أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - نور جواد الدليمي - سرقة الجوارب أمام القضاء: حين تتحول السرقة التافهة إلى ملف جزائي ثقيل














المزيد.....

سرقة الجوارب أمام القضاء: حين تتحول السرقة التافهة إلى ملف جزائي ثقيل


نور جواد الدليمي

الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 14:56
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


في خبر عابر قد يمرّ على القارئ من دون كثير انتباه، أعلنت قيادة شرطة محافظة الأنبار إلقاء القبض على امرأة في سوق الرمادي، ضُبطت بحوزتها جوارب ومناشف وكرزات، بعد شكاوى متكررة من أصحاب المحال. خبرٌ يبدو بسيطاً، لكنه يفتح باباً قانونياً واجتماعياً بالغ الخطورة: كيف يتعامل قانون العقوبات مع سرقات تافهة القيمة في زمن تغيّرت فيه قيمة المال جذرياً؟

من الناحية القانونية البحتة، فإن الفعل المرتكب يندرج، من حيث الوصف المجرد، ضمن جريمة السرقة. غير أن قانون العقوبات العراقي لم يتعامل مع السرقة بوصفها كتلة واحدة، بل فرّق بين سرقات جسيمة وخطيرة، وأخرى بسيطة محدودة الأثر. ولهذا السبب تحديداً، جاءت المادة (446) لتضع إطاراً أخفّ للعقوبة، فنصّت على معاقبة السرقة بالحبس إذا وقعت في غير الأحوال المشددة، وأجازت استبدال الحبس بالغرامة إذا كانت قيمة المال المسروق لا تزيد على دينارين.

هنا تبدأ المفارقة القانونية. فالديناران، اللذان كان لهما وزن حقيقي عند تشريع النص سنة 1969، لم يعودا اليوم يمثلان قيمة تُذكر. التضخم لم يلتهم القوة الشرائية للدينار فقط، بل ابتلع معه الفلسفة التي قام عليها النص. ديناران في خمسينيات القرن الماضي كانا كافيين لشراء احتياجات معتبرة، أما اليوم فلا يشتريان حتى كيس نايلون. وبذلك أصبح النص قائماً شكلاً، معطلاً مضموناً.

لو افترضنا أن قيمة الجوارب والمناشف والكرزات المضبوطة كانت زهيدة، بل تكاد تكون تافهة اقتصادياً، فإن منطق العدالة الجزائية كان يقتضي أن تُعامل هذه الواقعة كجنحة بسيطة عقوبتها قابلة للاستبدال بالغرامة، لا أن تدخل في مسار الحبس والإجراءات الجزائية الكاملة. غير أن القاضي، مهما بلغت مرونته، يبقى مقيّداً بحرفية النص. فإذا كانت قيمة المسروقات تتجاوز سقف الدينارين، فإن باب الغرامة يُغلق تلقائياً، ويُفتح باب الحبس، حتى لو كانت السرقة في جوهرها محدودة الأثر ولا تنمّ عن خطورة إجرامية حقيقية.

المشكلة هنا ليست في تطبيق القانون، بل في القانون ذاته. النص لم يُراجع منذ عقود، ولم يُحدّث ليتلاءم مع الواقع الاقتصادي الجديد. وهكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة مؤلمة: سرقة بسيطة بدافع الحاجة أو الفقر أو الاضطراب الاجتماعي، تُعامل بذات الأدوات القانونية التي تُعامل بها سرقات أشد خطورة، فقط لأن المشرّع لم يحدّث رقماً مالياً تجاوزه الزمن.

من زاوية علم الإجرام، تُعدّ السرقات التافهة من الجرائم التي ترتبط غالباً بالهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، لا بالميل الإجرامي المنظّم. ومعالجتها بالعقوبة السالبة للحرية قد تكون أكثر ضرراً من نفعها، لأنها تدفع الجاني البسيط إلى الاحتكاك ببيئة إجرامية أوسع، وتحوّل خطأً محدوداً إلى مسار إجرامي متكرر. ولهذا تتجه التشريعات الحديثة إلى توسيع نطاق الغرامات، والعمل المجتمعي، والتدابير البديلة في مثل هذه الحالات.

لو كان سقف المادة (446) محدّثاً ليواكب الواقع، وليكن مثلاً خمسين ألف دينار، لكان بالإمكان احتواء هذه الواقعة قانونياً من دون زجّ المتهمة في دوامة الحبس. كان يمكن للقانون أن يحقق الردع والعدالة معاً، من دون إفراط ولا قسوة، ومن دون تحويل الجوارب إلى قضية جنائية ثقيلة.

هذه القضية الصغيرة تضع أمامنا سؤالاً كبيراً: هل نريد قانوناً يطبّق نصوصه بحرفية جامدة، أم قانوناً يقرأ الواقع ويتفاعل معه؟ إن مراجعة النصوص المالية في قانون العقوبات لم تعد ترفاً تشريعياً، بل ضرورة قانونية. فالقانون الذي لا يرى تغيّر قيمة المال، قد يُنصف النص، لكنه يظلم الإنسان.



#نور_جواد_الدليمي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكهرباء في العراق: لماذا خرجت بعض المناطق من الظلام وبقيت أ ...
- حين يصبح الزي الموحد جزءاً من الطريق: هل الزام اصحاب الكيات ...
- 120 مليون دولار كادت تُنتزع من العراق… كيف قلب ملف قانوني من ...
- حين يتحول الخلاف الأسري الى شروع في القتل: قراءة قانونية في ...
- جريمة السحر والشعوذة في المقابر:سرد أدبي لوقائع حقيقية
- فحص المخدرات عند التعيين… حلٌّ ناقص لظاهرة خطيرة: لماذا نحتا ...
- أخطر ثغرات دعوى منع المعارضة في القانون العراقي… وكيف تتجنب ...
- الصك بين الحقيقة القانونية والواقع: هل هو أداة وفاء أم أداة ...
- أسرار اختيار أفضل محامي في العراق: الدليل الذي يبحث عنه الجم ...
- لا تملك دليلاً مكتوباً؟ إليك الطريق السري لاسترجاع دينك
- كارثة الكوت: عندما يتحول الإهمال إلى مقصلة جماعية – قراءة قا ...


المزيد.....




- فصائل فلسطينية تندد بقرار السلطة قطع رواتب عائلات الشهداء وا ...
- فصائل فلسطينية تدين قرار السلطة قطع رواتب الشهداء والأسرى
- حياة معلقة للاجئين أفغان على الحدود الإيرانية في انتظار العب ...
- الداخلية: اعتقال 4 مطلوبين دوليين وضبط 200 ألف حبة كبتاجون ب ...
- نطاق المجاعة ينحسر في غزة لكن شبح الجوع يهدد مستقبل القطاع
- ترامب يطارد المهاجرين بتمويل ضخم ومداهمات مثيرة للجدل
- 10 إصابات في الضفة والقدس.. والاحتلال يدشن -سياسة الإعدام ال ...
- مكتب إعلام الأسرى: الأسيرات في سجن الدامون يتعرضن لانتهاكات ...
- استمرار تدفق النازحين من منطقة هجليج إلى مدينة كوستي في السو ...
- الأونروا تكشف عن حملة تضليل غير مسبوقة تستهدف تفكيكها


المزيد.....

- الوضع الصحي والبيئي لعاملات معامل الطابوق في العراق / رابطة المرأة العراقية
- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - نور جواد الدليمي - سرقة الجوارب أمام القضاء: حين تتحول السرقة التافهة إلى ملف جزائي ثقيل