احمد الكافي يوسفي
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 20:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أحمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
تمهيد:
لماذا مقاومة مترحّلة؟ ولماذا الديسمبريون الديكولونياليون؟
أوّلًا، نستدعي هنا فلسفة عبد العزيز العيادي المترحّلة لسبر أغوار هذا الزيغ التونسي في فعل مقاومة المركز. فهذا « الخارج» التونسي اللامفكَّر فيه يُستدعى ليُعقلَن ويُفلسف، بما يكسب فعل المقاومة بعدًا حركيًّا وفلسفيًّا يتجاوز الحدود والهويات الصلبة.
ثانيًا، يمثّل 17 ديسمبر الجذر التاريخيّ والمحليّ الذي تتبلور داخله هذه المقاومة؛ إذ يتحوّل «الديسمبريون» إلى علامة على حدث يتجدّد خارج الأطر الحزبية والتمثيلات الهويّاتية الضيقة، بوصفهم كثرةً متحرّكة لا تُختزل في قالب سياسيّ جاهز.
ثالثًا، إنّ وصف هؤلاء المترحلين المُخرّبين للمركز بـ«الديكولونياليين» يربط التجربة التونسية بأفق نقد الاستعمار المعاصر، ويدمجها في مدار السجالات العالمية التي تعيد التفكير في الهيمنة الغربية وبُنى المركزية الحديثة وامتداداتها الناعمة.
وعليه، يجمع العنوان بين المفهوم الفلسفي والسياق الواقعي والاجتماعي والتاريخي، وبين المحليّ والكونيّ ، ليُقدّم أطروحة مفادها أنّ «الديسمبريين» يجسّدون شكلًا من المقاومة المترحّلة ذات أفق ديكولونيالي، مقاومة تعيد صياغة إمكان التحرّر خارج السرديات الكلاسيكية مثل ما يسمّى ب"الثورات الناعمة".
1) اتيقا 17 ديسمبر
الفقرة الأولى
يشير الفيلسوف التونسي عبد العزيز العيادي في كتابه فلسفة مترحّلة إلى الثورة التونسية، واستنادا الى ذلك يمكن القول ان 17 ديسمبر لحظة تونسيّة تكشف عن مقاومة مترحّلة تُخَرِّب كلّ مركزيّة، شرقية كانت أم غربية. فالسياق الثوري هنا ليس دفاعًا عن "حياة الأفراد" أو "حياة الشعوب" أو "حياة الأمم" بشكل منفصل، بل هو دفاع عن حياة مشتركة تتخلّق داخل ديالكتيكات حيّة، جدليّات لحمية وكينونات مادية تخترق الكلّياني والثابت. إنها مقاومة تُعيد فتح أفق حياة كلّ الناس دون أيّ تمييز.
الفقرة الثانية
يُجسّد 17 ديسمبر، في حدّه الأدنى، أخلاقًا دنيا أو إتيقا مضادّة للكليانية والمركزية الغربية. إنّه ما يمكن أن نسمّيه «أدبًا صغيرًا» بتعبير ناجي العونلي في ترجمته لـ Minima Moralia لأدورنو. فالديسمبريون ليسوا أفرادًا فقط، بل هم شخوص وجماعات وكثرة متوحّدة داخل مقاومة مترحّلة تخرب المركزية الغربية وأجهزتها، تلك التي تتجسّد في الداخل عبر عائلات مافيوزية تحتكر شروط الحياة لتمنّ بها على الشعب، الشعب صاحب الأرض والدولة والتاريخ.
الفقرة الثالثة
وبعد خمسة عشر عامًا على ما سُمّي «ثورة»، نجد في سيدي بوزيد مثالًا دالًّا: أحد الشباب المبدعين اقتصاديًا، من الذين تمرّدوا على العائلات المافيوزية واحتكاراتها، حاول لسنوات فتح خطّ تصدير مباشر. لكنّه اضطر في النهاية إلى العودة إليها ليصدّر عبر شبكاتها، بعد أن تبيّن أنّ اختراق منظومة الاحتكار أمر شبه مستحيل بسبب علاقاتها المتشابكة مع شركات المركزية الغربية، خاصة في أوروبا. إنّه مثال حيّ على استحالة المروق عن التحالف بين رأس المال المحليّ المافيوزي ورأس المال الغربيّ.
الفقرة الرابعة
لهذه الواقعة دلالتها العميقة عند استعادة ذكرى 17 ديسمبر: ليست لحظة «حريات» بالمعنى الذي تروّجه العائلات المافيوزية دفاعًا عن المتآمرين، ولا هي ثورة «خوانجية» حمتها شبكات الأطلسي، ولا هي ديمقراطية غربية أو مواطنة مصطنعة تموّلها دول خليجية ذات قواعد عسكرية غربية في سياق شرق أوسط جديد. ليست فعلًا حزبيًا ولا نقابيًا ولا جمعياتيًا، بل هي مقاومة مترحّلة توحّد المختلف داخل حركة مضادّة للمركزية الغربية الاقتصادية المتحالفة مع العائلات المافيوزية. إنها مقاومة ضد استعباد الشعب وسلب ثرواته عبر احتلال ناعم يحمي مصالح المركز لا مباشرة بل عبر وسطاء محليين.
