جبار عودة الخطاط
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 20:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شكّل المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني "حفظه الله" أحد أعمدة الاتزان التاريخي في مسار الدولة العراقية الحديثة، والمؤسسة الدينية التي نهضت لإصلاح المجتمع وكيان الدولة بوجه المخاطر الجمّة، إذ أدّى دورًا يتجاوز الإرشاد والفتوى الدينية ببعدها الإبتلائي؛ إلى حماية الكيان الوطني في أدقّ لحظاته. ففي أزمنة الانهيار والفراغ، كان حضوره صامتًا في شكله، حاسمًا ناطقًا في أثره، موجّهًا البوصلة نحو حفظ الدولة لا مصادرتها، وصون المجتمع لا زجّه في الأزمات.
تميّز دور السيد السيستاني "حفظه الله" بقدرته على تحويل المرجعية إلى مظلة جامعة، لا أداة استقطاب. دعا إلى الاحتكام للدستور، واحترام إرادة الشعب، وبناء الدولة على أساس المواطنة والعدالة، رافضًا أي وصاية داخلية أو خارجية على القرار العراقي. وفي أخطر منعطف أمني، حين تهدّد العراق وجوديًا، جاءت فتوى الدفاع الكفائي كإجراء استثنائي لحماية الأرض والناس، لا كمدخل لعسكرة السياسة، فوضعت حدًا للانهيار ومنعت سقوط الدولة.
الأهم في تجربة السيد السيستاني "حفظه الله" أنّه حافظ على مسافة أخلاقية من السلطة، فلم يكن شريكًا في الحكم ولا غطاءً للأخطاء، بل مرجعًا ناقدًا عند الانحراف، وموجّهًا عند الخطر. بهذا التوازن الدقيق، أسهم في حفظ العراق من التفكك، ورسّخ نموذجًا لمرجعية تحمي الدولة من دون أن تحكمها، وتمنح الشرعية للاستقرار لا للفوضى.
برز الدور الأبوي للمرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني "حفظه الله" بوصفه صمّام أمان أخلاقي ووطني في واحدة من أعقد المراحل التي مرّ بها العراق، ولا سيّما إبان الاحتلال الأميركي. فقد تعامل مع الحدث بمنهجية حصيفة رصينة بعيدًا عن الإنفعال، بل بحكمة العارف بثقل المسؤولية التاريخية، مدركًا أن حماية الإنسان والدولة مقدّمة على تسجيل المواقف الآنية.
اتّسم موقفه من الاحتلال برفضٍ مبدئيّ واضح لأي وجود أجنبي يفرض إرادته على العراقيين، فاختار طريق الضغط السياسي والشرعي، داعيًا إلى استعادة السيادة عبر الآليات الدستورية والانتخابية، ومصرًّا على أن يكون القرار عراقيًا نابعًا من إرادة الشعب لا مفروضًا بقوة السلاح.
تجلّى البعد الأبوي في خطابه الهادئ، الذي كان يوازن بين الغضب المشروع والواقعية السياسية، وبين حق المقاومة كخيار وطني أصيل يرفض الإنصياع لإرادة المحتل، مع حرصه على ضرورة حفظ الأرواح ومنع الانهيار الشامل. لم يساوم على السيادة، لكنه حمى البلاد من التمزّق، ووجّه العراقيين نحو بناء مؤسساتهم بأنفسهم، رافضًا أي شرعنة للاحتلال أو تفويضٍ مفتوح له. وكان لغلق بابه بوجه السياسيين؛ الموقف الواضح في رفض المسارات الخاطئة من قبلهم؛ والتي تسببت بأذى كبير لمنظومة الدولة .
لم تكن فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني عام 2014 مجرّد نداءٍ عابر في لحظة خطر، بل كانت موقفًا تاريخيًا فذًا أنقذ العراق والمنطقة من السقوط في العدم. صدرت الفتوى حين تهاوت المدن، وتقدّم تنظيم داعش الإرهابي كإعصارٍ أسود يهدّد الأرض والإنسان والهوية، فجاء الصوت الهادئ من النجف الأشرف ليحوّل الخوف إلى وعي، والفوضى إلى مسؤولية وطنية جامعة، وكان التنظيم الإرهابي قد حظي- للأسف- بحواضن إجتماعية أرادت التنفيس عن أحقاد تأريخية طائفية من خلال تلك العصابات التكفيرية، وبالنتيجة كانوا هم من الذين عصفت بهم وحشية هذا التنظيم !
