محمد دحاني
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 08:53
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
في أفق تجاوز منطق "دِرْي رَاسَكْ بْحَال إِلَى كَتْدِيرْ"/"اِشْتَغل وكأنك تَشْتَغِل"
بين كل أزمة وأخرى، والتي لا يكاد المرء قادرا على عدها أو حصرها، فكل واحدة تنسيك مصائبها في مصائب التي كانت قبلها. يتبادر إلى الذهن ذلك السؤال، إنه سؤال يرعبك حتى التفكير فيه، بقدر ما قد ترعبك الإجابة التي تتبادر إلى ذهنك.
متي سيحين لهذه الأمة أن تتخلص من كل القيود؟ أليس مقدرا لنا أن نرى أنفسنا في مقدمة الأمم؟ وهل سيكتب لنا القدر الذي صنعته أيدينا، أن نعيش ونحى ثم نموت، في أوضاع أقل ما يمكن أن يقال عنها، أنها لا تليق بأمة تاريخها ضارب في القدم وحضارتها أنارت سبيل أمم وشعوب، لا زالت تحتفظ ذاكرتها وأرضها بما يشهد على تلك العظمة؟ والسؤال الأهم، هو كيف يمكن لنا كأمة أن ننبعث من جديد؟ ما هو المنهج والسبيل الكفيل بإحداث تغير حقيق في مسار التاريخ؟
وسنحاول أن نجيب بشكل مختصر على هذه الأسئلة من خلال الجواب على السؤال المحوري التالي: " كيف السبيل إلى إحداث التغير مع الحفاظ على الاستقرار"، ولكن قبل ذلك لا بد من عرض رؤيا موجزة أيضا لتحليل وتفسير كيف آلت الأوضاع إلى ما هي عليه الأن، "مسار إفراغ العمل العام سياسيا وحزبيا".
أولا: مسار إفراغ العمل العام سياسيا وحزبيا.
إن الناظر إلى العبث الذي يطبع تدبير الشأن العام في كثير من مستوياته، لا بد له أن يطرح السؤال التالي، كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ وكيف يمكن قبول مثل هذا العبث؟ بل أصبح للعبث من يدافع عنه. دفاع يستند فقط على خصومة سياسية أو عداوة حزبية، وقد تقف وراءها أسباب خفية، يمكن تأسيسها على الطبقية والمصلحية والانتفاعية.
وسنحاول أن نسرد بعض الأسباب التي نعتقد بأنه كان لها ولا يزال دور بارز في مختلف الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية والحقوقية، والتي كشفت عن أغلبها تقارير رسمية "تقرير لجنة النموذج التنموي على سبيل المثال"
1- بداية الاستقلال ... والاستقلال الناقص.
بالاضطلاع على بعض الأبحاث والمذكرات التي حاولت أن تسلط الضوء على فترة الاستقلال وما شهدتها من أحداث منذ استشعار الاحتلال الفرنسي بأن لا مكان آمن له بالمغرب إثر الاحتجاجات الشعبية والعمليات الجهادية "الفدائية" وعمليات جيش التحرير، يتضح أن هذا المحتل لم يترك المغرب، إلا بعد أن زرع بذور الفرقة والشقاق بين مختلف الفاعلين السياسيين.
خاصة وأن المغرب ورغم الإعلان عن تحقيق الاستقلال بتاريخ 18 نونبر 1956، إلا أنه من منظور واقعي، فقد كان هذا الاستقلال ناقصا، نظرا لكون جيش الاحتلال الفرنسي كان لا زال متواجد بتراب المغرب، فظلا عن عدد من الأجهزة الأمنية الفرنسية التي كانت تعمل بنشاط لرصد حركات وسكنات مختلف الفاعلين، وهو ما مكن المحتل من إذكاء نار الفتنة، خاصة بين قيادات حركة التحرير وولي العهد آنذاك.
فتخويف كل طرف من الأخر، كان سيضمن للمحتل أن يحافظ على موطئ قدم تحت أي مسمى، من أجل ضمان مصالحه الاقتصادية والسياسية بالمغرب، مع مراقبة التحولات الجارية وضمان عدم انسياقها إلى خروج المغرب من عباءة هذا المحتل.
