أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - زهير الخويلدي - حول أنطونيو غرامشي كفيلسوف ديمقراطي بين تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة















المزيد.....

حول أنطونيو غرامشي كفيلسوف ديمقراطي بين تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة


زهير الخويلدي

الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 09:28
المحور: المجتمع المدني
    


مقدمة
" يتميز المفهوم الاشتراكي للعملية الثورية بسمتين أساسيتين لخصهما رومان رولان في شعاره: تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة."
أنطونيو غرامشي (1891–1937) أحد أبرز المفكرين الماركسيين في القرن العشرين، ليس لأنه أعاد صياغة الماركسية فحسب، بل لأنه حوّلها إلى فلسفة ديمقراطية حية تتجاوز الاقتصاد إلى الثقافة والتربية. كتب غرامشي معظم أعماله في سجنه الفاشي، في دفاتر السجن التي تُشكّل أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، ورسائله الشخصية التي تكشف عن إنسانية عميقة. عبارته الشهيرة "تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة" – المستلهمة من رومان رولان – ليست شعارًا بل منهجًا فلسفيًا كاملاً يجمع بين التحليل البارد للواقع والفعل الثوري الشغوف. هذه الدراسة تُقدّم غرامشي كفيلسوف ديمقراطي يُعيد تعريف الديمقراطية ليس كنظام سياسي فحسب، بل كممارسة ثقافية تربوية يومية. نستكشف كيف يجمع بين تشاؤم العقل كنقد للهيمنة الثقافية، وتفاؤل الإرادة كتربية للإرادة الجماعية، مُحققًا توازنًا بين السياسة والتربية. نعتمد على دفاتر السجن، وتأثيرها على باولو فرايري، وتطبيقات حديثة في التعليم الديمقراطي. تفكيره حول الوضوح والوعي والإرادة يقدم حكمة عملية: فهو يدعو إلى "تشاؤم العقل" (الواقع الموضوعي) الذي يخففه "تفاؤل الإرادة" (العمل من أجل التغيير)، وأهمية معرفة المرء لحدوده من أجل التغلب عليها، ورفض اللامبالاة، لأن الحياة تنطوي على المشاركة السياسية واتخاذ موقف، حتى في مواجهة وحوش التاريخ.
تشاؤم العقل: نقد الهيمنة الثقافية
" تكمن الأزمة تحديداً في حقيقة أن القديم يموت ولا يمكن أن يولد الجديد: خلال هذه الفترة الانتقالية نلاحظ أكثر الظواهر المرضية تنوعاً."
يبدأ غرامشي فلسفته من تحليل عميق للواقع، وهو ما يُسميه "تشاؤم العقل". ليس هذا التشاؤم يأسًا، بل رؤية واضحة لآليات السيطرة. يُقدّم مفهوم الهيمنة كأداة تحليلية أساسية: الطبقة الحاكمة لا تُسيطر بالقوة العسكرية أو القانونية فقط، بل بالموافقة الثقافية التي تُنتجها المؤسسات الاجتماعية، وفي مقدمتها التعليم، الإعلام، والدين. في دفاتر السجن، يُميّز غرامشي بين الدولة (القوة المباشرة) والمجتمع المدني (الهيمنة الثقافية). التعليم هنا ليس محايدًا؛ إنه أداة لإنتاج "الموافقة. المناهج المدرسية، الكتب التاريخية، والخطاب الإعلامي تُروّج لقيم الطبقة الحاكمة كأنها قيم كونية. على سبيل المثال، يُقدَّم النجاح الفردي كنتيجة للجهد الشخصي، مُخفيًا البنية الطبقية التي تُحدّد الفرص. هذا التشاؤم ليس سلبيًا؛ إنه شرط أساسي لفهم الواقع قبل تغييره. يُكمل غرامشي هذا النقد بمفهوم المثقف التقليدي مقابل المثقف العضوي. المثقف التقليدي – المعلّم، الصحفي، الأكاديمي – يخدم النظام دون وعي، مُنتجًا خطابًا يُبرّر الوضع الراهن. أما المثقف العضوي فيُنظّم الطبقة العاملة ثقافيًا، مُحوّلاً الوعي الفردي إلى وعي جماعي. في السياق التربوي، يعني هذا أن المعلّم التقليدي يُلقّن، بينما المعلّم العضوي يُحرّر.
تفاؤل الإرادة: التربية كثورة ثقافية
" كلما كان تاريخ البلد أقدم، كلما زاد عدد هذه الطبقات المتراكمة من الكسالى والطفيليين الذين يعيشون على "إرث الأجداد"، هؤلاء المتقاعدين من التاريخ الاقتصادي، وأصبحوا أكثر عبئاً."
