احمد الكافي يوسفي
الحوار المتمدن-العدد: 8532 - 2025 / 11 / 20 - 16:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أحمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
1) المقدمة
يمكن للفلسفة أن تكون مشحونة بالتوتر بين الانغراس والمروق: الانغراس في الحياة اليومية والتقاط أفكارها من تشوهاتها على الطريقة "الادرنية" ( ثيودور أدرنو)، وليس مجرد تأملات ميتافيزيقية على الطريقة "الديكارتية"، والمروق والزيغ عن الأرض التي ألف الإنسان العيش فيها، انطلاقًا نحو نور مضاد لظلمات الكهف. رأس الأمر ههنا يقوم على التناقض في صلب العلاقة القائمة بين الفلسفة واليومي: فهي من جهة تنغمس في تفاصيل الحياة، فتكشف المعاني الخفية للوجود، وتحوّل الروتين والدوكسا إلى مادة نقدية لفهم الذات والمجتمع، ومن جهة أخرى تتجاوز اليومي، متجاوزة حدود العادة والمظاهر، لتسعى إلى المبادئ العليا للمعرفة والوجود والقيم. في هذا السياق نسال: هل يمكن للفلسفة أن تكشف لنا معنى حياتنا ومشاكل مجتمعنا من خلال وعينا بالروتين اليومي؟
تبرز مبررات معالجة هذا السؤال في كون حياتنا اليومية مليئة بالروتين والعادات التي غالبًا ما تمرّ دون وعي منا، غير أنّ هذا الروتين يخفي توتّرًا عميقًا بين العيش الآلي وما يمكن للوعي الفلسفي أن يكشفه من دلالات خفية لتفاصيل الحياة. فهو يتضمّن أفكارًا متناقضة حول طبيعة العلاقة بين الذات والمجتمع، ويُظهر أن العادات والتكرار قد تعدم المعنى الحقيقي للحياة اليومية. لذلك، يصبح من الضروري التساؤل عن حقيقة علاقة الفلسفة بهذا اليومي، وكيف يمكنها تحويل الروتين إلى أداة للكشف عن التوترات الخفية، ودفع الفيلسوف إلى التفكير بطرق شتّى تكشف ما وراء الحياة الظاهرية.
هناك مشكل فلسفي جوهري حول علاقة الفلسفة باليومي وروتينه في حياة الإنسان ومجتمعه، إذ يبدو اليومي أحيانًا محصورًا في التكرار والرتابة، يمرّ دون وعي منا، غير أنّ هذا الروتين ذاته يخفي إمكانية قراءة أعمق للوجود وفهم أبعاد المجتمع عبر التفكير الفلسفي الواعي. وهنا يتجلّى توتّر جوهري بين طريقة العيش الآلي والطريقة الفلسفية المضادة، بين ما يفرضه الروتين من انسجام ظاهري وما يفتحه الوعي من مساحات للتساؤل والنقد. كما يتضح تعدد المواقف الفلسفية تجاه اليومي: فثمة موقف يغادر السائد متجنبًا الروتين، غير مكترث بالحياة والمجتمع، في حين يوجد موقف آخر يظل متمركزًا داخل الواقع اليومي، يسبر معانيه ويكشف عن مشكلات المجتمع، ليؤكد أن الفلسفة ليست مجرد تأمل نظري، بل أداة لكشف التوترات الخفية بين العيش الآلي وإمكانات الوعي، ومفتاح لفهم جدلية الذات والمجتمع في تفاصيل حياتنا اليومية
الإشكالية الفلسفية المركزية هنا تكمن في السؤال عن علاقة الفلسفة باليومي أو الحياة اليومية: هل تستطيع الفلسفة، عبر تنبيه وعينا بالروتين اليومي، أن تكشف لنا معنى حياتنا ومشاكل مجتمعنا، أم أن هذا الروتين يظل مجرد عادة عمياء؟ وهل تكون الفلسفة قولًا مفارقًا ومتعالّيًا، يغادر تفاصيل الحياة ويبتعد عن مشاكل المجتمع، أم قولًا يستقي أفكاره من الواقع اليومي ويعمل على نقده وفهمه، ليكشف عن جدلية العيش الآلي والوعي النقدي؟
الفلسفة هي "إبداع للمفاهيم"، كما علمنا الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في كتابه Qu’est-ce que la philosophie ? ما الفلسفة؟. ومن هذا المنطلق، نسأل عن المفاهيم الواردة في نص السؤال: الفلسفة وأصلها الاشتقاقي، فالكلمة اليونانية philosophia تعني حرفيًا "حب الحكمةphilo– اي الحب، وsophia اي الحكمة. أما الروتين اليومي فهو يدل على سلسلة العادات والتكرارات التي يعيشها الإنسان. أما الوعي فهو القدرة على إدراك وفهم المعايش الذاتية والاجتماعية وتعقيداتها. ومعنى الحياة يحيل إلى إنتاج فهم أعمق للوجود من خلال قراءة الروتين واليومي، وربط الفرد بذاته وبمجتمعه. أما مشكلات المجتمع فهي تحديات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي يمكن الكشف عن جذورها وعلاقاتها بالروتين اليومي عبر وعي فلسفي.
