مارينا موسى رزق
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 09:11
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
تحديات العيش في الغربة للشباب
الغربة تجربةٌ تغيّر الحياة، وأزمةٌ نعبُر من خلالها فنكبر ونتعلم الكثير.
تجد نفسك، فور وصولك إلى بلاد الاغتراب، بعيداً عن قاعدة الأمان التي كانت تحيط بك في بلدك، دون أن تشعر بوجودها.
التفاصيل اليومية من ألوان وروائح وأصوات، غرفتك الصغيرة وغطاء السرير الذي ألفته، صوت والدتك توقظك في الصباح وصوتها يدعوك لتناول وجبات الطعام، قطة البيت التي تستغل كلّ فرصة لتتمسح بك.
طفولتك كلّها التي بقيت في بلدك.
فجأة تكتشف أنك كبرتَ وصرتَ مسؤولاً عن مفردات حياةٍ جديدةٍ تسحركَ في البداية وتتعبكَ فيما بعد.
وكما يقول لسان حال الكثيرين الذين عاشوا التجربة:
الخبز لا أحبّه هكذا، ليس للشاي الطعم نفسه، حتى مستحضرات العناية بالجسم تزعج جلدي.
أما همومي وآلامي التي ظننت أنني أفارقها بمفارقة الوطن فقد سافرَتْ معي ووجدتها في حقائبي.
الوجع الذي ظننته يبقى هناك في بيتي القديم أبى أن يفارقني.
كلّ ما ظننت أنني هربت منه وجدته أمامي.
أوجاعي من قلقٍ وحزنٍ وخوفٍ ... مازالت معي.
كنت قد وصلتُ لصيغةِ تعايشٍ مع هذه الآلام هناك في بلدي، أما هنا فأجدها ثقيلة الوزن، متعبة، تحتلّ ليلي وتطيل ساعاته.
كيف أتعامل مع هذه الآلام ولمن ألجأ؟ من يقدر على مساعدتي؟
أكبر ضغط نفسي يعيشه الشباب في الغربة هو الضغط الذي ينبع من الداخل، ضغط ضرورة النجاح لأن تكلفة الفشل غدت عالية جداً، ولأن النجاح هو أهم حافز لمغادرة البلد، وأهم عامل يقتنع به الأهل لضرورة السفر.
أي فشل هو جرح فظيع لصورة المغترب الذاتية، مع أنه كان قادراً على تحمّل الفشل بطرق أخرى في بلده.
حلم "الأفضل" يحتل قصة الاغتراب.
أنتَ تغترب لتجد مستقبلاً "أفضل" وتتعلم تعليماً "أفضل" وتكسب "أكثر" وتغدو إنساناً "أحسن".
تعرف أن هناك "ثمنٌ" ستدفعه وتظن نفسك قادراً على تحمّل كلفة هذا الثمن. لكنّ تراكم الأشياء المنهكة يطرحكَ أرضاً في لحظةٍ ما، وتقول في ألمكَ: هل الأمر يستحق هذا العذاب كلّه؟
إنّ عذاب الهجرة التقليدية يتلون بألوانٍ أخرى عندما تكون الهجرة اجبارية، كما في حالة الحرب والنزاعات المسلحة والحصار الاقتصادي...
فهنا تختلط المشاعر بمشاعر الفقد المؤلم، واستحالة العودة إلى البلد، مع ألم الرضّ النفسي الناتج عن العنف العسكري وغيره (موت أشخاص أعزاء، تهجير من بيت العائلة، فقد المكانة الاجتماعية أو تدهور الوضع الاقتصادي، السجن للشخص نفسه أو لأحد المقربين، الأذى الجسدي أو النفسي المباشر وغير المباشر....)
هنا يصل المهاجر إلى بلده الجديد وهو يحمل جراحاً لم تندمل بعد، ورضوضاً نفسيةً صعبة التحمل ولم تتم معالجتها في غالب الأحوال. لم تصل جروحه بعد إلى حالة "الندبات" فالنزف يكون عادةً حديثاً ومستمراً.
الوجع الأول لمغادرة البلد طبيعيّ، بل إنه شبه حتميّ، فهو وجع الابتعاد عن الحضن الأول، حضن العائلة، حضن المألوف من لغةٍ وثقافةٍ وعاداتٍ ومآكلَ.... فكيف نقدر أن نتعايش معه حتى لا يغلبنا؟؟؟
وجع العزلة والوحدة صعبٌ، خاصةً لمن اعتاد الكثرة من حوله، لكن بمرور الوقت تغدو الوحدة ضرورةً في بعض الأوقات، وكما قال لي رجلٌ حكيمٌ بمنزلة الأبِ: "في الوحدةِ كنوزٌ نكتشفها مع الوقت."
وجع التعود على الجديد واكتشاف حسناته، وجع الخوف من الغريب ومن المجهول.
فهل هناك من طرقٍ نسلكها ونتعلم من خلالها!
كيف نغدو مواطنين في بلدين مختلفين؟
كيف نتقبل التغير الحتّمي بل ونختاره طريقةً للحياة؟
ماذا سيبقى لنا ومنّا؟ وماذا سيمحى مما نحن عليه حالياً، وماذا نريد أن نصبح؟
هل توجد معادلة ثابتة تحكم هذا التغيير؟ هل هناك معايير واضحة نقبل على أساسها بعض أنواع التغير ونرفض بعضه الآخر؟
وهل هذا السؤال هو سؤالٌ مؤقت أم أنه سؤالٌ دائمٌ؟
بقدومك إلى بلدٍ غريب، صرتَ أنتَ "غريباً".