تميّزت الفتوى بروحها الأخلاقية والوطنية؛ إذ لم تدعُ إلى القتل ولا إلى الانتقام، بل إلى الدفاع عن الوطن والمقدّسات وحماية الناس جميعًا من دون تمييز. سعت الفتوى لضبط إيقاع السلاح المقاوم لا لإطلاقه، ولحماية الدولة لا لاستبدالها، فأسّست لمعركة عنوانها الواجب لا الثأر، والانضباط في الفعل المقاون الشريف الذي تمخض فيما بعد عن ولادة الحشد الشعبي الباسل. ومن هنا، تحوّل الاندفاع الشعبي إلى قوّة منظّمة، التفّت حول الجيش والقوات الأمنية، وساهمت في سدّ الفراغ الذي كاد يبتلع العراق.
بهذا الوعي، تحقّق الانتصار على داعش؛ انتصار لم يكن عسكريًا فحسب، بل أخلاقيًا ووجوديًا. فقد صمد العراق لأن المرجعية وضعت حدًّا للفوضى، وربطت الدم بالدولة، والتضحية بالمستقبل. وهكذا أثبت السيد السيستاني أنّ الكلمة حين تصدر من موقع الحكمة يمكن أن تهزم الإرهاب، وأنّ الفتوى حين تُبنى على المسؤولية تحفظ الأوطان وتغيّر مسار التاريخ.
موقف آخر قدمه سماحة السيد السستاني "حفظه الله" حينما دعم إلى حد ما تظاهرات 2019 دعمًا يشترط عدم نشر الفوضى والتعرض للممتلكات العامة وكانت لخطب ممثله في كربلاء المقدسة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي المواقف الواضحة في دعم مطالب الشعب ووصف المتظاهرين بأحبتنا، وهو ما دعاني إلى تأييد المطالب المشروعة للتظاهرات وكنت أدافع عنها في نقاشاتي بوجه الفساد المستشري في البلاد، وحرمان الشباب العراقي من حقوقهم غير إن تأييدي هذا ما لبث أن تلاشى بعد دخول أجندات معادية للعراق على خط التظاهرات، فضلًا عن تحفظي على الممارسات التي وجدتها غير سوية، والتي لا يمكن أن تنسجم مع ذائقتي القيمية والإجتماعية، برغم أحقية المطالب التي رفعها المتظاهرون الحقيقيون في تظاهرتهم التي خرجت بحثًا عن مخرج في أفق يضج بالفساد والخراب!
كان لموقف المرجعية الكلمة الفصل في تحديد حق التظاهر بوجه الظلم والفساد شريطة عدم الوقوع في براثن الاجندات المغرضة والتعرض للممتلكات العامة.
هكذا، قدّم السيد السيستاني نموذجًا فريدًا لقيادة أبوية حكيمة، أدارت أخطر الأزمات بعقل الدولة لا بعاطفة اللحظة، وأسهمت في إخراج العراق من قبضة الأزمات العاصفة بأقلّ الخسائر الممكنة، محافظًا على وحدة المجتمع وممهّدًا الطريق لاستعادة القرار الوطني.
أتذكّر أنّه في عام 2006 أو 2007 وربما عام 2008 لا أتذكر التأريخ بالضبط، المهم بتلك السنوات؛ قصدتُ المكتب الشريف لسماحة السيد علي الحسيني السيستاني في النجف الأشرف، ملتمسًا منه براءة الذمّة، بعد أن كنت قد انتقدتُ ـ بعقلي القاصر ـ موقف المرجعية من الاحتلال في أكثر من مناسبة، وقلت فيها أشياء متسرعة. جلستُ إلى يسار سماحة السيد الجليل بوجهه المشرق الذي يفيض نورانية، ولحيته البيضاء المنسدلة على صدره الشريف، والتماعة عينيه التي تشع بتعب السنين، فمدّ يده الكريمة وأمسك بيدي بحنوٍّ أبويٍّ آسر، ليبعث في داخلي إطمئنان عجيب! لا تزال كلماته، المفعمة بأبوّة وعاطفة هاشمية عجيبة ترنّ في أذني حتى اليوم. قال لي بهدوء مطمئن: "أنت مبرّئ الذمّة"، ثم أوصاني بوصايا ثمينة ما زال أثرها يتردّد في روحي ووجداني.
