلياً". إنه يحول "الأنا" المجرد من مراقب سلبي إلى "أنا ترنسندنتالي" يمتلك القدرة على معاينة الحقيقة في حضورها الحي، مما يجعله الذروة التي لا يمكن تجاوزها في أي مشروع يسعى لتأسيس المعرفة على اليقين. الوجود هو وجود في الوعي هذا هو جوهر الظاهراتية المتعالية. بالنسبة لهوسرل، الوجود لا يمكن فهمه إلا في علاقته بالوعي. فالشيء "يوجد" لأنه "يدرك" بواسطة وعي. العالم، في هذا السياق، هو "مكون" في الوعي. نقد: هذا الطرح هو بالضبط ما أدى الى الانشقاق الأهم في تاريخ الظاهراتية. هايدغر يرفض فكرة أن الوجود هو وجود في الوعي. بالنسبة له، الوجود هو "الوجود-في-العالم" وهو مفهوم يسبق أي وعي أو ذات. إن العالم ليس مكونا من قبل الوعي، بل هو الأساس الذي يوجد فيه الوعي. تحدثنا مرارا في سياقات طرحنا كيف حول (هاد) الوجود إلى مفهوم ميتافيزيقي مبهم، وهو في الأساس وجود واقعي محسوس، فالظاهراتية لا تغوص في الغيب بل بشتى أنواع وأصناف الوجود، أي علينا تحديد وتعريف معنى الوجود فإذا كان هذا النقد يحول النقاش من أبستمولوجيا (كيف ندرك العالم؟) إلى أنطولوجي (ما هو الوجود؟) فنحن إذن نسير على الدرب الصحيح، فمطلبنا ليس فقط كيف نعي العالم "ماهية الوعي" بل أيضا تطلع لمعرفة "ماهية الوجود" بواسطة الحدس المطلق بما هو تعويض الوعي المطلق أو الخالص بمعنى؛ إنه حدس عالمي وليس فردي أي غير مرتبط بالزمكان ولا بالتجربة الفردية. 1- مفهوم الحدس المطلق: هناك فرق جوهري بين الحدس المطلق والحدس الادراكي العادي، إن الحدس المطلق عند هوسرل هو بالفعل حدس عالمي غير مرتبط بالزمكان أو التجربة الفردية. ماهو الحدس المطلق؟ إنه الحدس الذي يكشف عن الماهيات. ليس حدسا لأشياء فردية (مثل هذا الكرسي أو هذه الشجرة) بل هو حدس لجوهر الكرسي أو الشجرة، إنه يمنحنا يقينا مطلقا لا يمكن دحضه، لأنه لا يعتمد على العالم التجريبي. الفرق بينه وبين الوعي المطلق: الوعي المطلق أو الخالص هو في الذات المتعالية التي تقوم بهذا الحدس. أما ذاته فهو الفعل الذي تمارسه هذه الذات أي فعل رؤية الماهيات أنه الذي يعطي للذات يقينا تاما حول الماهية كما هي. الشيء في ذاته هو الحامل والمحمول بعبارة أخرى هو الذات والموضوع، فالقلم كذات هو تلك الأداة التي نستخدمها للكتابة بشتى أشكالها المتنوعة، والقلم هو موضوع، فعندما أقول فلان صاحب قلم فقد أعني مفكر، أو كاتب أو مقرر ..إلخ . تكلمنا عن "الوعي المطلق أو الخالص و الذات المتعالية التي تقوم بالحدس المطلق، هنا يظهر وكأننا جمعنا المفاهيم الثلاث وكأنها ذات واحدة، هناك ضرورة لوضع حد لكل منها، لتفكيك الاستشكال في اعتبارها "ذات" واحدة. الشرح: مفهوم "الحد المنهجي" (ما هو؟) دوره النقدي (ماذا يفعل؟) "علاقته بـ مفهوم "الذات". الوعي الخالص هو المجال أو الحقل الذي تظهر فيه الظواهر بعد عملية الرد (Epoche). هو الشهود الذي يتيح للشيء أن يظهر كما هو، مجرداً من الأحكام المسبقة. ليس كذات مُمثلة أو مشخصة، بل هو حد أو أفق لإمكانية الظهور. "الذات المتعالية" هي المركز المُنظِّم أو القطب الذي تصدر عنه الأفعال القصدية. هي التي تمنح المعنى وتضمن وحدة التجربة عبر الزمن هي الأنا بصفته وظيفة معرفية علوية، وليس كياناً سيكولوجياً. "الحدس المطلق" هو الفعل أو الأداة التي يتم بها معاينة الماهية في حالة الامتلاء، هو اللحظة التي يتطابق فيها القصد مع المعطى، في لحظة الانبثاق المعرفي عبر آلية التواصل بين الذات والوعي الخالص. لماذا لا يصح اعتبارها "ذاتاً" واحدة؟ الشرح: يرتكز ذلك النفي إلى جملة من الاختلافات والتباينات، تجعل كل واحد منها مفهوما قائما بذاته مستقل ومتوافق في نفس الوقت. ويتعلق ذلك التوافق والاستقلال ب"البنية، والوظيفة وتجنب التذويب أو الصهر في وحدة ذاتوية، تفسد دقة وموضوعية الاستقراء والكشف المعرفي الذي نقوم به ونحرص عليه. رأينا أعلاه كيف يختلف المُكون الآتي لكل منهم؛ الوعي "مجال"، والذات "مركز"، والحدس "فعل". صهرها في ذات واحدة يجعل من الفلسفة كما أصفه بـ "سياحة وجدانية" أو (فيض خاطر) لأنه يلغي المسافة المنهجية الضرورية للفحص والتدقيق. كما نلاحظ في مثالنا أعلاه عن القلم؛ عناك تعدد وظيفي؛ القلم (كموضوع) يختلف عن القلم (كرمز للمفكر). وبالمثل، الذات المتعالية قد تمارس الحدس، لكنها ليست هي الحدس نفسه. إذا كانت هي الحدس، فسيغيب دورها أو وظيفتها بمراقبة عملية تكوين المعرفة. أي عملية الضبط والتنظيم لإجراءات الحصول والتحقق من المعرفة. حسب منهجنا الدقيق الموجب للفصل والحد بين المفاهيم نقوم بعملية تجنب "الأنا المنغلق"، فاعتبار الذوات الثلاث ذاتاً واحدة يؤدي إلى "سوليبسزم" (وحدوية الأنا) حيث يبتلع الوعيُ العالمَ والآخرَ ويصبح وعي الفرد منغلقا حول ذاته، في حين فصلها يسمح بوجود سياقات متوازية تتيح ظهور المسؤولية تجاه الآخر (الذي هو موضوع في وعيي ولكنه ذات مستقلة في مجاله الخاص). تُعبّر الأنانية المطلقة في سياقاته المفهومية عن مقولة "أنا العقل الوحيد الموجود"، أو مقولة أقل انغلاقا "حالاتي الذهنية هي الحالات الذهنية الوحيدة". لنضرب مثالا: تسبب نيزك ضخم نتيجة اصطدامه بكوكب الأرض بالقضاء "تقريبا" على الجنس البشري بفعل ذبذبات صوتية عالية جدا دمرت كل أدمغة البشر على سطح الكوكب، إلا قلة قليلة نادرة، متفرقة، كل واحد من الناجين وجد نفسه فريدا ووحيدا (كناجِ وحيد) يمتلئ وعيه بإحدى هاتين الفرضيتين، وهو بحكم طبيعة وجوده الظاهر أمامه محق، ربما يكون ذلك الوجود من حيث الشكل شبيها بـ "الإلقاء" الدازاين الهايدغري، لكن مع مرور الوقت بدأ كل ناجِ وحيد" يلتقي بآخر، وبدأ يعيد النظر بمقولة. إن "الوجود" يعني، من حيث المبدأ، وجودي ووجود حالاتي الذهنية. الوجود هو كل ما أختبره بتجربتي المعاشة، وبفعل التواصل والتبادل بين "مجموعة الناجين" بدأ يتكون وعي مشترك يستعيد ويسترجع ذاكرة كل واحد منهم منفردا، أشياء مادية، أشخاص آخرون، ذكريات وتجارب عاطفية ومادية، أحداث كونية كالزلازل، والحروب والصراعات، بالمجمل أحداث ووقائع تجمعت وتكونت وعمليات تم ترتيبها باستخدام آلية الزمكان في عالم تعايش متداخل مع الآخرين، هنا بدأ الوعي يستعيد محتوى نظري متعالي، وبدل الأنانوية أخذت تظهر الذات المتعالية، فالوعي لا يقتصر الأمر على تصوراتي و أفكاري وتجاربي ومشاعري ، كحقيقة بالنسبة لي وعرضية أو عارضة بالنسبة للآخرين، فلم تعد الأفكار