أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خلف علي الخلف - نظام الرثاثة: سلطة صنعت من القبح وعاشت فيه















المزيد.....

نظام الرثاثة: سلطة صنعت من القبح وعاشت فيه


خلف علي الخلف

الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 16:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم يكن النظام السوري البائد، مجرد سلطة أمنية عارية تستند إلى القمع وسجون تدمر وصيدنايا -مثالاً- والقتل المنهجي تحت التعذيب، واستخدام كل صنوف الأسلحة ضد الشعب؛ بل كان قبل ذلك وبعده نظاماً للرثاثة. رثاثة لا تتجلّى فقط في بنية السلطة البشرية والبنية التحتية المتهالكة أو الاقتصاد المنهوب، بل في الذوق العام الذي صاغه النظام لنفسه وللمجتمع قسراً: رثاثة في الشعارات، في الزي الرسمي، في الفضاء البصري، في لغة الاحتفال، وفي الصورة التي يصدرها عنه كرمز لـ "السلطة" و"القيادة التاريخية".

من يتذكر أو حتى يستعرض أرشيف الصور السورية منذ سبعينيات القرن الماضي يدرك أن النظام لم يكتف بإفقار الناس اقتصادياً وسياسياً، بل حاول إفقارهم جمالياً. لم يكن القبح خطأً عرضياً؛ كان جزءاً من الهوية الرسمية، من “فلسفة النظام” إن جاز التعبير. القبح هنا ليس مجرد غياب للمعنى وقصره، بل غياب للجمال.

من يبدأ بالشعارات يكتشف ذلك حين يرى تلك اللافتات القماشية المتدلية من الأبنية الحكومية: كلمات ضخمة، بلا روح، كُتبت بخط متخم، غير منسّق، يبدو كأنه صُمّم في دقائق. “قائدنا إلى الأبد”، “مسيرة التصحيح”، “أمة عربية واحدة”، كلها عبارات كانت تُعلّق فوق الشوارع أو تكتب على الحيطان كأنها تفرض ذوقها على الهواء ذاته. لم يكن الهدف إقناع "المواطن"، بل محاصرته وإرهاقه. إرهاقه بصرياً كما يُرهق سياسياً.

كذلك كان حال الزي الموحد في المدارس. ففي الابتدائية لون باهت يراوح بين لون الغبار ولون سماء باهتة كالحة، وفي الإعدادية والثانوية أرده لباساً عسكرياً، لكنه -مثل لباس الجيش- أقرب إلى ثياب السخرة منه إلى زي تعليمي. لم يشبه أزياء الطلبة في العالم، لا في وظيفته التربوية ولا في رمزيته. كان امتداداً لثقافة ترى الفرد كتلة يجب صهرها: لون واحد، شكل واحد، عقل واحد. ويذكر كل من عاش تلك الفترة أن الطلبة كانوا يحاولون إدخال تنويعات على هذا اللباس للخروج بشكل لائق إلا أن هذه المحاولات كانت تعتبر جريمة يعاقب عليها الخارجون عن الكتلة في الباحة أمام زملائهم كي يتعظوا ويكفوا عن محاولات تجميل لباسهم الرث.

حتى اليافطات؛ بدءاً من تلك التي تحمل شعار “طلائع البعث” و“اتحاد شبيبة الثورة” و "حزب البعث العربي الاشتراكي" تبدو اليوم مثل مخلفات حقبة صناعية مهجورة: خطوط بدائية، نسر مرسوم بإهمال، نجوم باهتة، ألوان متنافرة. ذائقة تصرخ بأن من صمّمها لم يفكر يوماً في معنى الجمال، أو ربما خشي الجمال لأنه لا ينسجم مع الخوف.

