خلف علي الخلف
الحوار المتمدن-العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 20:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا تمر سوريا اليوم بمرحلة عابرة من مراحل تاريخها السياسي، بل تقف في قلب واحدة من أعقد المراحل الانتقالية في تاريخها الحديث منذ إنشائها، وسط محاولات شاقة لبناء دولة من تحت الركام، بعد عقود من الاستبداد، وحكم نظام طائفي قمعي، وإرث ثقيل من القتل، والإبادة، والتهجير، والتهميش.
رغم هشاشة البنية الجديدة وضبابية المستقبل، فإن السلطة الانتقالية التي نشأت في ظل هذه الظروف تسعى بجدية لوضع أسس مشروع وطني جديد لبناء الدولة. ضمن أولويات ملحة تتمثل في؛ بسط السيطرة على البلاد، وفرض الأمن وتدوير عجلة الحياة. ومع ذلك، فإن أبرز التحديات لا تأتي فقط من الخارج أو من بقايا النظام المنهار، بل أيضًا من الداخل. حيث تجد فلول النظام البائد نفسها متحالفة موضوعيًا مع مجموعة متنوعة ومتباينة من الأفراد والجماعات ضد هذه السلطة الناشئة. هذا التحالف غير المتجانس لا يربطه شيء سوى مواجهة السلطة القائمة، وهو تحالف أطلقنا عليه توصيفًا دالّاً: "تحالف المسعورين".
يتألف هذا التحالف الهجين من أطراف متناقضة في الانتماء والمصلحة، يجمعها عداؤها الصارخ لتجربة الحكم الانتقالية التي لا تتوافق مع رؤاها أو مصالحها. من ضمنه نرى بقايا الأجهزة القمعية من جيش ومخابرات وشرطة، كما نرى ميلشيات تمارس سلطتها وفق مفرزات الأمر الواقع السابق لإسقاط النظام وأنصارها، ومنظمات غير حكومية ممولة خارجيًا مشكوك في استقلاليتها، ويساراً عدمياً يعاني من انقطاع تام عن الواقع السياسي والاجتماعي، إضافة إلى بعض "المستقلين" المترددين الذين يخلطون بين التمنيات الطوباوية والممكنات الواقعية.
ضمن هذا الطيفِ الواسعِ، نجدُ بعضاً من أنصارِ الثورةِ الذين وقفوا بصدقٍ ضدّ النظامِ البائد، وكانوا يحلمون بقيامِ دولةٍ مدنيّةٍ علمانيّةٍ تضمن الحقوقَ والحريّاتِ. غير أنّ خيبةَ أملِهم في مسارِ إسقاطِ النظامِ، وتشكّلِ سلطةٍ انتقاليةٍ بقيادةِ قوى إسلاميّةٍ خالفت تصوّراتِهم، دفعت بعضاً منهم إلى اتخاذِ موقفٍ معارضٍ لها. ومع أنّ المعارضةَ حقٌّ مشروعٌ، بل ضرورةٌ لضبطِ أداء أيّ سلطةٍ ناشئةٍ ومنع تغولها، فقد انزلقت هذه المعارضة، لدى كثيرٍ منهم، إلى رفضٍ مطلقٍ للإدارة الجديدة، وتحول خطابُهم من طاقةٍ نقديّةٍ ضرورية إلى تهتّكٍ لغويٍّ ونقدٍ شعاراتيٍّ، افتقر في مجملِه إلى التوازنِ وإدراكِ تعقيداتِ المرحلةِ. وهكذا، وجد هذا الخطابُ نفسَه؛ من حيث لا يدري أصحابُه، لبنةً أساسيّةً في "تحالفِ المسعورين"، بدلًا من أن يكون دعامةً في مشروعٍ وطنيٍّ يحاول بناء دولة من تحت الركامِ.
اللافت في خطاب هذا التحالف هو تناقضه الداخلي الفج. فهم من جهة يهاجمون السلطة الانتقالية، وينزعون عنها الشرعية، ويصفونها بأنها "جماعات إرهابية"، رغم أنها لم تتبنَّ أيديولوجيا دينية متشددة، بل سمحت بتنوع أنماط الحياة وممارسة العقائد والطقوس والشعائر لمختلف الطوائف والأديان، وحافظت على حياد معلن في القضايا الدينية. لكن ذلك لا ينفي حدوث انتهاكات، بل وجرائم قتل جماعي ذات طابع طائفي من بعض منتسبيها والمتحالفين معها، اعترفت بها السلطة ذاتها ووعدت بالتحقيق والمحاسبة. ومن جهة أخرى، يطالب هؤلاء أنفسهم هذه "السلطة الإرهابية" – كما يصفونها – التي لا يعترفون بها، بأن تُقصي جميع الفصائل الإسلامية، وتبسط سيطرتها على كل شبر في الجغرافيا السورية، وتؤسس مؤسسات أمنية وعسكرية جديدة كما لو أن الدولة تُبنى بقرار عاجل أو عبر بيان ثوري.
هذا التناقض ليس بريئاً. إنه يعكس، في أحد وجوهه، رغبة معظمهم في إفشال أي تجربة انتقالية لا يحتكرون تمثيلها، كما يعكس؛ في وجوه أخرى، حنيناً إلى بنية الدولة الطائفية الاستبدادية السابقة، أو تهافتاً على مقاعد نفوذ فقدوها، أو مصالح مرتبطة باقتصاد الفساد، أو ارتباطاً فعلياً بمشاريع دولية لا ترى في سوريا سوى ساحة نفوذ ومصالح. أما القسم الباقي، فهو للأسف ضحية سذاجة سياسية، يتعامل مع الواقع كما لو أنه نص شعري يمكن تشكيله بالتمني، وليس معطى معقداً يتطلب حنكة وصبراً وتراكماً لا أرى أن الإدارة الحالية تفتقده.