إذا كان تشاؤم العقل يُكشف الواقع، فإن تفاؤل الإرادة يُغيّره. يرفض غرامشي فكرة الثورة العفوية أو العنيفة، مُقدّمًا بدلاً منها حرب المواقع: استيلاء تدريجي على المؤسسات الثقافية، وفي القلب منها التعليم. التربية هنا ليست نقل معرفة، بل بناء إرادة جماعية قادرة على مواجهة الهيمنة. في دفاتر السجن، يدعو غرامشي إلى تعليم شعبي يُربّي "المثقف العضوي" في كل فرد. هذا التعليم لا يبدأ من الكتب، بل من واقع المتعلّم. يُشبه ذلك ما سيُطوّره باولو فرايري لاحقًا في تربية المقهورين: الطالب لا يتلقى المعرفة، بل يُنتجها من خلال حوار مع واقعه. غرامشي يرى أن الإرادة ليست فردية، بل جماعية؛ تُبنى عبر النقاش، الممارسة، والتنظيم. في السياق التربوي، يعني تفاؤل الإرادة تحويل الفصل إلى ساحة ديمقراطية. الطلاب لا يحفظون التاريخ، بل يُعيدون كتابته من منظورهم. لا يقرأون عن الديمقراطية، بل يمارسونها عبر اتخاذ قرارات جماعية. هذا المنهج يُحوّل الطالب من مستهلك للمعرفة إلى منتج للمعنى، ومن متلقٍ سلبي إلى فاعل سياسي.
المقاربة المتوازنة: سياسية وتربوية
"أنا متشائمٌ بعقلي، لكنني متفائلٌ بإرادتي. في كل ظرف، أضع في اعتباري أسوأ الاحتمالات، لأستجمع كل ما لدي من قوة إرادة وأتمكن من تجاوز العقبة. لم أكن يوماً واهماً، ولم يخب ظني يوماً. وعلى وجه الخصوص، لطالما تسلحتُ بصبرٍ لا حدود له، ليس صبراً سلبياً أو خمولاً، بل صبراً مدفوعاً بالمثابرة."
القوة في فلسفة غرامشي تكمن في التوازن بين التشاؤم والتفاؤل، بين التحليل السياسي والممارسة التربوية. السياسة عنده ليست في البرلمان أو الشارع فقط، بل في كل لحظة تعليمية. التعليم ليس أداة للثورة، بل هو الثورة نفسها. في هذا التوازن، يتجاوز غرامشي الماركسية التقليدية. بينما يرى ماركس الوعي كانعكاس للبنية التحتية، يرى غرامشي الوعي كمادة للصراع. التربية هي المكان الذي يُصنع فيه هذا الصراع. المعلّم ليس ناقلًا للمعرفة، بل مُنظّمًا ثقافيًا يُساعد الطلاب على بناء "كتلة تاريخية" جديدة – تحالف بين الطبقات المقهورة يقوم على الوعي المشترك. هذا التوازن يظهر بوضوح في مفهوم البراكسيس : النظرية والممارسة في جدلية مستمرة. الطالب يُحلّل واقعه (تشاؤم)، ثم يُغيّره (تفاؤل). على سبيل المثال، في برامج التعليم الشعبي المستوحاة من غرامشي في أمريكا اللاتينية، يبدأ الطلاب بتحليل الفقر في حيّهم، ثم يُصمّمون مشاريع لتحسينه – من حملات توعية إلى تعاونيات محلية. هكذا يصبح التعليم ممارسة ديمقراطية يومية.
تطبيقات معاصرة: غرامشي في القرن الحادي والعشرين
"عادة ما يكون للمصائب تأثيران: غالباً ما تقضي على كل عاطفة تجاه المنكوبين، وفي كثير من الأحيان أيضاً تقضي على كل عاطفة تجاه الآخرين لدى المنكوبين."
في عصر العولمة والتكنولوجيا، تظل أفكار غرامشي حية. الهيمنة اليوم ليست في الكتب المدرسية فقط، بل في الخوارزميات، وسائل التواصل، والثقافة الشعبية. التشاؤم يدعونا لنقد كيف تُشكّل منصات رقمية الوعي الجماعي. التفاؤل يدعونا لبناء "مثقفين رقميين" يستخدمون هذه المنصات لتنظيم المقاومة الثقافية. في التعليم، نرى تطبيقات غرامشي في نماذج مثل التعليم القائم على المشاريع في فنلندا، حيث يُحلّل الطلاب قضايا محلية ويُصمّمون حلولًا. أو في التعليم الشعبي في فلسطين، حيث تُصبح المدارس في المخيمات مراكز للحفاظ على الذاكرة الجماعية وبناء الهوية. حتى في الجامعات، يُستخدم غرامشي في برامج "الدراسات النقدية" التي تُحلّل السلطة في المناهج والمؤسسات.
خاتمة
" يجب على المرء أن يكون على دراية تامة بحدوده الخاصة، خاصة إذا كان يرغب في توسيعها."
أنطونيو غرامشي ليس مجرد فيلسوف ماركسي، بل فيلسوف ديمقراطي يُعلّمنا أن الديمقراطية تبدأ في الفصل الدراسي. تشاؤم العقل يُكشف لنا كيف تُسيطر الهيمنة على عقولنا. تفاؤل الإرادة يُعلّمنا كيف نُحرّرها. التوازن بينهما يُحوّل التعليم من أداة للطاعة إلى أداة للتحرر. في النهاية، غرامشي لا يدعونا للثورة في الشوارع، بل لثورة في كل حوار، كل سؤال، كل درس. الديمقراطية عنده ليست نظامًا، بل ممارسة يومية تُبنى بالوعي والإرادة. وكما كتب في رسائله من السجن: "يجب أن نمنع العقل من اليأس، والإرادة من الوهن". هذا هو جوهر فلسفته – ومفتاح تعليم ديمقراطي حقيقي. فهل يمكن المراهنة على السياسة التربوية الثورية في عملية بناء انسان العصر الرقمي؟
كاتب فلسفي