والتجارب والمشاعر الذاتية وحيدة في الوعي، فالناجي الوحيد في القطب المتجمد الشمالي بعد سنوات من الوجود كملقى وحيد، التقى بناجِ آخر من شرق المتوسط، واكتشف الاثنان أن "طعم" مياه البحر مالح واحد لديهما وأن شوي لحم السمك ألذ، مسألة لا خلاف عليها، وتناول الماء العذب هو الوحيد الذي يطفئ نار الظمأ، و و و الكثير الكثير مما لا نهاية له يشكل حدسا مشتركا خاصة بعد لقاء آخر مع ناج من أعماق أفريقيا الاستوائية، هكذا لم يبقَ لصاحب النزعة الفردية المطلقة حق مطلق بأن يعتبر أي معنى فردي خالص يكمن الحقيقة الكاملة، وشيئا فشيئا سيكتشف الجميع أن هناك جوهرا وماهية للماء والنار والسمك وللألم واللذة وحتى الظمأ كمشترك كوني بين الجميع في الوجود، تلك الماهيات هي التي تملأ الحدس الماهوي، وتقوم الأنا المتعالية كواسطة ووعاء للوعي المطلق. ومع حضور وجود لأفكار وتجارب ومشاعر أخرى غير متفردة لكل واحد من مجموعة الناجين. ينسجم الفهم مع المنهج الظاهراتي الهوسرلي الذي يشتغل جاهدا للتخلي عن الوهم والسفسطائية البحتة والعدمية، فالأنانوية ممتلئة بوهم أنها مركز الوجود أو الوجود مركز فيها، لذلك هي تقصي الآخر رغم زعمها بالتعايش مع، كونها غارقة باستحضار هم تجربة التناهي والموت. عندما نضع حداً لهذه المفاهيم، نحن نحمي "الشيء في ذاته" من أن يتبخر في تجريدات الوعي. القلم يظل قلماً، والوعي يظل الأفق الذي يظهر فيه القلم، والذات تظل هي التي "تكتب" أو "تفكر" بهذا القلم. أثر هذا الفصل في يظهر تقوية "قاعدة الإحكام الأخلاقي"؛ ويساهم في أن فصل "الذات" عن "الوعي الخالص" يجعلها أكثر قدرة على تحمل المسؤولية تجاه "الآخر" بصفته غيراً لا مجرد امتداد للوعي. هكذا نصل لاستيعاب ضرورة لفصل "الذات" من أجل تحمل المسؤولية؛ صحيح أنني قلت الشيء في ذاته هو (الذات والموضوع) لكن ذلك أتى من استقلال "الذات"؛ أي افتراق الذوات فلكل ذات كيانها وموضوعها، لأنه بدون هذا الفصل تُغيّب المسؤولية، فالذات مسؤولة عن إرادتها والموضوع الذي تتبناه كمحمول لها، والوعي الخالص هو وعي بينذاتي وليس فردي، والآخر كما قال ليفي هو وجه أي كيان "ذات" قائمة في مواجهتي وليست غائبة في وجود محمول في العالم. نقدم هنا "فينومينولوجيا الافتراق" كشرط للمسؤولية، وهذا طرح راديكالي مفارق لوحدة الوجود الهاملتية، نسبة لهاملت شكسبير، حالة شك وتردد ما جعله يشكك في وجود الخير والعدل، ويبحث عن معنى لوجوده في عالم يبدو بلا معنى، وهو ما يدفعه للتأمل في الموت والحياة، في حين يسعى هاملت إلى فعل يضمن انتصار الحقيقة وخلودها وحدة في المعنى والغاية، لكن بدون السير في سياق منهجي واضح المعالم، أو وحدة وجود الهايدغرية.ـ التعايش معاـ وعي الجمهور، كما كان واضحا الربط مع فرضية "الناجي الوحيد" حيث كشفنا عن وجود ماهوي مشترك، وهنا نقدم الآليات للهيمنة على معنى ممتلئ بعيدا عن تيه هاملت وسرابية الوجود الهايدغري. الاتساق المنهجي يتجلى من خلال العرض الآتي: لدينا "ذات" و"وعي" و"آخر" ككيانات معنوية وجودية متمايزة ومتداخل في صلب وحدة وجودية نسقية منتظمة. 