أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد القطاونة - العمارة الإسلامية الروحية: استعادة الإنسان في زمن الهيمنة المادية














المزيد.....

العمارة الإسلامية الروحية: استعادة الإنسان في زمن الهيمنة المادية


محمد القطاونة

الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 10:07
المحور: قضايا ثقافية
    


في زمنٍ تتسيد فيه العمارة المادية وتُختزل فيه المدينة إلى كتل إسمنتية ووحدات وظيفية، يعيش الإنسان اغترابًا صامتًا داخل فضاءات صُمِّمت لتؤدي وظيفة، لا لتحتضن روحًا. هذا الانفصال بين الإنسان والمكان لم يعد انطباعًا ذاتيًا، بل تؤكده نظريات علم النفس البيئي (Environmental Psychology) التي ترى أن الفضاء المعماري يؤثر مباشرة في الإدراك، والطمأنينة، والسلوك، والطاقة النفسية. فالعمارة ليست خلفية محايدة للحياة، بل عنصر فاعل في تشكيل الوعي الإنساني، وهو ما توضحه بعمق نظرية المكان (Place Theory) التي تعتبر أن المكان حامل للمعنى، ومكوِّن للهوية، وليس مجرد فراغ هندسي. في مقابل هذا النموذج المادي، تتجلى العمارة الإسلامية بوصفها ممارسة حضارية واعية، تجمع بين الهندسة الفراغية (Spatial Geometry) والبعد الروحي، وتوظف المادة لخدمة المعنى. لم تُبنَ المساجد والبيوت والأسواق في الحضارة الإسلامية وفق منطق الاستهلاك أو الاستعراض، بل وفق منطق الانسجام الكوني. استخدام النسبة الذهبية (Golden Ratio) في القباب والأقواس، والاعتماد على التماثل والتكرار الهندسي، لم يكن ترفًا شكليًا، بل وسيلة رياضية دقيقة لإنتاج التوازن النفسي والسكينة الداخلية، حيث يستجيب العقل البشري تلقائيًا لهذه النسب بوصفها أنماطًا منسجمة مع الفطرة. الضوء في العمارة الإسلامية عنصر بنيوي لا ثانوي؛ فهو موجّه، مفلتر، ومتدرّج، يتحرك داخل الفراغ ليصنع إيقاعًا بصريًا وروحيًا، كما في الجامع الأموي في دمشق أو مسجد قرطبة، حيث يتحول الضوء إلى لغة صامتة تُنشّط التأمل وتحرّر الإدراك من ثقل المادة. الماء بدوره، في النوافير والساحات، يفعّل البعد الحسي والروحي معًا، منسجمًا مع ما تُسميه النظريات المعاصرة التصميم الحيوي (Biophilic Design)، الذي يربط الصحة النفسية للإنسان بحضوره في فضاءات تتكامل فيها عناصر الطبيعة. الهندسة الزخرفية الإسلامية، القائمة على التكرار اللانهائي والتماثل الدقيق، تمثل تطبيقًا بصريًا لفلسفة التوحيد؛ فهي لا تُغرق الإنسان في الصورة، بل تقوده إلى ما وراءها. وكما يشير تيتوس بوركهارت، فإن الزخرفة الإسلامية «تُحرّر الشكل من أنانيته، وتجعله نافذة على المعنى». هذا النوع من الإدراك البطيء والعميق يتناقض جذريًا مع العمارة المادية المعاصرة، التي تُنتج فضاءات صادمة وسريعة تُربك الحواس وتُعطّل القوى الروحية للإنسان. حتى في العمارة السكنية، يتجلى هذا الوعي بوضوح؛ فالبيت الإسلامي التقليدي، بفنائه الداخلي، يحقق توازنًا بين الداخل والخارج، بين الخصوصية والانفتاح، وبين الكتلة والفراغ. هذا التنظيم الفراغي يُجسّد فهمًا عميقًا للعلاقة بين الإنسان والمكان، ويؤكد ما تقوله نظرية المكان من أن الإنسان لا يسكن الجدران، بل يسكن المعنى الذي تولّده. في المقابل، أدت العمارة المادية الحديثة إلى فضاءات مغلقة ومكررة، تُضعف الروابط الاجتماعية وتُعمّق الإحساس بالعزلة.إن استعادة العمارة الإسلامية الروحية اليوم لا تعني استنساخ الأشكال التاريخية، بل إعادة تفعيل منظومتها النظرية: هندسة فراغية تراعي مقاييس الإنسان، تصميم يُوازن بين الضوء والظل، المادة والروح، العلم والمعنى. فالعمارة، في جوهرها، ليست تقنية بناء، بل خطاب حضاري صامت، قادر إما على تعطيل القوى الروحية للإنسان أو على إيقاظها. وفي زمن الهيمنة المادية، تصبح العمارة الإسلامية الروحية ضرورة إنسانية، لا حنينًا إلى الماضي، بل مشروعًا معرفيًا وأخلاقيًا لإعادة الإنسان إلى مركز المكان.



#محمد_القطاونة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من رصانة المنهج الشرعي إلى انحراف الفهم العقدي - الخوارج أنم ...
- فقه الأولويات العقدي وأزمة البرهنة في علم الكلام
- أدوات الصراع بين الأنسنة والوحي
- تفكيك البنية المعرفية للإلحاد المعاصر: قراءة نقدية في الأسس ...
- ما العرفان ؟
- التخيل المقاصدي في الفقه الاسلامي في حل الإشكاليات المعاصرة
- الدارونية واشكالية المعرفة
- العقل في محراب الوحي لإبراز دورة الحضاري
- المنهج الشكي في مواجهة اليقين
- اولويات النقد الفكري
- الإسلام وعالمية الأبستمولوجيا التشاركية للمعرفة
- اشكالية الدين والدولة
- حرية الفن الإسلامي من التجسيد الوثني والقيد الكهنوتي
- الفن في الفكر الاسلامي
- قراءات نصية: الوحي في النصرانية وظهور الهرمنيوطقيا
- القراءات الحداثوية للنص المقدس ج1
- الاحتجاجي اليوناني والاحتجاج المقدس


المزيد.....




- ترامب يهدد بمقاضاة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول ...
- بعد أكثر من عقد.. استئناف البحث عن الطائرة الماليزية المفقود ...
- السدود المائية، كيف تعمل وما هي فوائدها؟
- إطلاق الألعاب النارية ليلة رأس السنة.. ما المسموح والممنوع؟ ...
- كأس أمم أفريقيا في المغرب: رقص المنتخبات الأفريقية يحظى بإعج ...
- تركيا: -قناة إسطنبول-.. مشروع -جنوني- عملاق مثير للجدل والق ...
- إيران: طلاب الجامعات يلتحقون بالاحتجاجات ...والسلطات تعلن اس ...
- مباراة مرتقبة بين تونس وتنزانيا لافتكاك تأشيرة التأهل
- حرية الإعلام في 2025: عام التراجع القياسي
- نصّ بيان دولة الإمارات بشأن الأحداث الجارية في اليمن


المزيد.....

- قواعد الأمة ووسائل الهمة / أحمد حيدر
- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد القطاونة - العمارة الإسلامية الروحية: استعادة الإنسان في زمن الهيمنة المادية