تحدّث عن رحمة الله يوم القيامة، تلك الرحمة التي تفوق الوصف، وتتجلّى بسعة تملأ الوجود حتى يُروى أنّ إبليس نفسه يطمع بها من شدّة اتساعها، إذ إنّ رحمة الله تغلب غضبه غلبة عظيمة كما قال السيد العظيم. وأشار إلى أنّ هذه الرحمة تشمل الخلق كلّهم، من سائر المخلوقات ، وتتجلّى للمؤمنين بمغفرة واسعة ورفعة درجات وشفاعة ورحمة متعدّدة. وذكّرني بقول الإمام الصادق (عليه السلام):
"إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته"، ومنذ ذلك اليوم أي من حوالي 20 سنة وهذا الحديث يدور معي في كل أحوالي وظروفي، ملمتسًا مما يبعثه فيَّ من رَوح وأمل القوة والجَلد على مواصلة حياتي المليئة بالتعب !
ثمّ بعبارة قصيرة، لكن عميقة الدلالة، عبّر سماحة السيد عن حبّه الكبير للعراق وضرورة حمايته من الأخطار، وحينما وجدني متألمًا نفسيًا من انتقادي السابق، قال لي بما معناه: لا عليك هذا الإحساس الذي يراودك بالندم دليل فطرة سوية مطلوب فقط توجيهها بالمسار الصحيح، وأنتم أبنائي....
وكانت المفاجأة حين اعتذرتُ منه بانكسارٍ ممزوج بالمحبّة، وطلبتُ منه أن يدعو لي، فقال: "حفظكم الله ورزقكم المغفرة وحسن الخاتمة"، ثم أردف بتواضعٍ يفيض إنسانيّة: "وأنتم لا تنسوني من الدعاء"!.
يا الله… أيّة أخلاقٍ محمديّة يحمل هذا الجبل الإنساني المحمّدي. شعرتُ يومها بخجلٍ لا حدود له، خجلٍ أمام سموّ الروح، ونبل الأبوة، وعظمة التواضع.
هذا الموقف ذكرني بما ذكره السيد الشهيد الثاني آية الله العظمى محمد محمد صادق الصدر "قدس" حينما قال له أحد الأشخاص "إبريني الذمة سيدنا آني انتقدتك أو حجيت عليك" فأجابه سماحة السيد الشهيد بأسلوبه العذب : "حبيبي جزاك الله خير جزاء المحسنين إنت حجيت علي لأنك تصورت إن ذلك الحق فعملته"!
مناسبة كتابة هذه السطور ما رأيته من إطلالة قبل يومين لسيد النجف العظيم في بيته المتواضع؛ وهو يعاود استقبال زائرية بعد وعكة صحية ألمت به ..
وكنت قد كتبت مقالين عن سماحة السيد السستاني الأول عام 2009 نشرته في جريدة البينة الجديدة، والآخر عام 2012 نشرته في جريدة النهار العراقية ..حاولت استعادتهما لكن للأسف لم أعثر عليهما لفقدان إرشيفي الورقي بعد سفري إلى لبنان.. فكتبت هذه السطور مبتهلًا إلى الله العلي العظيم أن ينعم علينا بحفظ السيد السيستاني الأجل، وأن يطيل في عمره الشريف ليبقى للعراق والأمة الإسلامية ذخرًا ووالدًا كبيرًا.
هؤلاء هم عظماؤنا علماؤنا الأجلاء وهم مصاديق رحمة الله الواسعة فينا وبهم نصل مرافئ السلامة والنجاة .
#جبار_عودة_الخطاط (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