أنتَ قبلت القدوم إلى مكانٍ تعرفُ أنه مختلفٌ عمّا ألفتَ وعرفتَ.
وكي تقدرَ على الاستمرار في العيش، لا بدّ أن تتقبل التغيير الذي سيحصل في داخلك. عليك أن تتعلم عنه ما يكفي للبقاء على قيد الحياة في البداية، ثم ما يكفي للعيش.
هذا التعلم يزداد عمقاً بتقدم سنواتك في البلد. قد تعجبك بعضُ أشياء وقد تنفر من أخرى.
مثلاً قد تعجبك طريقة الدراسة، طريقة العمل، نوع المواد المستخدمة في كليهما، أمانة السواد الأعظم من زملائك...
وقد تنفر من برودة عواطفهم، من حياتهم العائلية الفقيرة للحرارة، من طريقة تعاملهم مع الجسد مثلاً...
تنتهي بأن تقبل ما يكفيك للاستمرار وتترك الباقي لأوقات أخرى.
الفرق هنا بين قدومك كشخصٍ ناضجٍ إلى بلدٍ آخر، وقدوم طفلٍ إلى نفس البلد.
الأطفال يتأقلمون في الوسط الجديد ويندمجون بسرعة أكثر من أهلهم. الطفل لا يسأل، بل يتقبل الموجود كما هو ويتعامل بطريقة باقي الأطفال الذين يصادفهم في حياته اليومية.
التغير محتوم إن كنت ترغب في البقاء والحياة، إلا إن اخترت أن تبقى لتقاتل طواحين الهواء كلّ يوم.
لكن.. ما هي شروط التقبّل وكيف تساعد نفسك على عيش المختلف؟
كيف تستكشف المكان الجديد بدءاً من ذاتك التي تعرفها، بأقلّ مقدارٍ من التعب؟
لا يمكن للإنسان أن ينطلق للأمام ويقدر على الاستكشاف مالم تكن لديه قاعدة أمانٍ متينة يثبّت أقدامه عليها.
من أهم وسائل النجاة هو العودة لقاعدة أمانٍ قوية ينطلق منها المغترب إلى استكشاف عالمه الجديد وعيش مفرداته المختلفة. قاعدة أمان يعود إليها تكراراً في حالات الحزن والتعب، ليعود فينطلق بقوة.
أول قواعد الأمان المفيدة هي القاعدة الأولى في حياة الانسان، العائلة الأولى.
كثيراً ما يقع الشباب في فخّ الرغبة بالاستقلال وأن "أهلي لن يفهموا ما يحدث معي هنا، لا يعرفون قواعد الحياة في هذا البلد، صعبٌ عليّ شرح كلّ شيء لهم". فيبتعد الشاب عاطفيّاً عن عائلته، بعد أن ابتعد عنها جغرافيّاً.
لكنّ ما يمكن أن يفيد الشباب هو الاتصال المنظّم بالعائلة، كأن يُحدّد موعد أسبوعي أو يومي لاتصال عادي يحكي فيه الطرفان ما يخطر ببالهما. افتح الكاميرا وأنت تحضّر عشاءك وتكلم مع ماما ومع الجدة، احكِ لهم عن البرد القارس وتدافع الناس لدخول القطار الصباحيّ، واستمع إلى والدك يخبرك عن مغامرته البارحة وهو يُحضِر الخبز للعائلة.
الاتصال بالناس مهمٌ ومثله الاتصال بالأشياء، كأن يحضر المغترب معه بعضاً من بيته وحياته الأولى، بعض مقتنياته القديمة، ليس فقط الأشياء الجديدة والجميلة التي اشتراها ليحضرها معه بل أشياؤه القديمة، مثل بيجامته أو منشفته والصورة التي كان يعلّقها في غرفته مقابل السرير.
قاعدة الأمان الثانية تصنعها بنفسك، وتصنعها على مقاسك.
تكتشف الناس الذين يشبهونك، والذين يحملون السمات الثقافية نفسها، وتقترب منهم حتى ولو لم يصبحوا خير الأصدقاء بالنسبة لك. إنهم غرباء مثلك ولو كانوا أقدم منك وصولاً إلى مركب الغربة. كلّكم تبحرون في الاتجاه نفسه وتكتسبون خبراتٍ متشابهة، وتكبرون في القامةِ والنضج.
اجتمع بهؤلاء واصنعوا معاً خلايا حيّة مستعدة للنمو دون أن ترمي جذورها.
اللغة الأولى حضنٌ مهمٌ للمغترب، فهي حاملة المخزون الثقافي والمتفاعلة معه، فاحمل كتبها ودراما سينماها وتلفزيونها وأغانيها في حقيبتك.
عد إلى تاريخ بلدك وتعلمه بتأنٍ، فأنت تحمله، وإن لم تكن تدري، في مخزونك الوراثي.
تعلم كيف تريح نفسك وقت التعب والإحباط والقنوط، بخلق أماكن آمنة في نفسك تعود لها وقت الحاجة. والجأ إلى ذوي الاختصاص عندما يكون الألم أكبر منك ومن قدرتك على التحمّل.
الغربة طريقة حياة تجعل المغترب يكبر فيغدو مواطناً عالمياً يتكون من هوياتٍ متعددة، يمكنه أن يصبغها بالصبغة التي يريد.
#مارينا_موسى_رزق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