1. "الذات" كمركز للمسؤولية (الإرادة والمحمول) لقد جعلنا استقلال الذات شرطاً للمسؤولية. فالمسؤولية لغوياً وفلسفياً تقتضي "ثنائية": (طرف مسؤول) و(طرف يُسأل تجاهه) فإذا ذابت الذات في الوعي الكلي، تلاشت المسؤولية. لكن عندما تكون الذات مستقلة بكيانها، تصبح مسؤولة عن "إرادتها" وعن "الموضوع" الذي تتبناه (محمولها). هذا الربط يجعل المسؤولية "فعلاً قصدياً" واعياً ومحدداً، وليس مجرد شعور هلامي. 2. الوعي الخالص كأفق "بينذاتي" كحامل وموضوع من خلال فهمنا لـ (هوس).لا نعتبر الوعي الخالص "كهف" يسكنه الأنا وحده، بل هو "الأثير العام" الذي يسمح لكل الذوات بلقاء الآخرين كذات منفردة ومستقلة أيضا. هذا يحل معضلة "الأنا المنغلق"؛ فالوعي هو "اللغة المشتركة" والحوض الجاذب حيث تحضر، وتظهر فيه الذوات لبعضها البعض، دون أن تذوب أو تتلاشى فيه. 3. الآخر كـ "وجه" مواجه (استعادة ليفيناس بإحكام) استحضارنا لليفيناس هنا (الوجه) في مقابل "الوجود المحمول في العالم" عند هايدغر. عند هايدغر: الآخر غالباً ما يكون "موجوداً هناك" كأداة أو كجزء من أثاث العالم. عندنا (بناءً على ليفيناس): الآخر هو "كيان ذات" يقف في مواجهتي. هذه "المواجهة" هي التي تخلق نداء المسؤولية، الآخر ليس "موضوعاً" أدرسه، بل هو "ذات" تواجهني تساءلني، تشك في أحكامي، وقد ترفض أن أعتبرها مماثلة لي أو مساوية، فلكلِ تميزه وحقه ومسؤوليته في الوقت ذاته. .بناءً على افتراق الذوات، وتطلب لوعي الماهيات نحكم بأن لا تتحقق المسؤولية الأخلاقية إلا بـ افتراق الذوات واستقلال كياناتها؛ فكل ذات هي مركز إرادة مسؤولة عن محمولاتها ومواقفها، والوعي الخالص ليس شرنقة للأنا، بل هو أفق بينذاتي، يتيح للذات مواجهة الآخر بوصفه وجهاً، أي وجودا حاضرا متمثلا متجسدا، وكياناً مستقلاً، لا مجرد محمول كموضوع ملقى هناك داخل وجود نعجز عن إدراك ماهيته بتغافلنا عن "الأنا الترنسندنتالي المثالي" كل هذه المحددات ضمن نسق فينومينولوجي ممنهج تؤهلنا لفهم المسؤولية وفهم "وجودنا" ومنع تبرئة الذات ؛ إذ يضع الأنا في حالة استحقاق دائم تجاه الآخر، محولاً المسؤولية من همهمة وجدانية إلى التزام وجودي محكم بين ذوات متمايزة. بهذا الفصل، نملك الآن أداة قوية لنقد هايدغر. فإذا كان هايدغر قد جعل الدازاين "مهموماً بوجوده الخاص، فإننا نطالب الذات أن تكون "مشغولة بمسؤوليتها تجاه وجه الآخر. وعليه يمكننا القول إن "الخطيئة المنهجية" عند هايدغر (أو خيانته لمنهج الإحكام) تمثلت في أنه جعل الآخر "محمولاً في العالم" (أي مجرد تفصيل وجودي) بدلاً من أن يجعله "ذاتاً مواجهة. لأن استقلال الذات وافتراق الذوات" كشرط لا غنى عنه للمسؤولية، مع تمييز الوعي الخالص كأفق "بينذاتي" يجمعنا دون أن يصهرنا، نريد أن نتخذ من مفهوم "الوجه" (كمواجهة بين ذوات مستقلة) معياراً لفحص "لا أخلاقية" بعض أطروحات الفلسفة وسيتجلى ذلك في أكثر من موضع داخل الفصل الأكبر من هذا المرجع كما أقدمه كإكمال للموسوعة الفينومينولوجية. علاقه الحدس الخالص، أو المطلق، باليقين: هذا النوع من الحدس هو أساس اليقين الأبوديكتي وهو اليقين الذي يهدف إليه هوسرل. على سبيل المثال يمكنني أن أشك في وجود هذا القلم في يدي الآن لكن لا يمكنني أن أشك في ماهية الشيء "قلم" أو في ماهية "الفكرة القلمية" التي أدركها الآن بتجلياتها الحية والواعية. فأنا أفهم من السياق كيف توظف المفردة كشيء مادي ملموس أو كشيء معنوي مقصود. الحدس الماهوي ليس تراكما بسيطا وليس نتيجة لتراكم الخبرات المعيشة، بل بتحولها لخبرة محدوسة، فنحن لا نستطيع تحديد ماهية "اللون" الرمادي، الأصفر، البرتقالي، إلخ... عن طريق رؤية كل شيء برتقالي نراه أو نتصوره في العالم، فتراكم الخبرات هنا هو تراكم في الحدس كأداة منهجية للكشف عن الماهية. نحن نمارس تحليل ظاهراتي يحتوي عملية " التغيير الحر في الخيال" فالخيال ليس صندوقا أصم مغلق بل هو مفتوح يستوعب كل جديد ويولد تصورا متجددا، في هذه العملية نقوم بتراكم مجموعة من الأمثلة المتخيلة لنفس الظاهرة (مثل الكرسي كأداة مصنوعة من الخشب الذي تحصلنا عليه من الشجرة، بأشكال وقياسات بلا حدود، أيضا قد يسوقنا الكرسي الخشبي لاستعادة الشجرة كنموذج متناسق ونافع ومثمر ورمز جمالي ورمزي معرفي ورمز لأصل وتشعب النسب، هكذا نقوم بحرية شبه تامة بتغيير السمات والعلامات وتوظيف الإشارات، نغير بحرية في حين يستمر شيء ثابتا في جميع هذه التغيرات الأصيلة والمستجدة وهو الماهية تكون لدينا وهو هذا الثابت هو ما ندركه من خلال الحدس الماهوي، وهو موجود في الحدس المثالي، إذاً "تراكم الخبرة هو إعداد تدريبي منهجي للوعي يؤهله لرفع الحجب والكشف عن الجوهر". من أجل ذلك نحن نمتلك قدرة توظيف المنهج الظاهراتي في دراسة كل العلوم، ببساطة يمكننا القول الظاهراتية الفيزيائية، أو الظاهراتية اللغوية، أو الظاهراتية الأدبية ... إلخ، ذلك التوظيف يتحقق بخطوتين منهجيتين أساسيتين: الأولى التعليق (Epoche) ونريد وضع جميع افتراضات العلم جانبا في الفيزياء: بدلا من الافتراض بأن "الجسيمات موجودة بشكل موضوعي ومستقل" نقوم بتعليق هذا الافتراض مؤقتا، في الأدب: بدلا من الافتراض بأن "القصيدة هي مجرد تسلسل من الكلمات على ورقة" نقوم بتعليق هذا الافتراض؛ الهدف من التعليق ليس انكار وجود الجسيمات بل هو تحويل تركيزنا من الشيء في ذاته إلى كيفية ظهور هذا الشيء لنا في الوعي الثانية التحليل القصدي والرد الماهوي: بعد التعليق ننتقل إلى تحليل البنية الأساسية للظاهرة كما تظهر للوعي، لا تدرس الظاهراتية الفيزيائية الجسيمات نفسها ولا قوانين الكم والقوة والكهرباء والسوائل..إلخ ، بل يمكن أن تدرس الخبرة المعيشة للعالم الفيزيائي، كيف يدرك الفيزيائي مفهوم "الكتلة" أو "القوة" ؟ ما هي البنية القصدية للوعي؟ عندما يقوم الفيزيائي بملاحظة ظاهرة طبيعية أو تجربة علمية؟ يمكن أن تدرس "كيف لظاهرة الاحتباس الحراري أن تؤثر في طبيعة التفكير البشري وتكشف كيف نحدد المسؤولية الأخلاقية عنها"، باستخدام الرد الماهوي يضع الظاهراتي أمام عينيه هدف الكشف عن ماهية "التجربة الفيزيائية" ويفتش عما هو الجوهر الذي يجعل أي تجربة فيزيائية ممكنة وما هي الماهية الأساسية للملاحظة العلمية، وهكذا ننطلق نحو مسارات متولدة باستخدام تطبيقات المنهج الظاهراتي. كذلك هو حال الظاهراتية الأدبية، لا تدرس النص ككائن مادي، بل تدرس الخبرة المعيشة للقراءة أو ماهية القراءة ذاتها، هي لا تحدد جودة النص لكنها تحلل ظاهرة النص الأدبي وتتقدم خطوة لتحلل ماهية أنطولوجيا النص الأدبي الإغريقي، أو الجاهلي، أو القاري، أو المهجري. بتطبيق التحليل القصدي تكشف كيفيات قارئ الشخصيات الأدبية، كيف يكون وعيه "عالما" كاملا من مجرد كلمات تمر وتظهر أمام عينيه وتتحول تلقائيا لمعاني، وتنحاز الاستعارات ورموز مقصودة ومحجوبة، في حين يكشف الرد الماهوي ماهية "العمل الأدبي" وما هو المكنون أو الجوهر الذي يجعل القصيدة شعرا، والرواية بمفهومها الفني الأدبي رواية بصرف النظر عن محتواها، ما هي الماهية الأساسية لفعل العيش في عالم متخيل في نطاق الخيال العلمي والسريالي. إن قول "منهج لكل العلوم" لا يعني أن الظاهراتي سيذهب إلى المختبر أو يحلل النصوص الأدبية وفقا لقواعد النحو والبلاغة بشكل مباشر. بل يعني أن الظاهراتية تسعى لتأسيس "كليات منهجية" أو "أساس فلسفي" لكل هذه العلوم. الظاهراتية كفلسفة تأسيسية للكليات المنهجية. الظاهراتية ليست علما يضاف إلى العلوم الأخرى، بل هي فلسفة تأسيسية هدفها هو الكشف عن الأساس الأنطولوجي للمعرفة، لا تسأل عن "ما هو الشيء" بل تسأل عن "كيف يمكن للشيء أن يظهر للوعي". إنها تبحث عن الشروط القبلية التي تجعل أي معرفة علمية ممكنة على الاطلاق. فكل العلوم تستمد معانيها من عالم الحياة وهو العالم كما نعيشه بشكل مباشر قبل أن تقوم العلوم بتجريده وتنميطه. أزمة العلوم الأوروبية في نظر هوسرل هي أنها نسيت هذا الأساس وأصبحت تعتقد أن مفاهيمها التجريدية (مثل الذرة أو القانون الرياضي) هي الحقيقة الوحيدة مما أدى إلى فقدان المعنى، وبروز المعنى الفارغ كصياغة منمقة متناسقة كفلسفة. فالنقد الهوسرلي موجَّه للعلوم كما هو موجَّه للفلسفة. إذن عندما نقول الظاهراتية الفيزيائية، كمثال، لا نقصد فيزياء جديدة بل نقصد التأمل الفلسفي في أساس الفيزياء، بل فهم الوعي الفيزيائي، الظاهراتي لا يحلل الظاهرة الطبيعية نفسها، بل يحلل "وعي هذه الظاهرة" عند عامة الناس وكيف يفهم الفيزيائي الظاهرة الطبيعية ويجعلها قابلة للوصف الرياضي، وما هي القواعد المنطقية التي ينبغي عليه العمل على أساسها لكي يحدد "قانونا" في ظاهرة طبيعية، تلفت نظره إلى أن التجربة العلمية ليست مصدرا أخيرا أو وحيدا للحقيقة، وأن الحقيقة أوسع وأشمل من التجربة وأن قوانين الفيزياء ليست مجردة من المسؤولية وليس مستخدمها حياديا بالمفهوم الأخلاقي. الظاهراتية تعطي الحق لنفسها بتحليل المنهج الفيزيائي نفسه، وكيف تتحول الخبرة المعيشة للعالم إلى معادلات رياضية، كيف يمكن للعالم الرياضي الوصول للبداهات بعيدا عن المنهج التجريبي، كيف يمكن لفيلسوف يتأمل في الوجود أن يتصور فكرة انتظام حركة الكواكب والمجرات بصورة متماثلة لانتظام عناصر الذرة الداخلية، كيف تحول الاتساق الكوني لفعل مدرك في بنية الذرة. يمكننا القول أن هدف المنهجية الظاهراتية هو وضع الأسس المنهجية العامة التي تمكن من فهم كيف تبنى المعرفة في كل علم وذلك من خلال العودة إلى عالم الحياة الأصيل الذي تتأسست عليه كل تجريدات العلم. وستكون تلك القاعدة المنهجية موظفة في بنية نظريتي المسؤولية والوعي التي خصصت لها فصلا كاملا ضمن تفصيلات هذه الأطروحة.
