أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبيدو - محمد بكري… حين يصبح الفن شهادة والذاكرة موقفًا















المزيد.....

محمد بكري… حين يصبح الفن شهادة والذاكرة موقفًا


محمد عبيدو

الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 20:47
المحور: الادب والفن
    


لم يكن رحيل محمد بكري مجرّد غياب فنان عن المشهد، بل خسارة شاهدٍ نادرٍ جعل من الفن فعلَ مقاومة، ومن الكاميرا والركح فضاءين للاعتراف بالحقيقة في زمن يسعى إلى طمسها. بوفاته عن عمر ناهز 72 عامًا، تطوى صفحة جسدٍ، لكن كتاب التجربة يظل مفتوحًا على الذاكرة الفلسطينية والعربية والإنسانية.
وُلد محمد بكري عام 1953 في قرية البعنة بالجليل، في سياق تاريخي لا يجعل الهوية خيارًا، بل قدرًا يوميًا. منذ بداياته، لم يتعامل مع الفن بوصفه ترفًا أو مسارًا مهنيًا محايدًا، بل رآه أداة وعي ومواجهة. درس التمثيل والمسرح والأدب العربي في جامعة تل أبيب، ودخل الخشبة مبكرًا وهو يحمل فلسطين لا كشعار، بل كجسد حي يسكن الأداء والنبرة والنص.
تنقّل بكري بين مسارح “هابيما” و“حيفا” و“القصبة” في رام الله، وقدم عروضًا شكّلت علامات فارقة، أبرزها مونودراما “المتشائل” المقتبسة عن إميل حبيبي، التي أخرجها مازن غطاس، تمكن بكري من تحويل النص الأدبي إلى فعل مسرحي أيقوني، حيث تحوّل الممثل الواحد إلى شعب كامل، يتأرجح بين السخرية السوداء والتراجيديا المؤلمة، بين التفاؤل القسري والتشاؤم العميق. كان المسرح عنده موطن الحرية الأول، مساحة لاستعادة الذات الفلسطينية بلا وسائط. وليقدم قراءة فنية مكثفة للتجربة الفلسطينية منذ نكبة 1948، قراءة لا تكتفي بالتوثيق، بل تفتح أفقًا تحرريًا، يجعل من الفن نفسه أداة للانعتاق.
سينمائيًا، حمل بكري حضوره الإنساني إلى الشاشة الكبيرة، فكان الأسير في “من وراء القضبان”، والمنفي داخل وطنه في “حيفا”، والشاهد الصامت المقاوم في “برايفيت (خاص)”، والأب في “واجب” الذي يواجه أسئلة الهوية والجيل والمنفى الداخلي. أدواره لم تكن استعراضًا للمعاناة، بل تفكيكًا لها من الداخل، بأداء واقعي نفسي عميق، يعتمد الصمت بقدر ما يعتمد الكلمة. وفي الأعمال المتأخرة نسبيًا من مسيرة محمد بكري، لا يعود الممثل مجرد أداة سردية داخل الحكاية، بل يتحول إلى حامل كثيف للمعنى، وإلى جسدٍ تتكثف فيه التجربة الفلسطينية بوصفها حالة وجودية أكثر منها خطابًا سياسيًا مباشرًا. ففي أفلام مثل فيروز لشادي الهمص، والغريب لأمير فخر الدين، وما بعد لمها الحاج، وصولًا إلى اللي باقي منك لشيرين دعيبس، يتجسد بكري باعتباره الإنسان المكسور في صمته، الأسير في حزنه الداخلي، حيث تتراجع البلاغة اللفظية لصالح لغة جسدية دقيقة، تقوم على الإيماءة والنظرة والفراغ. هنا يصبح الصمت بعدًا جماليًا مركزيًا، لا فراغًا دراميًا، بل أفقًا للتأمل يكشف عن التشظيات النفسية التي يعيشها الفلسطيني العادي داخل أمكنة متحولة ومغلقة في آن واحد. هذا الأداء المتقشف، المشحون بالوجع المكتوم، هو ما رسّخ صورة بكري كممثل استثنائي، حتى طغى حضوره التمثيلي على تجربته الإخراجية، على الرغم من أهميتها، ليُعرف في الوعي السينمائي العام بوصفه ممثلًا قبل أي شيء آخر.