#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لغة الضاد بين التكلم عن معاناة الشعوب المضطهدة والنطق باسم ا ...
- مقاربة بسيكوسوسيولوجية للكائن البشري عند ايريك فروم
- جدلية التخلف والتقدم عند العرب بين النماذج الغربية والبدائل ...
- في عالم الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً
- خلفيات الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والتفريط في حقوق الشعوب ...
- اهتمام الذات الباحثة في مجال الفكر الفلسفي
- فلاسفة في الطريق إلى الحقيقة، ما بين التأمل الميتافيزيقي وال ...
- الكائن البشري بين الطموح اللامتناهي نحو المطلق والإقرار بالت ...
- ما بين سبينوزا والسبينوزية، مقاربة أخلاقية سياسية
- الحقوق الفلسطينية في الدولة والعودة والإعمار وجذورها الراسخة ...
- السياسة عند فولتير بين أول الفنون وآخر المهن، مقاربة تنويرية ...
- الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، مقاربة حضارية
- صدور كتاب لم نحتاج الفلسفة في زمن الذكاء الاصطناعي؟
- القيمة الدائمة للفلسفة هي التطوير المستمر للفكر في كل فرد وك ...
- مشروع القرار الأمريكي بشأن مستقبل غزة والموقف الفلسطيني منه
- الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة والمعاصرة
- الحرب هي النواة الإشكالية لأهم المعارك الجيوسياسية بين القوى ...
- القرار الأنطولوجي الحاسم للذات الجمعية بفك الارتباط بالمركزي ...
- أسلوب المقاربات بين المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية والمفه ...
- مخطط تقسيم السودان بين السياق التاريخي، الأسباب، والتداعيات


المزيد.....




- قصف وعمليات نسف في غزة.. وتحذير من عودة المجاعة
- اقتحامات إسرائيلية في الضفة تسفر عن إصابات واعتقالات
- دعوات إعدام وسجال ولاء.. صدام حاد بين ترامب ومشرعين بالكونغر ...
- من كابل إلى القارات الخمس.. اللاجئون الأفغان يشكلون إحدى أكب ...
- أغلبية الألمان تؤيد تخفيض عدد طالبي اللجوء وتشديد سياسة الهج ...
- منظمة دولية: غزة لم تعد تعاني من المجاعة بعد تدفق المساعدات ...
- الأمم المتحدة تعلن انتهاء المجاعة في غزة وتدعو لإدخال المزيد ...
- هدم المخيمات .... مسار استراتيجي متكامل لتصفية قضية اللاجئين ...
- تنفيذ حكم الإعدام بحق عميل إسرائيلي..كيف تواصل مع كيان الاحت ...
- العفو الدولية تدعو تونس لإلغاء أحكام سجن المعارض العياشي اله ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - زهير الخويلدي - حول أنطونيو غرامشي كفيلسوف ديمقراطي بين تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة