احمد الكافي يوسفي
الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 16:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
احمد الكافي يوسفي، باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
حسب الرواية الشعبية هذه هي آخر كلمات المجاهد محمّد الدغباجي قبيل إعدامه: "أنا أحارب فرنسا و كلّي إيمان بأّنّه سيأتي اليوم الذي تغرب فيه عن أرضنا لكني أردت أن أعيش لأقاتل كلابها الذين سيصّمون أذاننا بنباحهم بعدها" هذا القول له راهنيته اليوم من خلال طوفان شعبي، في قابس، مضاد للموت بالكميائي مراهنا على الحياة وهو حراك شعبي يعبر عن الوحدة الصمّاء لوحدات الدولة لتفكيك وحدات الفساد والمفسدين والمجرمين أعداء البيئة والطبيعة والإنسان والعقل الحر.
ها هنا، في سياق الحراك الشعبي الملتحم مع دولته من اجل الحياة يتجلى التوتّر في أسلوب الوجود التونسي وفُصاميته. ويمكن التعبير عن هذا التناقض المعيش في تونس عبر شخصيتين متناقضتين في قصيدة شعبية عن المقاوم محمد الدغباجي بعنوان" جو خمسة يقصّو في الجرة" للشاعر علي الورثة الحمروني: ("جو خمسة يقصوا في الجرة وملك الموت يراجي/ و لحقوا مولى العركة المرة المشهور الدغباجي/ /// الكيلاني يتحلَّف فيهم بحلالة وطلاقه/ الدَّالة الفلاَّقة نمحيهم في واسع رقراقة")
كما جاء في القصيدة الشعبية، يمثل "الكيلاني" نموذج الخائن الذي "يتحلف فيهم بحلالة وطلاقه"، بينما يجسد "الدغباجي" روح المقاومة الذي "في يده حره" يواجه الظلم. هذان النموذجان لا يزالان يتجسدان في واقعنا اليوم بين الخونة والمقاومين. وانطلاقا من ذلك يمكن التمييز في حراك المجمع الكميائي بين ما يمكن تسميتهم ب"كيلانيو" المجمع الكميائيو" "دغباجيو" المجمع الكميائي، وهو تناقض لا يرتبط بقابس فقط بل تونس عامّة.
الكيلاني هو نموذج الخائن الذي يستخدم الأيمان الكاذبة (حلالة وطلاقه) لخداع الناس. يتظاهر بالمساعدة بينما في الحقيقة يسلمهم للعدو (الشايط). يمثل التعاون مع القوى المعادية مقابل مصالح شخصية.
الدغباجي هو البطل الشعبي المقاوم، الملقب بـ"مولا العركة المرّة" لشجاعته. يحمل السلاح (حره) ويواجه الأعداء مباشرة، ولا يخاف من مواجهة الظلم. يمثل الصمود والكرامة في مواجهة القمع.
هذا التناقض الجوهري الذي تعيشه تونس اليوم ليس مجرد خلاف حول سياسة بيئية أو نزاع على إدارة منشأة صناعية، بل هو تجسيد لصراع أعمق بين نموذجين للوجود التونسي: نموذج مافيوزي بيروقراطي خاضع للاجنبي، ونموذج سيادي اجتماعي يسعى الى التحرر قدر الاستطاعة من اغلال المحتل وادواته في الداخل . من جهة، يقف "الكيلانيون" في صف المحتلّ الناعم ممثلين لذلك الشخص الانتهازي الذي يحوّل الوطن إلى سلعة، ويختبئ وراء خطاب التنمية والواقعية ليبرر خيانته للبيئة والإنسان. هم أولئك الذين يبيعون مستقبل الأجيال في سوق المساومات الضيقة، متخفين وراء شعارات برّاقة تكرّس ثقافة الازدواجية والانحدار الأخلاقي.
وفي الجهة المقابلة، ينهض "الدغباجيون" كنموذج للتونسي الأصيل، الحامل لروح المقاومة والكرامة، الذي يرفض أن يُخضع حقه في الحياة والبيئة السليمة لحسابات المصلحة الضيقة. إنهم برجالهم ونسائهم، يُمثلون الضمير الحي للدولة التونسيّة، ويرفضون أن تُباع تونس بثمن بخس، أو أن تُسلم روحها لثقافة الانهزام والتبعية.
هذا الصراع إذن هو معركة هويّة شعب قبل أن تكون معركة مشاريع وقرارات. إنه الاختبار الحقيقي الذي سيرسم ملامح تونس الغد: إما أن تكون وطناً للكرامة والحياة، حيث ينتصر الأصيلون على الانتهازيين، أو أن تتحول إلى ساحة للنهب والفساد، حيث تُقام المصالح على أنقاض القيم.
في هذا المشهد، يصبح كل موقف خياراً وجودياً، وكل صمت خيانة، وكل كلمة في قلب المجمع الكيميائي بقابس، تتجسد ملحمة صراع الوجود بين نمطين متعارضين: " كيلانيو المجمع" الذين تلبسوا أقنعة المدافعين عن البيئة بينما هم يمارسون دور السماسرة والوسطاء الذين يتاجرون بسلامة الأرض وصحة الإنسان، و"دغباجيو المجمع " الذين يرفعون راية المقاومة الشريفة بوجوه مكشوفة وقلوب عامرة بالوفاء للوطن.