ثم نصل إلى سيارات الشرطة والأمن والجيش التي كانت وسيلة نقل الناس إلى حتفهم. مركبات الجيش التي تحمل طلاء أخضر كالح كُسِر لمعانه بعقود من الإهمال؛ إنه لون “وظيفي” لمصلحة سلطة لا تكترث للانطباع ولا تعرف أن الشكل يعكس الروح. حتى الخطوط الأخرى إن وجدت تبدو كأنها مسحوبة على عجل بفرشاة عادية. قبح يُراد له أن يفرض نفسه، فيتحول حضور الجيش في الشارع إلى تجسيد بصري للأحادية والركود والرثاثة.
أما سيارات الشرطة فهي ذات لون ترابي أبدي، كأنها خرجت من حفرة طينية في زمن منقرض ولم تُغسل منذ أن خُلق الغبار نفسه؛ طلاء مطفأ يذكر بجلد متقشّر، وخطوط باهتة تشي بأن يداً مرتعشة رسمتها على استعجال، فتسير في الشوارع ككتل ترابية متحركة لا تحمل من ملامح "الدولة" إلا ما تحمله المقابر من بهجة.
ولا ننسى سيارات "الجنائية" الحمراء المخطّطة بالأبيض من منتصفها، و"النجدة" الحمراء كاملة، تلك المركبات التي تبدو كأن مصمّمها استوحى ألوانها من علب الطماطم لا من جهاز دولة؛ حمرة فاقعة تُجرّح العين، وخط أبيض يشقّ الجسد كندبة غير ملتئمة، فتتحرك في الشوارع كألعاب بلاستيكية ضخمة تاهت في مدينة حقيقية، شاهدة على ذوق رسمي لا يعرف من جمالية اللون إلا ما يُذكّر بضجيج الأسواق الشعبية في بلاد مزدحمة.

حتى تصميم علب السكائر الحمراء الطويلة والقصيرة، وعلب الناعورة والشرق وأوغاريت، فناهك عن رداءة تبغها، علب تبدو كأنها بقايا مطابع السبعينيات؛ ألوان باهتة لا تلتقي، خطوط هندسية بلا معنى، نقوش تشبه رسومات طالب ابتدائي جُرّ إلى حصة الرسم بالقوة. ورق رقيق كجلد محروق، وطباعة غير متقنة تترك الحبر على الأصابع، كأن القبح فيها قرار مؤسسي لا ذوق عابر. علب تُشعرك أن من صمّمها لم يكن يفكر بمنتج يُباع، بل بواجب يُؤدّى على مضض داخل غرفة مظلمة بلا نافذة.

أما الاحتفالات الوطنية، فهي مدرسة قائمة بذاتها في الرثاثة: الأطفال الذين يُجبرون على رفع صور "قائد التشرينين" بحجم أكبر من أجسادهم، الطوابير البشرية التي تتحرك بنمط واحد كأنها نسخ مكررة، الخلفيات التي لا تنتمي لأي معيار فني. الميكروفونات المشوشة، الموسيقى العسكرية الرتيبة، الأعلام المصنوعة من قماش رخيص يتفتت تحت الشمس. هنا يصبح الاحتفال نفسه شكلاً من أشكال العقوبة: عقوبة جمالية تجبر الجميع على ترجع الرثاثة بصمت كجزء من تجرع السلطة.

لكن ذروة الرثاثة تظهر في صور المقبور ووريثه التي ملأت المدن. صور لا تُقنع وليس من وظيفتها الفن؛ فقط تُراقب. نُشرت بأحجام غير طبيعية، فوق الطرقات، داخل الصفوف، على جدران المستشفيات، وحتى في صالونات الحلاقة. صور مصممة بخلفيات باهتة، أو سماء اصطناعية تفتقر للعمق، أو شمس لا تشرق من مصدر واقعي. صور تُنتج السلطة لا الشخص، وتُظهر المقبور وعجيانه كمنتج بصري بلا سياق، بلا ظل، بلا حياة. صورة لا تمت إلى الواقع بصلة مثل علبة كرتونية رميت في حاويات القمامة لا تصلح لحمل المعنى.

الرثاثة هنا ليست ذوقاً سيئاً فحسب؛ إنها تقنية للهيمنة. النظام الذي يخشى الفن يخشى الخيال، ويخشى من فضاء بصري جميل لأن الجمال يوقظ الأسئلة. لذلك فضّل خلق عالم رمزي مبني على القبح والبشاعة الرثة. القبح يربك المخيلة، ويجعل الاعتياد ممكنًا: حين يعتاد "المواطن" على قبح الطريق والمبنى والشعار والصورة، يعتاد على قبح السلطة.

حتى العمارة لم تسلم: مباني حكومية مكعبة بألوان إسمنتية، نوافذ صغيرة كالسجون، ممرات طويلة ضيقة، مكاتب خشبية رديئة. كل شيء يدفع نحو التصاغر. العمارة هنا ليست مجرد شكل؛ هي خطاب: خطاب يبقي الفرد صغيراً في حضرة السلطة الكبيرة.
قد يبدو الأمر جماليات سطحية، لكنه ليس كذلك. الفيلسوفة حنة آرنت، وهي تكتب عن الأنظمة التوتاليتارية، تحدّثت عن “تفاهة الشر”: الشر الذي يتحقق عبر البيروقراطيات الرتيبة والرموز الفارغة. في سوريا، يمكن أن نتحدّث عن "رثاثة الشر": شر رثّ، لا يتقن حتى بناء طغيان ذي مظهر. نظام لم يستطع أن يكون فاشياً متقناً كإيطاليا موسوليني، ولا شيوعياً جمالياً كالاتحاد السوفيتي في لوحاته ودعاياته. كان نظاماً متواضع الطموح، فقيراً الخيال، يعتمد على القبح ليملأ الفراغ.