2- بناء مغرب ما بعد الاستقلال وسوء الفهم الكبير.
إن كان الجميع مؤسسة ملكية ورجال الحركة الوطنية وقيادات جيش التحرير، كانوا على قلب رجل واحد في السعي نحو الاستقلال وطرد المحتل الفرنسي، إلا أنهم لم يكون كذلك بشأن شكل النظام السياسي، أو على الأقل وجود اختلافات عميقة حول طبيعة أدوار كل طرف خاصة في ما يتصل بالمؤسسة الملكية وأدوارها، وكنتيجة لتصارع الشرعيات، دخل المغرب في نفق مظلم من سوء الفهم والتقدير.
وليس سوء الفهم هذا ببعيد عن تأثيرات المحتل الفرنسي الذي ما فتئ يعمل على إذكائه، كما أن عملية إدارة الصراع السياسي خلال هذه المرحلة غلبت عليها المعادلات الصفرية، فكل طرف كان يريد لنفسه أن يجني كل ثمار الاستقلال، وكأن الأمر يتعل بغنيمة يجب أن يتم افتراسها.
ما يمكن ملاحظتها من خلال تلك القراءات أن التعقل والروية كانتا شبه غائبتين، في هذا الصراع، الذي أخد أبعادا وأشكالا أكثر عنفا ودموية، وهي الفترة التاريخية التي يطلق عليها عادة بسنوات الجمر والرصاص.
3- النخب السياسية بين سوء التقدير وقيم الوصولية والانتهازية.
إذا كانت الحركات التحررية ترفع شعارات نبيلة من قبيل الفداء والتضحية في سبيل الاستقلال والحرية، فإنه بمجرد ما يتم تحقيق هذه الأهداف وتلك الغايات، تعتري هذه الحركات نزعات دخيلة، ترتبط بالحصول على أكبر الغنائم المادية والرمزية، بل وتعتبر هذا حقا مكتسبا لها دون غيرها.
هذا يولد نزعة مادية نفعية، تفرغ العمل التحرري من محتواه وغاياته النبيلة، وبالتالي تتحول هذه النخب وهذه الأجسام السياسية إلى تحالفات وشبكات للمصالح لا أقل ولا أكثر، خاصة إذا لم تكن هذه الأخيرة مستعدة للتكيف مع الوضع الجديد. فكل وضع سياسي يفرض ممارسات معينة تتسق وطبيعة الأمور.
وهنا لا بد من التذكير بمساعي بعض الجهات السياسية والحزبية في الحصول على أكبر عدد من المقاعد والمناصب سواء في ظل الحكومات المتعاقبة أو ضمن المجلس الوطني الاستشاري المؤسس آنذاك، وهذا بسبب الادعاء بكون تمثيليتها تلك، لا تتناسب مع حجمها في الشارع أو شرعيتها الوطنية والنضالية.
4- لعبة التوازنات السياسة ضمانة لاستقرار نظام الحكم.
شكل الحفاظ على التوازن بين القوى السياسية على مستوى المؤسسات التمثيلية الهاجس الأكبر للمؤسسة الملكية، وحتى إن لم يكن ذلك التوازن حقيقيا، بل توازن صوري، إلا أنه يحافظ للمؤسسة الملكية على موقع قوي يمكنها من التحكم في مختلف تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والإدارية والأمنية.
ففضلا عما تتمتع به المؤسسة الملكية بالمغرب من شرعية دينية وتاريخية ووطنية ودستورية، فإن من شأن تلك التوازنات أن تحجم أدوار من تعتقد أنهم خصوم، وحتى إن لم يكونوا خصوما أو أعداء بالمفهوم الحرفي، فإن أي إخلال بتوازنات المشهد السياسي والانتخابي والتمثيلي، من المحتمل أن يدفع بعض الأطراف إلى فتح نقاشات وأجندات قد لا يتاح لها فتحها في ظل الوضع الحالي.