الكيلانيون هنا لا يختلفون عن سلفهم التاريخي؛ يستغلون معرفتهم بأسرار المكان وخبرتهم التقنية لإخفاء الحقائق وترويج الأكاذيب، متحالفين مع قوى الفساد الداخلي والخارجي لتحقيق مكاسب شخصية على أنقاض بيئة تئن تحت وطأة التلوث، وحياة تُعدم يوميا من اجل حفنة من الوكلاء للاجنبي ومصالحه.
أما "الدغباجيون الجدد"، فهم أولئك العلماء والخبراء و الشرفاء والنشطاء الصادقين وأبناء قابس الأوفياء الذين يرفضون المساومة على مستقبل الأجيال، ويكشفون بالمستندات والأدلة جرائم التلوث المتعمدة، ويواجهون التهديدات بصدر مفتوح وإرادة لا تلين. إنها المعركة ذاتها التي خاضها الأجداد ضد المستعمر، لكن وجه العدو اليوم أصبح أكثر خبثاً - إنه العدو الذي يرتدي رداء مدير تنفيذي، ويتكلم لغة الاستثمار والتنمية، بينما يدفن سمومه في تراب الوطن. في هذه المعركة المصيرية، يصطف الشرفاء في خندق "الدغباجيين" المدافعين عن الحياة، بينما يتكدس الخونة في خندق "الكيلانيين" الذين باعوا ضمائرهم بثمن بخس، ليُكتب تاريخ جديد للبطولة يكون سلاحه الحقائق لا الرصاص، وتكون ساحته المختبرات والدراسات العلمية لا ساحات القتال التقليدية.حق بطولة.
فدغباجيو المجمع الكيميائي: حراس الحياة في مواجهة الخيانة. بينما يتخفى "كيلانيو المجمع الكيميائي" وراء أقنعة المسؤولية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، ينهض "دغباجيو اللحظة الراهنة" كحراس حقيقيين للحياة والبيئة. هؤلاء ليسوا مجرد محتجين عاديين، بل هم ورثة ذلك البطل الشعبي "الدغباجي" الذي واجه القمع بصدره المكشوف. إنهم الباحثون الشرفاء، والنشطاء الصادقون، وأبناء قابس الأبطال الذين يرفضون أن تُعصَب أعينهم بوعود كاذبة أو أن تُخدر ضمائرهم بشعارات مزيفة.
يدرك دغباجيو اليوم أن المعركة الحقيقية ليست فقط ضد التلوث المرئي، بل هي مواجهة وجودية ضد شبكة الفساد المتجذرة. إنهم يخوضون حرب تحرير شاملة لاستعادة الحق في الحياة الكريمة في بيئة سليمة، ويكشفون بالدليل العلمي والموثق خفايا التعاملات المشبوهة والخداع الممنهج. لا يخشون تهديدات المتورطين، ولا تغرهم وعود المناصب أو المكاسب، لأنهم يعلمون أنهم يحملون على أكتافهم أمانة مستقبل الأجيال القادمة.
وجههم مكشوف كالشمس، وصوتهم عالٍ كالرعد، يفضحون كل محاولة للتعتيم على الحقيقة. إنهم يقفون في الصفوف الأمامية بروح ذلك المقاوم التاريخي، حاملين راية الكرامة والإصرار، مؤمنين بأن معركتهم اليوم هي استمرار لنفس النضال من أجل الحرية والعدالة - لكن هذه المرة، تحرير الأرض والإنسان من براثن التلوث والفساد هو جوهر القضية.
انهم المضادون لكل الآليات الذكية للخيانة المعاصرة التي تتجلى بوضوح في واقعنا المعاصر ولا سيما في قابس، حيث نرى بعض من يدّعون الدفاع عن البيئة وهم في الحقيقة من تاجروا بسلامة المنطقة وصحة أهلها. إنهم "كيلانيو المجمع الكيميائي" الجدد، الذين يتظاهرون بالحرص على المصلحة العامة بينما يبرمون الصفقات مع الأجنبي لحماية مصالحهم الشخصية. يستغل هؤلاء معرفتهم الدقيقة بواقع المنطقة وطبائع أهلها، فيخدعون الناس بشعارات براقة عن التنمية وحماية البيئة، بينما هم في الحقيقة يمارسون التعتيم على حقيقة الأضرار البيئية والصحية، ويتعاونون مع شركات أجنبية على حساب الأرض والإنسان.
هؤلاء الخونة الجدد يكرسون نفس نموذج الكيلاني القديم: يظهرون بمظهر المنقذين وهم جلادون، يتحدثون باسم الشعب وهم يبيعون مستقبله، ويحملون أسرار المجتمع كأسلحة في يد الأجنبي. إنهم أخطر من العدو الصريح، لأنهم يضربون الوطن من داخله، مستخدمين ثقة الناس سلاحاً ضدهم، ومحولين القضية الوطنية إلى سلعة في سوق المصالح الشخصية.
#احمد_الكافي_يوسفي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