1) الفلسفة بما هي مروق عن كهف اليومي وزيغ عن عالم الناس (المروق):
في الكتاب السابع من الجمهورية يقدّم أفلاطون أمثولة الكهف، حيث يتصوّر مجموعة من السجناء مقيدين منذ ولادتهم في كهف مظلم، لا يرون سوى ظلال تتحرك أمامهم على الجدار. هؤلاء السجناء هم صورة الإنسان العادي الذي يعيش أسر اليومي: أسر الرأي والظن والعادة والرتابة. إنّ الظلال التي يتوهمون أنها الحقيقة هي رمزية عميقة لكل ما ينتجه اليومي من دوكسا، أي من تصورات زائفة تُصنع من العادة والسلطة واللغة والخيال الشعبي.
لكنّ حركة الفلسفة، وفق أفلاطون، تبدأ حين ينهض واحد من هؤلاء السجناء ليصعد نحو فتح الكهف. هذه هي الجدلية الصاعدة (la dialectique ascendante)، أي حركة الفيلسوف الذي يقطع مع اليومي، وينتزع نفسه من عالم الظلال متجهًا نحو النور. فالخروج من الكهف هو خروج من عالم العادة إلى عالم الحق، ومن عالم الحسّ إلى عالم العقل، ومن عالم الظنون إلى عالم المعرفة، ومن عالم القيم الزائفة إلى عالم المثل.
والنور الذي يبلغه الفيلسوف في أعلى الدرب هو فكرة الخير، التي هي أعلى مراتب الوجود والمعرفة والقيم. إنها اللحظة التي يدرك فيها الفيلسوف أنّ الحقيقة لا تُنال بالاستقرار في اليومي، بل بمغادرته جذريًا.
لكن حركة الفلسفة لا تنتهي بالصعود وحده؛ فالفيلسوف بعد بلوغ النور يعود من جديد إلى الكهف لتحرير السجناء الآخرين، وهذه هي الجدلية النازلة (la dialectique descendante): العودة إلى العالم اليومي لا لكي نؤكده أو نباركه، بل لكي ننقده ونفكّك أوهامه ونخلّص الناس من ظلاله. وهنا يصبح الفيلسوف خصمًا لليومي، لا شاهدًا عليه.
لذلك فالقطع الأفلاطوني مع اليومي ليس قطيعة معرفية فحسب، بل قطيعة أنطولوجية ومعرفية وأكسيولوجية:
قطيعة أنطولوجية لأنّ الوجود الحقيقي ليس في عالم الحسّ، بل في عالم المثل.
قطيعة معرفية لأنّ المعرفة الحقيقية ليست رأيًا بل حدس عقلي وفكرة ثابتة.
قطيعة أكسيولوجية لأنّ القيمة الحقيقية لا تُقاس بما يريده الناس، بل بما يمليه الخير نفسه.
وهكذا تصبح الفلسفة عند أفلاطون مفارقة لليومي: فهي لا تستمد معناها من الروتين، بل من التحرر منه، ولا تبحث عن الحقيقة داخل العالم الاجتماعي، بل في تجاوزه نحو نور المثل.
استنتاج: إنّ الأفلاطونية، بما هي نسقٌ أنطولوجي وإبستمولوجي وأكسيولوجي متكامل، تقوم أساسًا على القطيعة مع عالم الناس؛ عالم الكهف، عالم الدوكسا والظنون. فالفلسفة عند أفلاطون هي حبّ الحكمة المناقض تمامًا لحبّ الرأي، ولذلك لا يتعامل الفيلسوف الافلاطوني مع الدوكسا بوصفها مادة للفحص أو التقويم، بل بوصفها حجابًا يجب اختراقه، وظلًا ينبغي مغادرته. ومن ثَمّ، فإنّ الفيلسوف الحقيقي لا يساكن عالم اليومي ولا يكتفي بتفسيره، بل يتجاوزه صعودًا نحو عالم النور، عالم الحقائق والمثل، حيث تتأسّس المعرفة الحقيقية والقيم الأصيلة، بعيدًا عن التباسات الظلال وأوهام المعيش العادي.
من المسلمات الضمنية لهذا الموقف الميتافيزيقي وبالتحديد الافلاطوني هو أنّ اليومي لا يحتوي الحقيقة، والعقل والفكر الميتافيزيقي هما الأداة الحصرية للوصول إليها. العالم المادي، بما يحفل به من متغيرات، فاسد ولا سبيل إلى إصلاحه، وهناك عالم آخر قائم على أنقاض هذا العالم اليومي السفلي والزائل. الغاية في هذا الإطار متعالية وأسمى من عالم السيلان والتغير والصيرورة. ومن تبعات هذا القول الميتافيزيقي، نظريًا، يصبح الفيلسوف بعيدًا عن تفاصيل العيش، مركزًا على المبادئ العليا، وعملًا، قد يعجز عن مواجهة مشاكل المجتمع أو نقد السائد بشكل فعال. هذه المسلّمات الضمنية والتبعات تجعل القول بالمروق وحده محدودًا، إذ قد يكون الغوص في اليومي لاكتشاف معناه وفحص مشكلات المجتمع ضروريًا لاستكمال مهمة الفلسفة كأداة للوعي والتحليل والتغيير. وهنا ينفتح أفق الفلسفة المنغرسة في اليومي، التي تجمع بين الانغماس النقدي في العادات والروتين وبين السعي للتغيير والتحرير، لتصبح الفلسفة أداة لفهم الذات والمجتمع وتحقيق الكينونة، بعيدًا عن الغرق في المثالية المجردة أو مجرد التجاوز النظري للواقع.