إن الرثاثة ليست نتاج صدفة؛ إنها بنية كاملة. حين يُفرض القبح رسمياً، يصبح الجمال فعل مقاومة وهذا ما كان يفعله الطلبة في المدارس الذين تُقمع محاولاتهم للخروج بمظهر لائق بشدة. المطر الذي يغسل اللافتات، شجرة تُصرّ على النمو وسط تعلق "البائد" بتصحير المجتمع والأرض، جدار يُعاد طلاؤه بألوان حيّة، أغنية مختلفة يغنيها الناس خارج إعلامه، لوحة صغيرة يرسمها طفل دون تعليمات؛ كل هذا يصبح عصياناً غير معلن.

وحين بدأ "البائد" بالانهيار، ظهرت حقيقة بسيطة: لم يكن قوياً، بل كان مُغطّى بطبقات كثيفة من القبح. وحين سقطت تلك الطبقات، بدا هشاً، فقيراً في روحه، تماماً كالشعارات التي صُمّمت في مكاتب حكومية قبل أكثر من خمسين عام.
هكذا يمكن أن نقول إن "البائد" لم يُهزم فقط سياسياً أو عسكرياً؛ كان مهزوماً جمالياً منذ اللحظة الأولى. لقد بنى عالماً رديئاً ثم عاش داخله. عالم يليق بوصف واحد: نظام الرثاثة.



#خلف_علي_الخلف (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرُّوع لزهران القاسمي: الوهم بوصفه أداة للتحكم في الوعي
- عن عراقي في باريس: الذي حول سيرة العائلة الى نشيد تسامح
- زميلي ماركس في البادية يورد الإبل
- تهمة الطائفية: حينما تصنع المخابرات التهمة ويكرّسها المثقفون
- تحالف المسعورين: حرب داخليّة ضد السلطة الانتقالية في سوريا
- حماية الدروز في سوريا: شماعة إسرائيلية جديدة لضمان الهيمنة
- عمر سليمان: صوت الجزيرة الذي احتفت به شعوب العالم وأنكره الس ...
- الإيمان والسوط: سيرة الكنيسة القبطية في مواجهة الفكر
- تفكيك الأكاذيب: العرب والمسيحية وحمّى التزييف الأيديولوجي ال ...
- تاريخ المعتزلة وتدليس اليسار العربي
- دليل الحيران إلى مذاهب الإيمان: الأريوسية المسيحية المنقرضة
- عن الدولة الأندلسية في الإسكندرية
- يامبليخوس: الفيلسوف الذي شكل الأفلاطونية المحدثة
- وجوب محاسبة من تلطخت كلماتهم بالدماء في سوريا
- معايير تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني في سوريا والجدل ...
- مقاربات عملية لحل معضلة قسد في إطار سوريا الجديدة
- الدور السعودي في سوريا الجديدة
- الوهابية الثقافية العربية
- رسالة تأخرت سنة إلى طالبي فتح الحدود
- الحسين مجرد طالب سلطة وليس ثائرا


المزيد.....




- مفاوضات السلام في أوكرانيا.. إليكم ما تم الاتفاق عليه والنقا ...
- روما تفتتح 2 محطة جديدة على خط مترو سي وتعرض آثار قديمة قرب ...
- بسبب -حق النقض- الإسرائيلي.. تركيا مستبعدة من مؤتمر قوة الاس ...
- خطأ إدراج حزب الله و-الحوثيين- على قوائم الإرهاب يطيح بمسؤول ...
- عاجل | البنتاغون: وزارة الخارجية وافقت على مبيعات عسكرية محت ...
- صحف عالمية: نتنياهو يشكل لجنة -للتستر- على تحقيقات 7 أكتوبر ...
- دول الجناح الشرقي لأوروبا تعتبر روسيا التهديد المباشر للأمن ...
- 337 أسرة سودانية وصلت كوستي بعد سيطرة الدعم السريع على هجليج ...
- أردوغان: غزة دُمّرت بقنابل تفوق هيروشيما 14 ضعفا
- -ما وراء الخبر- يسلط الضوء على تردي الأوضاع الإنسانية في قطا ...


المزيد.....

- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خلف علي الخلف - نظام الرثاثة: سلطة صنعت من القبح وعاشت فيه