أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فريدة لقشيشي - رقصٌ في الفراغ














المزيد.....

رقصٌ في الفراغ


فريدة لقشيشي

الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 23:34
المحور: الادب والفن
    


أما بعد، فاعلمي يا نفسي أنّي امرأةٌ لم تولد على الأرض كما يولد البشر، بل خُلقتُ من ظلّ الغيم، ومن همس الريح، ومن صمتٍ امتدّ فوق أكتاف العالم كغطاءٍ ثقيلٍ لا يعرف الرحمة. وها أنا أقف بين الناس، أراهم يسيرون في شوارع اليقين، وهم لا يدرون أنّ اليقين قد مات، وأنّهم يسيرون على جسرٍ هشٍّ، وجسرٌ كهذا لا يصمد أمام هبوب الريح، ولا أمام خفّة الأرواح التي لا تجد مأوى.

كنتُ أراقب مساءً رماديًّا، مساءً انحنت فيه الغيوم كما تنحني النساء أمام قدرٍ لا يفهمنه، غيومٌ طاهرة، حملت على كواهلها أسرارًا لم يُسمع بها منذ ميلاد الزمن. وكانت الطيور، يا قلبِي، في أقفاصها، تصرخ بصمت، تُقَبض على أجنحتها، وتخفي زقزقتها كمن يخفي دمعة في الليل، وكأنّ الكون نفسه انسحب عن وعده بالدوام، وكأن ضريحًا قديمًا اندحر، طامسًا، لا يعرف اسمه، تاركًا العالم للحيرة.

ثم هبت ريحٌ، لا أحد يعلم من أين، ريحٌ تصفق على الوجوه كما تصفق الأقدار على الرؤوس، تصفعهم بخجلٍ ممزوج بغضب اللهيب. الريحُ تلك، قالت لي سرًّا: «أنا الممسكة بكلّ يقينٍ، أنا التي أحلّت الفراغ في قلب كل جيل». فارتجفت الأرض تحت قدمي، واهتزت الأرواح جزعًا، وكأنها تعلم أنّ زمنًا قد انتهى، وأن كل ما كان، صار رمادًا في يد الغياب.

واقتُلعت الذكريات من جذور فقيدٍ لم يُدفن بعد، جذورٌ كانت تحمل أسماء الحب، والحرية، والحنين، فجُرّدت من كل شيء، وأصبحت هواءً بلا وزن، غبارًا يسبح في فراغٍ لا يُدركه سوى من عاش نهايته. وكانت تلك الهبّة، كما قلتُ لكِ يا نفسي، سحرًا مظلمًا، ممزوجًا بغضب اللهيب، يبتلع ما تبقى من نور، ويحرّم على الزمان أن يبتسم، حتى صارت الدنيا ثقبًا أسود، ثقبًا يبتلع الأرواح بلا جسد، يشبه الموت إلى حدّ انقطاع أنفاس الهواء.

لكن يا نفسي، هناك—في ذلك العدم—كنتُ أضحك. نعم، أضحك كما يضحك من يعرف أنّ اللعبة قد انتهت قبل أن تبدأ. يضحك من يراقب البشر، كيف يصرّون على التمسك بما كان، وكيف يجهلون أنّ كل يقين قد ذاب، وكل وعدٍ قد تلاشى، وأن الفراغ هو الحقيقة الوحيدة الباقية. فقلتُ لهم في سري: «من يحاول الإمساك بالماضي، يمسك بالهواء، ومن يلاحق الغد، يركض في الفراغ».

وأنا، بين هذا وذاك، بين ما كان وما سيكون، أستقي الحكم من الصمت، وأستسلم للريح، وأتعلم أنّ الحياة ليست إلا ثقبًا أسود، ولكنّ في هذا الثقب، كما في قلب كل شيء، شرارة نورٍ صغيرة، إذا عرفناها، تهبنا معنى آخر. معنى لا يقاس باليقين، ولا يُدرك بالمنطق، بل يُحسّ بالروح، ويُشمّ بالعطر الذي يظلّ عالقًا في الذكرى، حتى لو اقتُلعت من جذورها.

وهكذا يا نفسي، علمتُ أنّ اليقين نهاية، وأن الفراغ بداية، وأن الجيل الذي يعيش النهاية، ليس خائفًا من الموت، بل خائف من أن يظلّ حيًّا بلا معنى. وهذا ما يجعلني أضحك، وأبكي، وأكتب، وأتكلّم مع الغيم والريح، حتى يغدو الكلام سحرًا، والرحيل رقصًا، والعدم موطنًا لكل ما كنا نظنه موجودًا.

....
فريدة



#فريدة_لقشيشي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لحظة انطفاء الضوء....
- جيل يعيش نهاية اليقين..
- حيثُ يبدأ الشعر وتنطفئ كلُّ القيود ..
- حين يمشي ألحب على الرمل....
- -الفرح ليس غياب الحزن، بل قدرة على الرقص في العاصفة-
- -الطرد من الذاكرة: حين يصبح البيت جرحًا لا يلتئم-
- ‏النَّفق يبتلِع النُّور....
- الشّك من اليقين ....
- الضّياعُ.....
- من كآبتي غيمتي الشحيحة....
- ومضات من تحت الركام...
- رسائل خفيّة...
- إلى حيثُ أنت...
- التشوّه الفكري 2...
- التشوّه الفكري
- نسمة الحقيقة _6
- نسمة الحقيقة_5
- نسمة الحقيقة _3
- نسمة الحقيقة _4
- نسمة الحقيقة... 2


المزيد.....




- 2025 بين الخوف والإثارة.. أبرز أفلام الرعب لهذا العام
- -سيتضح كل شيء في الوقت المناسب-.. هل تيموثي شالاميه هو مغني ...
- أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى
- الأفلام الفائزة بجوائز الدورة الـ5 من مهرجان -البحر الأحمر ا ...
- مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم أنتوني هوبكنز وإدريس إل ...
- الفيلم الكوري -مجنونة جدا-.. لعنة منتصف الليل تكشف الحقائق ا ...
- صورة لغوريلا مرحة تفوز بمسابقة التصوير الكوميدي للحياة البري ...
- حفل ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي.. حضور عالمي وتصاميم ...
- -رسالة اللاغفران-.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة ...
- مصر: مبادرة حكومية لعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فريدة لقشيشي - رقصٌ في الفراغ