في ظل هذه المعطيات، تبدو السلطة الانتقالية اليوم أمام معضلتين: من جهة، يضغط الخارج عبر عقوبات قديمة مشددة فرضت على النظام السابق وأجندات دولية تصل إلى حد التناقض، وتدخلات عسكرية وأمنية إسرائيلية في ظل صمت وتواطؤ دولي، ومحاولات إيرانية معلنة لاستعادة نفوذهم فيها؛ ومن جهة أخرى، تواجه هجوماً داخلياً من هذا التحالف المتنافر الذي يفتقر إلى أي رؤية واقعية بديلة. إذ لا يقدم "تحالف المسعورين" أي مشروع سياسي متماسك، ولا يمتلك القدرة على بناء بديل متوازن للدولة. كلّ ما يقدّمه هذا الخطاب هو نقدٌ شعبويٌّ تضليليٌّ حادّ، تغلبُ عليه لغةُ الاتّهامِ بالتطرّفِ والإرهابِ والطائفيّةِ، ويتجاهل العجز الموضوعي الذي فرضته الظروفُ الصعبةُ التي وُلدت فيها السلطة، ويتجاهل المحاولات الخارجية والداخلية والفصائلية التي تهدف إلى تقويض العملية الانتقالية، التي يشكل تحالف المسعورين أحد أركانها.
هذا التحالف يسعى حثيثا ويبذل كل ما يستطيع لإفشال مشروع بناء الدولة وفي الوقت ذاته ينتقد عدم الإسراع في المسار الانتقالي الذي ما زال في بداياته. إنه تحالف يسعى جاهدا للإعاقة والهدم ويطالب بالإسراع بالبناء في الوقت ذاته.
لنكن واقعيين: هذه السلطة الانتقالية ليست مثالية، وقد وقعت بالفعل في أخطاء، بعضها جسيم، وبعض منسوبيها ارتكبوا انتهاكات وجرائم تحتاج إلى معالجة عاجلة، لكننا نتحدث عن كيان ما يزال في أشهره الأولى، خرج لتوه من معركة وجودية ضد واحدة من أكثر الديكتاتوريات دموية في المنطقة. انتظار أن تبني هذه السلطة مؤسسات جيش وأمن وعدالة وصحة واقتصاد مكتملة في ظرف شهور، ووسط تدخل إقليمي وضغوط دولية، هو نوع من العبث أو التواطؤ المقنَّع.
الأخطر من كل ما سبق أن البدائل التي يضمرها هذا التحالف، وإن لم تُذكر صراحة، لا تخرج عن خيارين: إما الفوضى المفتوحة على الإحتراب الأهلي، مما يتيح تدخلا دوليا وفق تمنياتهم، يتيح لكل جماعة وجهة أخذ حصتها من البلاد أرضاً، أو عودة شبكات النظام البائد تحت مسميات جديدة. وهذان الخياران مرفوضان شعبياً وسياسياً وأخلاقياً، بل ومتاحان فقط بثمن باهظ سيدفعه الجميع، من دماء السوريين وأحلامهم في بلد مستقر تحقن فيه دماؤهم.
وعلى العكس، فإن الخيار الواقعي الوحيد المتاح اليوم، رغم كل ما فيه من عقبات وتحديات، هو دعم بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وممارسة النقد لصالح مشروع الدولة، لا ضده. النقد الذي لا يهدف إلى تعطيل بناء المؤسسات، بل المشاركة في بنائها وتقويمها، وإدراك الظروف الموضوعية للبلاد المنهكة وعدم تحميل المؤسسات الناشئة فوق طاقتها المحدودة، بل دفعها عبر النقد والإشارة المستمرة للأخطاء للاستجابة التدريجية لمطالب المجتمع.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس "إجماعًا سياسياً" مفتعلاً، بل تفاهماً وطنياً على الأولويات: إنهاء الحرب، بناء مؤسسات عسكرية وأمنية ومدنية جديدة، تدوير عجلة الحياة في البلاد، إطلاق عملية عدالة انتقالية حقيقية، القضاء على الفساد الذي نخر كل شبر في البلاد، للوصول إلى بناء دولة مواطنة تشاركية تقرُّ وتحمي حقوق الأفراد والجماعات المتساوية. كل هذا ضمن الممكن لا عبر الخطاب النقي المجرد المتعالي على الواقع والإمكانات. من يريد بناء دولة فعليه أن يشارك في البناء، أو – في الحد الأدنى – ألا يعطلها.
ختاماً، لا يمكن لسوريا أن تعود إلى الوراء. الفترة الانتقالية قد تكون مؤلمة وناقصة، لكن نكوصها يعني الانهيار الكامل أو العودة إلى منظومة الاستبداد بشكل مقنع. والمؤسف أن كثيرًا من الأصوات التي تدّعي الدفاع عن الثورة لم تُدرك بعد أن تحقيق أهداف الثورة يبدأ من دعم أي خطوة جادة، مهما كانت ناقصة، لبناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات، لا بتقويضها.
#خلف_علي_الخلف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