وهكذا تم العمل على إحداث مؤسسات حزبية على مر تاريخ المغرب السياسي الحديث من أجل ضمان المحافظة على هذا التوازن، اضطلعت به أحزاب من قبيل جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية والاتحاد الدستوري والتجمع الوطني للأحرار وأخيرا حزب الأصالة والمعاصرة. غير أن الفارق بينهم، أنه في كل مرة كان إحداث التوازن إزاء فاعل حزبي واجتماعي مختلف شيء ما، فأحيان ضد التوجه الاشتراكي اليساري وأحيان ضد مد الإسلام السياسي.
هذا دون أن ننسى إذكاء بعض نعارات الانقسام والانشقاق ودعمها، على غرار الانشقاق الذي عرفه حزب الاستقلال، وتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وما تلاه من انقسامات عرفها هذا الأخير وباقي قوى اليسار. وهي لا ربما نفس المحاولات التي يراد الدفع بها من أجل إحداث انشقاق في صفوف حزب العدالة والتنمية، في ظل قيام بعض قادة الحزب بتجميد عضوياتهم، وتصريف مواقفهم وأراءهم ضمن إطارات بديلة وتحت مسميات مختلفة "جمعية أو مبادرة".
5- ستون عام من استهلاك وإعادة استهلاك نفس النخب.
بعد كل هذه العقود، يمكن الجزم أن المواطن أصبح فاقدا للأمل في كل النخب السياسية والحزبية وحتى التكنوقراطية، التي يغلب عليها الطابع الأناني والانتهازي والوصولي. وبالتالي لا يمكن التعويل عليها في إحداث تغير على أي مستوى، فهي أصبحت مستفيدة من الوضع الهش اجتماعيا واقتصاديا، مما يدفعها للمحافظة عليه وتوريثه للأجيال القادمة.
فرغم عبارة تشبيب العمل السياسي أو تأنيثه التي يحاول أن تضفي على الفعل السياسي على الأقل من حيث المظهر العام بأن هناك تحول ما، فإن العناصر الجديدة تحمل كل صفات وخصال النخب التي كانت قبلها، بحكم أنها نشأت وتربت سياسيا وحزبيا على أيديها. بل يمكن القول بأنها تُسخر لترعى مصالحها أيضا، خاصة في ظل قيام هذا التشبيب أو التأنيث على قيم الريع الانتخابي "اللوائح الوطنية والجهوية" الذي يجعل هذه النخب الجديدة متحكم في مسار تنخيبها من قبل القيادات المركزية للأحزاب السياسية، وبالتالي خضوعها للمساومات وللابتزاز السياسي والحزبي.
وهذا يفقد هذه العملية من أية قيمة مضافة للمشهد الحزبي والسياسي بالمغرب، اللهم خفض المعدل العام لسن اللاعبين البرلمانين من جهة، ومن جهة أخرى التباهي أمام المنتظم الدولي، باحترام مقاربة النوع، برفع عدد النساء البرلمانيات، ولو صوريا وفي أضيق الحدود على الأقل.
ثانيا: كيف السبيل إلى إحداث التغير مع الحفاظ على الاستقرار.
تشكل الثقة أحد ركائز بناء أي نموذج قيادة وحكم، والمقصود هنا بالثقة، ثقة المواطن في الفاعل السياسي، ثقة الفاعل السياسي في نوايا باقي الفاعلين السياسيين. ومدار الثقة أساسا في اعتبار الجميع يسعى للمصلحة العامة وبناء نهضة الأمة، لا السعي إلى بناء مصالح خاصة وفئوية على حساب مصالح غالبية الشعب.
1- المؤسسة الملكية وإدارة النخب.
تظل المؤسسة الملكية لاعبا استراتيجيا في منظومة الحكم بالمغرب، فهي لاعب وحكم، وهي تضع نفسها نظريا على نفس المسافة من باقي الفاعلين السياسيين والحزبيين، رغم الترويج الذي يواكب أي عملية انتخابية من دعم ملكي لفاعل سياسي معين. باعتبارها قيمة مشتركة بين جميع المغاربة، وبالتالي فإن تحيزها لفئة سياسية ضد أخرى، قد يشكل مساسا بهذا الركن الأساسي من أركان نظام الحكم بالمغرب.
