محمد دحاني
الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 23:31
المحور:
قضايا ثقافية
تقديم
كم هو معقد أن تنشأ في عهد الشمعة وصندلة الميكا والعطلة فدار الجداد ... ثم تجد نفسك فجأة مجبرا على أن تتعايش مع واقع يفرض عليك شكليات ومظاهر وأنماط حياتية مزيفة، ليست بالضرورة نتاج قناعة ذاتية بل فقط لمجرد تأثيرات رأي الآخر ...، نعم رأي الآخر، مهما حاول الكثيرون أن يربطوا سلوكياتهم المظاهرية بالنفس وحب الذات وإظهار نعم الله، فإن عمق الامر يربط تلك السلوكيات بموقف ورأي الآخر، الذي هو أيضا يعاني ويحاول التعايش مع رأي الآخر، والذي لا يعدو أن يكون رأيك وموقفك منه في هذه الحالة.
كيف وصل بنا الامر لبناء نظام اجتماعي يدمر الانسان، يفكك وحدته ينخر في كينونته، يرمي به في متاهة لا متناهية من الاعتقادات والتصورات التي لا يرى الانسان نفسه إلا من خلالها أو من خلال الآخر، يرمي به في بحر السلوكيات المادية والمظاهر التي تحمل قدرا كبيرا من النفاق الاجتماعي والتكلف المطبق على النفس والعقل.
هذا النفاق قبل أن يكون موجها للغير هو نفاق وكذب وبهتان على الذات، التي لا ترى في النفس البشرية إلا القشور، وتتجاهل بل وتنبذ في أحايين كثير معاير الجمال والأخلاق الداخلي والسلوك الإنساني الصرف، قد نحب ونسلتطف قيم الجمال والخلق الحسن، لكننا نكُون في حالة من الافتتان والهذيان حينما تجدبنا الشكليات المادية بكل اصنافها وأنواعها، حتى أننا نضع ميزان لتصنيف البشر بحسبها وحسبها فقط.
الماديات شيء مهم لاستمرار الحياة، لكنها ليست كل الحياة، السيارة أو المنزل أو الملابس أشياء مسخرة للإنسان للاستمرار في الحياة من أجل أداء رسالاته الدينية والأخلاقية والإنسانية. لكنها أصبحت اليوم هي كل الحياة وجوهرها، فأصبح المرء منا يعيش من أجل أن يكتسب تلك الأشياء لذاتها، من أجل مباشرة الفعل التفاخري بين الأهل والأقران وباقي مخلوقات الله عز وجل، عبر منصات وأدوات "التواصل/التباعد" الاجتماعي.
أولا: الثورة التواصلية وتمدد السلوك المادي
لا شك أن الثورة التواصلية التي مازالت متواصلة ولم يعد للعقل قدرة على تصور مآلاتها وحدودها دور رئيسي في بناء المجتمع المادي القائم على التظاهر والتفاخر، وهنا لا بد من التذكير بأن فعل التفاخر مسألة ليست بالجديدة، ولكنها في العقد القديم، عهد ما قبل ثورة التواصل الرقمي، كانت محدودة في إطار مناسباتي عائلي أو قَبَلِي أو داخل مجتمعات صغيرة "الحي أو الدوار".
لقد ساهمت ثورة التواصل الرقمي في إعادة صياغة مفاهيم سلوكية عديدة، لا سيما لدى الأجيال الجديدة، التي وجدة نفسها وسط إمكانيات تواصلية مفتوحة شبه غير محدودة، كما وجدة نفسها أمام أنماط سلوكية يتم الترويج لها داخل الفضاء الرقمي لا تقدر خصوصية الانسان وحرمة البيت والفراش وحرمة العلاقات الإنسانية وتفاعلاته، التي أضحت تعرض جهارا نهارا بدون أي وازع أو رادع لا ديني أو أخلاقي ولا حتى قانوني.
أصبحنا اليوم أمام جيل يكاد يعرض نفسه للعالم شبه عاري من القيم والأفكار، جيل بدون مناعة أخلاقية أو نزعة تقدس الخصوصية، وللأسف الشديد فإن أجيال سابقة له أصبحت هي الأخرى منغمسة في هذا الواقع وهذا الوضع العفن، فقط لأنها تعتقد بان الفضاء الرقمي يمكن أن يكون مدخلها لنجومية غير حقيقية ولثراء واهن وزائف. ثراء يبيع المرء لأجله عفته وكرامته ونخوته وكبريائه، فماذا تبقى من إنسانيته.