غير أن الذروة الأخطر في مسيرته جاءت مع فيلمه الوثائقي “جنين، جنين” (2002)، الذي لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل وثيقة اتهام وشهادة حيّة. لقد كان العمل راديكاليًا ليس فقط في مضمونه، بل في سياقه السياسي والشخصي أيضًا، دخل بكري مخيم جنين بعد الاجتياح، بالكاميرا وحدها، ليترك للضحايا أن يرووا ما حدث قبل أن تجف الدماء. هذا الخيار الأخلاقي حوّل الفيلم إلى زلزال سياسي وثقافي، وفتح على صاحبه أبواب المحاكم والملاحقات وحظر العرض لعقود. ومع ذلك، ظل بكري متمسكًا بحقه في الرواية، مؤكدًا أن الفن يفقد معناه إن لم يقف في صف الحقيقة. غير أن بكري لم يتراجع، بل عاد ليؤرشف معاناته ذاتها في فيلمه اللاحق من يوم ما رحت، الذي جاء كسيرة ذاتية غير مباشرة، تجمع بين الحس الوثائقي والبوح الإنساني، مؤكدة أن السينما لديه فعل مقاومة بقدر ما هي فعل ذاكرة.
حضور محمد بكري في السينما العالمية يعود إلى وقت مبكر، ويشكل فيلم حنا. ك لكوستا غافراس أحد أبرز محطاته المفصلية. في هذا العمل، يؤدي بكري دور الفلسطيني الذي يصرّ على العودة إلى أرضه والمطالبة بحقوقه، في مواجهة نظام قانوني وسياسي مصمم لإقصائه. الشخصية التي يقدمها ليست بطولية بالمعنى التقليدي، بل عنيدة في هشاشتها، إنسانية في إصرارها، ما يمنح الفيلم قوة أخلاقية مضاعفة. وقد شكّل هذا العمل، في زمنه، حدثًا سياسيًا داخل السينما الغربية، دفع ثمنه غافراس نفسه، كما دفعته أصوات سينمائية أخرى ناصرت الحق الفلسطيني، في مواجهة ضغوط اللوبي الصهيوني.
وتتوسع خارطة حضور بكري عالميًا عبر مشاركته في أعمال أوروبية متعددة، من الإسباني The Body، إلى الألماني Giraffada، والبلغاري The Savior، وصولًا إلى الفيلم الإيطالي Private لسافيرو كوستانزو، الذي نال جائزة أسد المستقبل في فينيسيا. في هذه الأعمال، لا يظهر بكري كمجرد ممثل عربي يؤدي دورًا نمطيًا، بل كفاعل درامي مركزي، يضفي على الشخصيات عمقًا إنسانيًا يتجاوز الخصوصية المحلية ليخاطب وجدانًا كونيًا، خاصة في معالجته لتفاصيل الحياة اليومية تحت الاحتلال.
ويأتي فيلم كل ما تبقى منك (2025) إخراج شيرين دعيبس ليشكل خاتمة رمزية لمسيرة سينمائية ظلت وفيّة للقضية الفلسطينية، من دون الوقوع في المباشرة أو الشعاراتية. مرة أخرى، نجد العائلة الفلسطينية بوصفها نواة السرد، والذاكرة بوصفها محركًا للفعل السياسي، في امتداد عضوي لأدوار بكري السابقة. إلى جانب ذلك، حافظ حضوره التلفزيوني في أعمال مثل عرب لندن وHomeland على بعده الدولي، من دون أن يفقد صلته بجذوره الأولى.
لم يفصل محمد بكري يومًا بين فنه ومواقفه. رفض التطبيع، ورفض أن تُختزل هويته في مواطنة قانونية مفروضة، وكان يردد ببساطة حاسمة: “أنا فلسطيني، وهذا لا يُناقش”. دفع ثمن ذلك تهميشًا عربيًا أحيانًا، ومطاردة إسرائيلية دائمة، وصعوبات تمويلية بلغت حدّ أن تموّل زوجته ليلى بعض أفلامه بالقروض. لكنه اختار البقاء في أرضه، مؤمنًا بأن العالمية لا تتحقق بالتنازل، بل بتحويل التجربة المحلية الصادقة إلى خطاب إنساني.
ترك بكري أكثر من 43 عملًا بين التمثيل والإخراج والتأليف، ونال جوائز دولية مرموقة، لكنه ترك قبل ذلك مدرسة أخلاقية وجمالية. أسلوبه تميّز بالبساطة المكثفة، بالاعتماد على الإنسان العادي، على الصوت الحقيقي، وعلى الصورة غير المزخرفة. كان يرى الفن فعل شهادة لا وسيطًا محايدًا، والتمثيل مسؤولية لا مهنة.
رحل محمد بكري وترك خلفه عائلة فنية كاملة، أبناءً حملوا الضوء والخشبة من بعده، وترك قبلهم أثرًا لا يُمحى في الوعي الثقافي الفلسطيني. في غيابه، لا يُغلق الستار، بل يُعاد فتح السؤال الذي عاش من أجله: ماذا يعني أن يكون الفنان شاهدًا؟
محمد بكري لم يكن اسمًا في سجل الفن، بل ذاكرة تمشي، وصوتًا قال “كفى للاحتلال” بلغة الصورة والإنسان. رحل الجسد، وبقي الأثر… وبقيت فلسطين حاضرة، لأن أمثال بكري جعلوا من الفن جذرًا لا يُقتلع.