لكن العديد من الكتابات التاريخية، تؤكد بأن المؤسسة الملكية لطالما راودتها شكوك حول نوايا بعض الأطياف السياسية، ابتداء بأحزاب الحركة الوطنية خلال مفاوضات "الاستقلال" أو خلال مراحل تشكيل وتحديد طبيعة نظام الحكم والتدبير، ثم في فترة موالية إزاء الأحزاب اليسارية، والآن إزاء الأحزاب والحركات ذات التوجه الإسلامي، واللوم هنا لا يقع على هذه المؤسسة فقط، بل أيضا على تلك الأطراف التي كانت ترفع شعارات وتروج لخطابات لا يمكن أن تساعد في بناء أي شكل من أشكال التواصل ثم الثقة.
وللأسف الشديد في ظل مناخ كهذا، لا يمكن للمغرب أن يعبئ كل طاقاته نحو البناء والتنمية، وسيظل البعض يتربص بالبعض، رغم الخطابات الهادئة والجميلة التي غلبت على هذه الفترة التاريخية من الحياة السياسية بالمغرب، إلا أن النفوس تظل تحمل في أعماقها ترسبات سنوات من الصراع، الذي كان يأخذ في أحيان كثيرا، طابعا إقصائيا.
إذا، بدون هذه الثقة، فلا شيء سيتقدم إلى الأمام، سيظل المغرب عالقا، بين مواليين أفسدوا البلاد والعباد، ومشكوك في ولائهم، عاجزين عن إحداث التغير، والتأسيس لقواعد ثقة صلبة، تضمن للمشترك السياسي للمغاربة الاستمرارية بدون هواجس الغلبة والتغلب.
2- وجود وعي جماعي بالحاجة إلى تغير حقيقي.
إن حديثا بسيطا مع مواطنين بسطاء في الشارع، يجعلك تستنتج بأن وعيهم السياسي يتجاوز وعي النخبة، بل ورغبتهم في بناء هذا الوطن وغيرتهم عليه، تكاد لا تقارن بنفاق بعض النخبة إن لم نقل كلها، وبالتالي يبقى السؤال مطروحا، لماذا هذا الوعي الفردي لا يتحول إلى وعي جماعي؟
هنا سنعود إلى عنصر الثقة، فرغم وعي المواطن المغربي بأهمية سلوكات معينة وتضحيات محددة، يمكن أن تساهم في الرفع من شأن الدولة والمجتمع داخليا وخارجيا، إلا أن لاشيء يتحرك، بل أحيانا تجد هذا المواطن يتصرف عكس قناعاته.
الجواب ببساطة، ينطلق من فقدان الثقة في أقرانه وبمدى سلوكهم نفس سلوكه الإصلاحي إن هو قام بذلك، وفقدانه الثقة في مؤسسات بلاده السياسية والاقتصادية والإدارية وحتى المدنية، وفقدان الثقة هذا ليس بالشيء الجديد، فقد ذكر كثيرا في متن تقرير النموذج التنموي.
وبالتالي، فالحاجة إلى بناء وعي جماعي، وبالقدرة على التأثير انطلاقا من السلوك الفردي، بغض النظر عن سلوك الأخرين، وهنا يمكن أن نعطي مثالا واضحا. وخير مثال هو حملة المقاطعة التي عرفها المغرب سنة 2018، والتي جاءت كتعبير فردي عن الرفض لسياسات رفع الأسعار دون حسيب أو رقيب، لتتحول إلى حملة جماعة ازداد زخمها مع الوقت، واستطاعت أن تحدث تغيرا ما في سياسات بعض الجهات المعنية بتلك المقاطعة.
إلا أنها لم تتحول إلى حركة جماعية مستمرة، مما يفقدها طابع الوعي الجماعي، لتنحصر فقط في حالة وعي فردي متزامن، ساهمت وسائل التوصل الاجتماعي في الرفع من منسوبها.