2) الفلسفة والكشف عن معنى الحياة ومشاكل المجتمع (الانغراس)
يمكن للفلسفة أن تكشف لنا معنى حياتنا ومشاكل مجتمعنا من خلال وعينا بالروتين اليومي، وهنا تتجلى وظيفتها النقدية، فهي تواكب ما يعيشه الإنسان من أمور تبدو تافهة ومتكررة على المستوى الفردي، كما تواكب الظواهر الاجتماعية العامة، لتكون نقدًا لأساليب عيش الأفراد ومظاهر المجتمع. فعلى سبيل المثال، يظهر سقراط فلسفة اليومي عمليًا: في الشارع، السوق، ساحة الأغورا، مع الحداد والجنود والشعراء والسياسيين. لكنه لا يقبل هذا اليومي كما هو، بل يحوّله إلى موضوع للتساؤل والنقد وهو ما يعني أنّ الحياة التي لا تُفحص لا تستحق أن تُعاش. ففي الروتين اليومي والرتابة يتداول الإنسان العادي آراءً وظنونًا (دوكسا) دون وعي، وسقراط يدخل هذا المجال ليزعزع هذه الدوكسا ويحوّل المعيش من التعامل معه بعقيدة ووثوقية وتسليم إلى التعامل معه بوعي وتفكير وسؤال وشك ونقد.
من جهة أخرى، يرى هيدغر في كتابه Sein und Zeit( الوجود والزمان) أن الروتين اليومي ليس مجرد عادة عابرة، بل بوابة لفهم عمق وجود الإنسان. فهو يميز بين الدازاين كوجود مخصوص، وهو حياة الفرد وتجاربه اليومية الخاصة، والدازمان كوجود مشترك، أي الحياة اليومية المشتركة مع الآخرين في المجتمع والزمن المشترك. من خلال هذا التمييز، يمكن للفلسفة أن تفلسف اليومي، إذ يصبح الروتين مادة لفهم كيف يعيش الإنسان وجوده في علاقته بالزمن، وكيف تتقاطع تفاصيل حياته الخاصة بالوجود المشترك، ليكشف عن أبعاد جديدة لمعنى الحياة وموقع الفرد ضمن مجتمعه. وعبر هذا الوعي، يمكن للإنسان أن يقرأ روتينه ويستخلص من تفاصيل يومه رؤى أعمق عن ذاته والمجتمع من حوله.
أما مدرسة فرانكفورت، فهي تقدم مثالًا آخر على اشتغال الفلسفة باليومي، لكنها تتجه نحو النقد الاجتماعي ؛ فانتقالها من نقد المعرفة إلى نقد المجتمع يظهر كيف يمكن للفلسفة أن تنغرس في المظاهر الاجتماعية مثل الدعاية، لتكشف توتراتها بين الحرية واللاحرية. فالدعاية، التي تبدو تعبيرًا عن الحرية، في الواقع توجه الإنسان وتتحكم فيه، وتصبح بذلك موضوعًا للنقد الفلسفي للكشف عن طغيان مبدأ الملكية على حساب الكينونة، كما يوضحه إريك فروم في كتابه أن نملك أم أن نكون.
وبذلك، يبرز أن وعي الإنسان بالروتين اليومي، سواء على المستوى الفردي كما عند سقراط، أو من خلال فلسفة الوجود كما عند هيدغر، أو على المستوى الاجتماعي كما عند مدرسة فرانكفورت، يمكنه أن يكشف معنى الحياة ومشاكل المجتمع، ويحوّل المألوف اليومي إلى مادة للنقد والنظر الفلسفي.
لكن يبقى أن نسأل: هل كل فلسفة تشتغل فعلًا بهذه الطريقة، أي بالتقاط أفكارها من حياتنا اليومية ومعيشنا المألوف؟ أم أنّ هناك نمطًا آخر من التفكير الفلسفي يغادر اليومي تمامًا، وينظر إلى الوجود والمعرفة والقيم من علٍ، بعيدًا عن تفاصيل العيش والعادات والروتين؟ هل يمكن للفلسفة أن تكسر أغلال اليومي وسلاسل السائد، لتنشد شمس الحقيقة التي لا تقيم في عالم الناس وما يدور فيه من آراء وأوهام وصور وظلال وزيف؟
#احمد_الكافي_يوسفي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