#احسان_طالب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماهية المسؤولية، من خلال استعراض لتاريخ الفلسفة الظاهراتية (
...
-
نظرية إحسان طالب في المسؤولية والوعي اليقين الماهوي والحدس ا
...
-
الدولة ما بين هيوم وهيغل. مبحث فينومينولوجي
-
نقد نظرية ميشال فوكو حول السياسة الروحية. نظرية الخميني ونظر
...
-
الوعي بالشعور سُبل التفكير الايجابي
-
في مفهوم الديموقراطية الالتباس والواقعية السياسية
-
ثقافة التسامح بين الفكر الوصفي والفكر الغائي وفي ضوء علم الن
...
-
الفرق بين النويما والنويزس في فلسفة أدموند هوسرل*
-
ثنائية العقل والنقل تفكيك التعارض دراسة فلسفية*
-
الاقتصاد الإسلامي التحديات والآفاق دراسة مقارنة
-
الكَلِماتُ والْمَعاني ما يُعَوَّلُ عَلَيْه بَيْنَ الفَلْسَفَ
...
-
القاموس التاريخي لفلسفة هوسرل جون جيه. دروموند
-
التجديد الديني، في المعنى والتاريخ. مقاربات الأصوليين والإصل
...
-
أصل المعرفة هل حقا المعرفة النهائية لا أدرية كما يدعي هربرت
...
-
محاورة إحيانون، الاستدلال والقياس
-
جدوى الفلسفة نظرية المعرفة
-
الإشكالات الأساسية في الفلسفة
-
ما هي الفلسفة
-
مقالات التنوير 10 عقدة أو مركب التفوق الحضاري
-
مقالات التنوير 9 الأصولية ليست حلا عقلانيا الراديكاليون الجد
...
المزيد.....
-
فيديو متداول لـ-حرق منزل الخميني في طهران خلال الاحتجاجات-..
...
-
بعروض -استثنائية-.. دبي تدخل عام 2026
-
-تفجير انتحاري- يستهدف دورية للشرطة في حلب.. والسلطات السوري
...
-
كواليس اجتماع ترامب–نتنياهو.. هل يمهّد لقاء فلوريدا لضربة جد
...
-
في خطاب رأس السنة.. بوتين: روسيا ستنتصر في أوكرانيا
-
أمم أفريقيا…منتخبا الجزائر والسودان يتأهلان لدور الـ16
-
خبراء: هذا ما حصل عليه نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة
...
-
ماذا يخبئ نتنياهو وترامب بعد الاتفاق على فتح معبر رفح؟
-
وثائق للجزيرة تكشف مخطط جنرالات الأسد للتحرك عسكريا ضد دمشق
...
-
إسرائيل وعدوى الانفصال من -أرض الصومال- إلى اليمن
المزيد.....
-
أسباب ودوافع السلوك الإجرامي لدى النزلاء في دائرة الإصلاح ال
...
/ محمد اسماعيل السراي و باسم جبار
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
المزيد.....
|