المطلوب، بناء وعي فردي وجماعي عقلاني، يؤمن بالقدرة على إحداث التغير بأبسط السلوكيات، وبالتالي البناء على هذا الوعي في تطوير التأثير من البعد الاقتصادي والاستهلاكي والأخلاقي إلى الأبعاد السياسية والحقوقية والاحتجاجية.
3- وجود نخب اجتماعية قادرة على قيادة هذا الوعي وتوجيهه والتأثير في صناع السياسات العمومية.
من المعيقات التي تحول دون بناء الوعي الجماعي العقلاني والرشيد، هو غياب القيادت القادرة على حمل مطالب أي حراك جماعي والدفاع عنها بتعبيرات بسيطة وسلمية، بل إن العديد من الحركات الاجتماعية بالمغرب أساءت لها قيادتها وأدخلتها في دوامة من العنف والصراع، مما ساهم في إحباطها وإحداث التفرقة بينها.
الحراك السلمي الواعي والعقلاني والمنظم والصبور يبقى السبيل الوحيد لإحداث التغير المحلي والوطني المنشود، والأهم من ذلك هو حصانة هذه القيادات من الاختراق أو الإغراء، أو ما شابه ذلك من ممارسات يمكن أن تحور هذا الوعي الجماعي عن أهدافه.
وحراك العشرين من فبراير يبقى خير شاهد على تشتت قواه وتفرقها، بل وتنافرها وتناحرها في ما بينها، في ظل انعدام قيادة موحدة، كانت لتقوم بنقل المغرب إلى مصاف الدول الديمقراطية الحقة، وليس كما هو الحال، حيث يصنف المغرب إلى دولة شبه ديمقراطية أو ديمقراطية هجينة "تقرير ذي ايكونميست للأبحاث والتحليل".
4- التأسيس لحركات اجتماعية بعيدة عن كل مظاهر وتأثيرات الانتهازية والوصولية.
لا طالما شكلت قدرة مراكز النفوذ على التأثير على الحركات الاجتماعية المطالبة بالإصلاح أو بالتغير، مهما كانت خلفياتها الحقيقية أو المخفية، تتأسس على قاعدتي الترغيب ثم الترهيب، وبالتالي من لم يخضع بالترغيب سيخضع بالترهيب.
وبالتالي فإن أي حراك سلمي وواعي ومنظم يلزم أن يكون قادرا من حيث بناؤه التنظيمي على إعادة انتاج نخبه وتحصينها من مثل هذه الممارسات، ولا سيما تلك التي تسعى إلى خلق الانشقاق والتفريق بين مكونات الحراك.
فبحكم أن الحركة الاجتماعية ستكون سلمية، فلا مجال للترهيب هنا، طالما لا ترفع شعارات أو تضمرها تهدد أمن البلاد والعباد، ليبقى الحل هو الحاجة إلى بناء أفراد وقيادات قادرون على مقاومة إغراءات السلطة ومنافعها. وبالتالي البقاء بالقرب من القاعدة الاجتماعية الحاملة للمشروع، حتى تستمر روابط الثقة، التي هي عماد نجاح أي حركة اجتماعية، الثقة أقول لا المصلحة الشخصية، فكثير منا قد يؤثرون مصلحة الوطن على مصالح شخصية ضيقة، على أساس أن تحقيق مصلحة الوطن ستعود بالفعل بمصلحة شخصية عامة في المستقبل المنظور.
5- الحراك الاجتماعي يجب أن يكون هادئ ومنظم ومستدام.
الهدوء والسلمية والعقلانية والجماعية والاستدامة في الفعل الإصلاحي من الدائرة الضيقة وإلى ما هو أوسع فأوسع، صفات يجب أن يتمثلها جميع أعضاء ومناصري ومؤيدي أي حركة اجتماعية ترغب في إصلاح ذاتها ومجتمعها.
أكيد أن مثل هذه الصفات من المستحيل ضمانها في الجميع، فالإنسان بطبعه متقلب، وبالتالي لا يمكن توقع نفس مستوى الانضباط من الجميع، وهذا يقتضي وجود قدر محدود من السلوكات غير المنضبطة، والتي يمكن احتواؤها والتعامل معها بشكل لا يؤدي إلى تحريف الحركة الاجتماعية عن مسارها وأهدافها الأساسية.