#محمد_عبيدو (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سينما الغجر: حين يتحوّل الهامش إلى سردٍ إنساني متمرّد
- -واتو ووتي / جميعنا-… حين تنتصر الإنسانية على الخوف
- مدائح لروحك الغريبة
- -بين أو بين-... حين يلتقي الخيال بالواقع على الحدود الجزائري ...
- سينما كيبيك في بجاية: تنوّع الرؤى وتقاطعات الهوية
- الشحوب والظلال
- السينما الإفريقية تفقد المخرج المالي سليمان سيسي(1941-2025)
- معرض الفنان -ميزو- بدار نحلة بقصبة الجزائر .. رؤية تشكيلية ب ...
- «السرديات البيئية.. نحو نقد بيئي للرواية العربية» كتاب جديد ...
- المهرجان الوطني للمسرح الفكاهي طبعة ناجحة تحت شعار -الكوميدي ...
- المؤرخة والكاتبة الأمريكية أليس كابلان تقدم روايتها عن الفنا ...
- غياب الفنان التشكيلي والسينوغراف والسينمائي أرزقي العربي
- أميرة الراي الشابة -نورية-
- رغبة غامضة ****!
- وفاة المخرجة شيرين غيث
- تسرب عبر الشجن مصيرك
- مارك غارانغر غياب مصور كبير وموثق وجوه جزائرية
- -إيدير - وداعا
- حزن الثقافة العربية بفقدان مبدعين
- المخرج والمنتج العراقي - قاسم عبد -: المنفى تجربة اشكالية ام ...


المزيد.....




- مصر: وفاة المخرج داوود عبدالسيد.. إليكم أبرز أعماله
- الموت يغيّب -فيلسوف السينما المصرية- مخرج -الكيت كات-
- مصر تودع فيلسوف السينما وأحد أبرز مبدعيها المخرج داود عبد ال ...
- -الكوميديا تهمة تحريض-.. الاحتلال يفرج عن الفنان عامر زاهر ب ...
- قضية صور ريهام عبد الغفور.. نقابة المهن التمثيلية تتدخل وتتخ ...
- إعلان بيع وطن
- أفلام من توقيع مخرجات عربيات في سباق الأوسكار
- «محكمة جنح قصر النيل تنظر دعوى السيناريست عماد النشار ضد رئي ...
- منتدى الدوحة 2025: قادة العالم يحثون على ضرورة ترجمة الحوار ...
- بدا كأنه فيلم -وحيد في المنزل-.. شاهد كيف تمكن طفل من الإيقا ...


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبيدو - محمد بكري… حين يصبح الفن شهادة والذاكرة موقفًا