2) 17 ديسمبر بوصفه حدثا مُخرّبا للمركزية الغربية وفعلا ديكولونياليا مُشبّعا بالحياة
17 ديسمبر بوصفه حدثًا و تاريخًا: من التواريخ اللاقحة والتنبيغيّة التي ترتبط بمسار حياة شعب مفقّر مضاد للمافيوزية
ليس 17 ديسمبر مجرّد تاريخ بالمعنى الرسميّ الذي أرادت العائلات المافيوزية ترسيخه، عبر تحويله إلى مناسبة احتفالية تُفرَغ من محتواها النضالي. فديسمبر ليس زخرفًا سرديًا للزينة، ولا شعارًا للترويج في سماء أوروبا براحة الياسمين، بل هو تاريخ لاقح ومنغرس في الأرض، تاريخ يصنعه شعب يمارس الحياة لا أشباه الحياة.
إنّ 17 ديسمبر هو مسار حياة يُعاد إنتاجه باستمرار؛ مسار إرادة شعب في مواجهة إرادة عائلات مافيوزية تتحكّم في الاقتصاد المحليّ، بوصفها امتدادًا لشركات غربية استعمارية تواصل الهيمنة عبر وكلاء وأذرع داخلية.
وهكذا، تُفهم "الديسمبريّة" باعتبارها طاقة حياة ضد أنظمة استملاك الحياة، وضد تحويل الوطن إلى مسرح تُديره شبكات ناعمة للسيطرة.
ابستمولوجيا الجنوب: 17 ديسمبر بما هو معرفة مقاومة
يمثّل «طوفان ديسمبر» شكلًا من أشكال المقاومة المُغايرة داخل أفق أبستمولوجيا الجنوب. فهو ليس مجرّد حدث سياسي ظرفي، بل معرفة جنوبية تتشكّل ضد أبستمولوجيا الشمال الكولونيالية، التي تنتج معارف تبرّر الهيمنة وتعيد إنتاجها. من هذا المنظور، يكشف ديسمبر إمكان صياغة مقاومة مترحّلة أو نقّيلة، تتجاوز الأجهزة المنطقية والمعرفية التي تحرس المركزية الغربية.
وتتحدّى هذه المقاومة كلّ أشكال التمثيل التي تُراد لها أن تكون «وضعانية» أو «مؤسساتية»، مذكّرة بأنّ المقاومة ليست اتّفاقًا سياسيًا بين أحزاب أو منظمات، بل وضعية وجودية–اجتماعية–تاريخية تنبثق من صلب الحياة اليومية.
"الديسمبري": جسد مقاوم وكينونة لحمية
يُمثّل التونسي الديسمبري – في الفعل والممارسة والإنتاج – نقلات او ترحّلات جسدية محسوسة تُعيد رسم الجسد الاجتماعي والاقتصادي. إنّها نقلات لاقحة ومنبثقة من الأرض، تُقاوم من خلال إبداع الثروة في مختلف المجالات. ويُحدث هذا الإبداع شرخًا في صلب القوة المادية والتكنولوجية التي يقوم عليها الغرب المتوحّش ، والذي يظلّ محتاجًا إلى أدواته الداخلية لفرض السيطرة الناعمة على الشعوب.
في هذا الإطار، يصبح العمل الميداني – في الحقول والمصانع والورشات – فعلًا ديكولونياليًا يُزعزع بداهة احتكار العائلات المافيوزية للاقتصاد، ويكشف هشاشة «صنم الغرب» الذي يواصل هيمنته عبر وكلاء محلّيين.
نقلات ديسمبرية تونسية تعبر عن الجنوب الديكولونيالي:
الفعل الديسمبري هو مقاومة لحمية تنبيغية، تتجلّى في سلسلة من النّقلات:
1) في الجسد التونسي
من اقتصاد المافيات إلى اقتصاد الشعب.
من حريات الأقلية إلى حريات الأغلبية.
من ديمقراطية الواجهة إلى ديمقراطية شعبية.
من خدمات صحية وتعليمية ونقل خاصّة إلى منظومات عمومية مستعادة.
من إعلام التفاهة إلى إعلام الحياة والإبداع والمعرفة.
2) في الجسد الإنساني
من الرضوخ للعولمة إلى مقاومتها عبر إنتاج ثروة لا تحتكرها نخب ضيقة.
3) في الجسد الفلسفي
من فلسفة الحداثة إلى فلسفة نقد الحداثة.
ومن فلسفة تبرّر هيمنة الشمال على الجنوب إلى فلسفة من أجل فلسطين، وفلسفة من اجل الهامش الخ
4) في الجسد الديني
من دينٍ مُحَنَّط داخل أجهزة الهيمنة الصهيو–أمريكية إلى دينٍ يساهم في تنمية الأفراد والجماعات وديكولونيالي
5) في الجسد الوطني
من تبرير الفساد والتطبيع معه إلى مواجهته بإبداع اقتصادي ميداني.
6) في الجسد العربي
من التسليم بالأمر الواقع إلى دكّه وفضحه.
من منظومات التطبيع الى تشظي المقاومة مهما اختلفت مرجعياتها
خاتمة: 17 ديسمبر بوصفه إمكانًا للتحرّر وإعادة ابتكار الجنوب
تكشف التجربة الديسمبريّة التونسيّة أنّ الجنوب قادر على اختراع أشكال جديدة من المقاومة، مقاومة مترحّلة وديكولونيالية تعيد التفكير في معنى التحرّر خارج حدود المركزية الغربية وأدواتها المحلية. فديسمبر ليس حدثًا يُحتفل به، بل نمط وجود يربط بين الكينونة اللحمية والإبداع الاقتصادي، بين النضال الاجتماعي والمعرفة الفلسفية، بين الذاكرة الشعبية والمستقبل الممكن. وبهذا، تصبح "الديسمبريّة" مسارًا لإعادة ابتكار الجنوب داخل تاريخ عالمي جديد، تاريخ لا يُكتب في مراكز الهيمنة، بل في مسارات الشعوب التي تصنع الحياة من جديد.
#احمد_الكافي_يوسفي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