وإلا يصبح الأسلم للجماعة والمجتمع أن يتلاشى الحراك إذا ما سادته الفوضى وعمه عدم الانضباط، في انتظار انضاج شروط انتاج حراك جديد، يستفيد من أخطاء الحراك الذي قبله، ويبني عليه، في أفق استمرارية واستدامة النهج الإصلاحي.
الخلاصة:
إن ملاحظة الواقع السياسي والاقتصادي، وإفرازات المشهد الحزبي والانتخابي، لا يسعني إلا أن أقول بأن هذا الهدف "الإصلاح الحقيق للدولة والمجتمع" سيبقى بعيد المنال، وأن لا أمل في الأمد المنظور من أن تتحسن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب، في ظل تغول البرجوازية السياسية "الاوليغارشية المغربية"، والتي بالتأكيد ستدافع عن مصالحها. ومن مصلحتها أن تستقر الأوضاع على ما هي عليه في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما فيها عدم السماح ببروز نظام تعليمي يسهم في انتاج ما يمكن أن يهدد سطوتهم هذه، والتي تزداد قوة وتأثيرا مع الوقت، في ظل غياب أي بدائل فكرية وسياسية قادرة على تحريك الوعي الجماعي بمسؤولية نحو تحدي هذه الطبقات.
هذا البديل الفكري والسياسي والاجتماعي لا يمكن أن يأتي من داخل المشهد الحزبي والسياسي الحالي، فالجميع قد تم تجريبه، وهو ما يدفع إلى القول بوجوب قيام حركات سياسية جديدة تحمل مشاريع مجتمعية عميقة، بعيدا عن كل مظاهر الانتهازية والوصولية، تبتعد بالقدر الكافي عن بعض الأخطاء التي وقعت فيها بعض الحركات الاجتماعية التي عرفها المغرب خلال السنوات الأخيرة، والتي جرت الوبال على أصحابها، كما ساهمت في تفتيتها، لا سيما حين انخراطها في صراعات لا طائل ولا رجاء منها، أبعدتها عن مقاصدها وغاياتها الحقيقية، وفي غياب مثل هذه الحركات الواعية والهادئة والمنظمة، فإن الأمل يكاد يكون مفقودا في نخب اليوم التي تم استهلاكها رغم كل محاولات اعادة التدوير التي ما فتئت تخضع لها عبر مساحيق التجميل السياسي والخطابي والحزبي، سواء من خلال مواقع الأغلبية أو المعارضة أو حتى تلك النخب غير المشاركة العملية السياسية والانتخابية.
تمت كتابة هذه المقالة بتاريخ 22 أبريل 2025، وبعد الحراك الاجتماعي الشبابي تحت مسمى جيلZ، يمكن أن أقول بأن مبدعي هذا النمط الإداري والارادي للاحتجاجات قد تجاوز حدود التفكير النمطي للفاعل السياسي وللباحث الأكاديمي، خاصة في النقطة المتعلقة بلامركزية إدارة الاحتجاجات، بحيث تكون القيادة غير معروفة بل غير موجودة بمفهوم القيادة التقليدية. وهي نقطة إن كانت إيجابية من حيث إضعاف قدرة مراكز مقاومة التغيير في استقطاب أو في التأثير على القيادة ومن تم على مسار الحراك، فإنها وبنفس القدر ستجعل من الصعب على صناع القرار إدارة الحوار مع هذه الحركة وفقا للنمط التقليدي للحوار.
وهذا ما يقضي بضرورة تجاوز الدولة لأدواتها التقليدية في محاورة الحركات الاحتجاجية، عبر وسائل وأدوات تتجاوز منطق الخطاب والوعود، الى خطاب يقوم على اتخاذ الإجراءات الإصلاحية، لا سيما السير نحو خطوات عملية في محاربة الفساد والمفسدين ومحاكمتهم واسترجاع الأموال المنهوبة، فضلا عن خطوات ملموسة لإصلاح قطاعي الصحة والتعليم، والتي تبقى مشترك وطني بين جميع فئات المجتمع المغربي.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