لقد ناضل الانسان على مر التاريخ من أجل الحرية، لكنه ناضل أيضا من اجل حماية الخصوصية، لكن الملاحظ الآن أن محركات الحرية المادية استباحة حصون الخصوصية الاخلاقية والقيمية، في إطار تغول الفكر الاستهلاكي المادي، المدفوع بقوة النموذج الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا وفكريا وغزوه للعقول عبر التأثير بشكل كبير في عملية صياغة الوعي بالأخر وبالذات، هذا الوعي الذي يربط قيمة الانسان بقدراته ومقوماته المادية بدرجة أولى حتى لا نقول بشكل حصري.
مع كل عملية ولوج الى الفضاء الرقمي وخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الرقمي "مواقع التباعد الاجتماعي الواقعي" تغزو جهازك عشرات ومئات الإعلانات الترويجية وهذا ليس موضوع هذه الكلمة، إلى جانب ذلك تغزو جهازك عديد الشرائط القصيرة التي يقوم ناشروها بالتباهي والتفاخر بموضوعات متنوعة "سفر، زواج، طلاق، شراء سيارة، شراء منزل، شراء ملابس، ..." وغيرها من الأشياء التي قد تتخيلها وقد لا تستطيع تخيلها.
ثانيا: السعادة والانسان، التافهين وإعادة التعريف.
السؤال الأول الجدير بالطرح تحت هذا العنوان، يتعلق بمدى ارتباط تحقق عنصر الاستمتاع الشخصي بإتيان الفعل المادي، بعنصر النشر وإخبار الآخر؟ فهل هناك علاقة سببية أو شرطية بين العنصرين، وهل الربط مسألة واقعية وملموسة أم فقط مسألة وهمية تتحقق في مخيلة ووهم الناشر.
السؤال الثاني، ماذا سيستفيد الاخر من معرفة أين قضية عطلتك أو كيف قضيتها؟ اللهم أن تثير في نفسه كل المشاعر السلبية اتجاهك واتجاه من هم على شاكلتك. كما يمكن أن تسبب للآخر مشاكل ما كانت لتعترض سبيله لو لم يصادف وأن رأى منشوراتك هو أو زوجته أو أبناؤه.
أنه يا سادة جزء أو وجه من وجوه عصر التفاهة، التفاهة التي أضحت تغزو هواتفنا ومنازلنا وبيوتنا، أصبحت تفرض علينا نمط سلوكيا معين، وإلا اعتبرك التافهون رجعي أو متخلف أو أنك عجوز في تفكيرك ومنهجك في الحياة.
لذلك اعتبر الكثير من فلاسفة النفس البشرية أن الإدراك جحيم لا يعيشه الغافلون، وأن الجهل نعمة يحسد عليها التافهون، ففي كثير من الأحيان تجد نفسك مجبر على الدخول في نقاشات عقيمة مع محيطك الأقرب فالأقرب، نقاشات لا نهاية لها، تتجدد وتتكرر بشكل لا متناهي، فيبح الجدال فيها عدميا والاقناع أو الاقتناع شيء مستحيل.
وهنا لا بد من طرح سؤال آخر، يتعلق بدور الدولة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الاسرة والمسجد والمدرسة والاعلام المسؤول، في الوضع الحالي، يبدو أن الجميع غير منتبه بالقدر الكافي لخطورة المآلات الاجتماعية والنفسية والاسرية لهذه الظواهر، التي ستتعزز خطورتها وستتجلى آثارها السلبية مع تقدم السنين.
الجميع منغمس ومنهمك في تدبير اللحظة وأزماتها، لكن الفراغ في هذا الجانب سيولد لنا عاهات اجتماعية ونفسية، نساء ورجال لا يصلحون لشيء الا للتفاهة، وحتى من سينجو مرض التفاهة، سيجد نفسه محاط بالتافهين.
لقدر أصبح الفضاء الرقمي منبرا لترويج التفاهة والدفاع عنها، ليس هذا فحسب بل أصبحت للتافهين مشروعية الحديث والتنظير والاقناع، طالما أن المتلقي غير محصن من هذه الأدوات وخطابات التافهين في إطار مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تخلت عن أدوارها أو أنها لا تدرك حقيقة تلك الأدوار.
فالفضاء الرقمي يشكل منابر للعاهات الاجتماعية لتولي منبر الخطابة وتمرير رسائل ومفاهيم حول القيم والسلوكيات التي يجب على المرء إتيانها او اجتنابها في علاقته الزوجية او المهنية او الأسرية. بل وتقديم أنفسهم كنماذج لهذه السلوكيات، خاصة في الخطابات الموجهة للمرأة والطفل.
سموم يتم نفثها ليل نهار، صباح مساء. تستهدف المرأة والطفل، سموم تقتحم عليك حرمة هاتفك عبر خوارزميات متحكم فيها، تسعى إلى نشر قيم التسليع والتفاهة وخطاب كراهية النوع والترويج لها، والكثير من المستهدفين يقعون ضحايا لهذا الخطاب بكل يسر.
وما يسائل أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية، هو كيف وصلنا إلى الحد الذي أصبح المجتمع ينتج أفراد وجماعات من غير مرجعيات، لا أخلاقية ولا قيمية ولا علمية ومعرفية ولا إنسانية، يزنون بها ومن خلالها كل المدخلات والمعلومات والمعطيات ويناقشونها. وهذا يتضح أكثر حينما يقوم العامة أثماء المحاججة في النقاشات بمقولات ومقاطع "التيكتوك أو اليوتيب..." دون أن تكون لهم الجرأة على التشكيك في صدقيتها وفي خلفياتها وأهدافها.
إن الأدهى من ذلك، يتجلى في كونهم حينما تواجههم بهذا التشكيك، تُتهم بكونك ذلك الانسان العدمي "عديم النية" الذي لا يقتنع بالحقيقة حتى لو رآها بأم عينيه، وهم يقصدون بالحقيقة هنا، ما يتم الترويج له من قبل من يسمون بـ"المؤثرين"، ولعل تسميتهم تلك تكفي عن كل بيان عن طبيعتهم وأدوارهم، فالعيب ليس فيهم، بل العيب في المتأثرين بأفكارهم ومواقفهم، والتي تتصل بمختلف مجالات الحياة، ولا سيما تصورات تتعلق بطبيعة الحياة ومعنى السعادة والسرور، شكل العلاقات الإنسانية وخاصة العلاقة الزوجية، وذلك بتغليب الطابع المادي الفردي عن كل القيم والمعاني والمسؤوليات التي تتداخل في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية.
الخلاصة:
وخلاصة ما أريد قوله، أن على مؤسسات حماية الوطن التدخل العاجل لتجريم فعل التفاخر الالكتروني، بسبب تهديده للأمن والسلم الأسري والاجتماعي. وإلى جانب ذلك يجب العمل على ضبط نشاط من يطلق عليهم بـ "المأثرين"، لا سيما أصبح المحتوى المضلل والمحتوى غير اللائق أو التافه.
حماية المجتمع وقيمه لا يمكن أن تقيد بما يمكن أن يدعيه البعض بكون الأمر يتعلق بأحد تجليات حرية التعبير، خاصة حينما يتم تضليل المشاهد "المستهلك" وتغليطه في الواقع، عبر ايهامه بحقيقة ما يتم بثه، والواقع على خلاف ذلك، هنا فالأمر لا يتعلق بحرية تعبير، بل باستخدام سلبي وسيء لهذه الحرية، وكل حرية مرتبطة بالمسؤولية، وبالتالي فتجاوز حدود حرية التعبير يستلزم المحاسبةو المسائلة.
فجريمة التفاخر الالكتروني مثلا، جريمة مكتملة الأركان، لا ينقصها إلى النص القانوني المجرم، وأثارها أكبر من جرائم القتل والسرقة، بل يمكن القول بأن أثرها أقوى حتى من الجرائم الإرهابية. فالجريمة الإرهابية وإن كانت نتائجها كارثية من حيث القتل وسفك الدم والدمار المادي الملموس والمحدود من حيث المدى الجغرافي والزمني، فإن أثار جرائم التفاخر الالكتروني، لا يمكن أن تعد أو تحصى، ولا يمكن حصر أثارها بمدى زمني محدود أو برقعة جغرافية معينة.
من أثارها مثلا المساهمة في التفكك الأسري عبر رفع حالات الطلاق وهي جريمة واحدة متراكبة مع جرائم أخرى من قبيل الهدر المدرسي، والبغاء، وأطفال الشوارع، وقس على ذلك، وهي مشاكل اجتماعية ومجتمعية تسعى الدول للحد منها ومعالجتها عبر موارد ضخمة وهياكل مؤسساتية مكلفة، في حين أن أحد أوجه العمل لمكافحة مثل هذه الظواهر هو محاربة فعل التفاخر الإلكتروني.
أعلم أن ما قيل حول اعتبار التفاخر الالكتروني جريمة شيء سابق لأوانه أو قد يبدو للبعض شيء سطحي، ولكنها خطوة يمكن أن تتبعها خطوات أخرى على غرار حصر وضيفة الخطابة الالكترونية على المختصين في المجالات المعنية، وعدم فتح الباب لكل من امتلك هاتفا أن يخاطب الناس بما شاء وقتما شاء بالكيفية التي يشاء، مع تفعيل الجانب الزجري وبشكل آلي، قد يقول البعض أن الأمر يتعلق بحرية التعبير، ولكن الحرية توجب المسؤولية، فلا حرية بدون مسؤولية والحرية المطلقة مفسدة مطلقة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