|
|
مونودراما (المتهم الوحيد) تأليف: محمد صخي العتابي
محمد صخي العتابي
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 07:21
المحور:
الادب والفن
بيئة العرض: (غرفة فارغة جدرانها مغطاة بخطوط مكتوبة بخط يدوي: ((كل شيء مسموح هنا)) هناك رسومات غامضة،أشبه بخرائط لمدن مفقودة ، وكأن الزمن نفسه كتبها.. الأرض متربة، رائحة الغبار القديم والورق المهمل والخبز الباهت تعبق في الهواء من نافذة ضيقة تسمح بمرور شعاع ضوء خافت..في مركز هذه الدائرة، يقف رجل في منتصف العمر ثيابه بسيطة لا تعرف هوية وجهه يحمل تعابير كل الأعمار.. صمت يمتلئ به الفضاء، حتى يضن المرء أنه يسمع دقات قلبه.. ثم يبدأ الصوت يأتي من أعماق الرجل همساً خافتاً يهتز في الهواء): المتهم: من…؟ من الذي يسأل؟ أنا؟ أم هو الصوت الذي زرعوه في جمجمتي؟ كم مرة أقف في هذه الساحة ذاتها؟ هذه الغرفة التي تتسع لكل العالم ولا تتسع لتنفسي. أكرر نفس الحركات، ألمس نفس الجدران الباردة، أطرح الأسئلة نفسها وكأنني أُلقي تعويذة لم تعد تنفع.. كل محاكمة تبدو كسابقتها وكل جواب يلد سؤالين جديدين.. أين ينتهي التكرار وأين تبدأ الحقيقة؟ هل هي هنا، في هذا الغبار الذي أستنشقه، أم في هذا الضوء الخافت الذي يأتي من هناك، من العالم الآخر الذي نسيت كيف يكون؟ (يمد يده ببطء، يلمس الكتابات على الجدار.. أصابعه ترتعش قليلاً): هذه القوانين… من كتبها؟ أنا؟ أم أنها كتبت عليَّ قبل أن أولد؟.. كل شيء مسموح.. جملة تتردد كجرس في رأس مفرغ.. هل هي إذن؟ أم تهديد؟ إذا كان كل شيء مسموحاً، فلماذا أشعر بأني مقيد بهذا الإذن نفسه؟ كأنما السماح هو القيد الأشد وطأة. كنت أظن… نعم، كنت أظن كثيراً.. ظننت أن العالم حقل محايد، وأن العدالة سيف معلق في سماء بعيدة، ينتظر أن يهبط على من يستحقه. وهم جميل.. كم كان سهلاً أن أؤمن بذلك. فالعدالة ليست سيفاً، إنها الظل الذي تلعبه أيدينا على الجدار.. هي اللعبة التي نختلق قواعدها ثم نبكي لأننا خسرناها. كل صرخة تخنق في حلق صاحبها، كل ضحكة تسرق من فم طفل، كل قطرة دم تسيل على أرض لا تعرف اسمها… كلها كانت مجرد شواهد على فراغ القاعدة. على أن القاعدة هي: لا قاعدة. (يبتعد عن الجدار، يبدأ بالدوران حول نفسه ببطء، كأنه يبحث عن نقطة مرجعية في الفراغ. صوته يعلو قليلاً، يحمل نبرة من الاكتشاف المرير): لكن الاكتشاف الحقيقي لم يكن في فراغ العالم… بل في امتلائي أنا.. أنا من رسمت الخطوط على هذه الجدران. أنا من قرر أن هذه البقعة تسمى.. داخل وتلك تسمى.. خارج.. أنا من فصلت النور عن الظل، ثم شككت في الفصل. أنا من صنعت السوط… وصنعت الصمت الذي يليه. أنا من اخترعت الجريمة، ثم اخترعت المحاكمة.. كيف أصبحت الجاني والضحية في آن؟ كيف أصبحت القاضي والمتهم؟ أين انتهى.. أنا.. وبدأ الآخرون؟ أم أن الآخرين كانوا دائماً مجرد أصداءٍ لصوتي أنا؟ أصداء أخترعها لأتخفى من وحدتي. (يتوقف..ينظر إلى يديه كما لو يرى فيهما دماء غير مرئية. صوت الريح يصبح أكثر وضوحاً، كأنه نفس طويل يمر عبر النافذة): كنت السوط حين صممت. وكنت الصرخة حين تلقيت.. هل من عدل في هذه الدائرة؟ أم أن العدل نفسه وهم آخر، اخترعته لأوقف الدوران للحظة.. لأتنفس؟ (يجلس على الأرض، ظهره منحن قليلاً نحو الجمهور، لكنه منغمس في عالمه.. الضوء الأصفر الخافت يتلاشى ليحل محله ضوء أزرق بارد، باهت، كضوء شاشة تلفاز قديم في غرفة مظلمة. من الخلفية، تبدأ موسيقى خافتة جداً، لا هي لحن ولا إيقاع، بل هي مجرد دقات قلب منتظمة.. ثم تتخللها عدم انتظامات طفيفة، كأن القلب يختنق ثم يتذكر النبض) هل جربتم… العزلة الحقيقية؟ لا أعني الوحدة بين الناس. أعني العزلة حيث لا عين تراقب، لا أذن تسمع، لا ضمير يوبخ. لا شيء سواك… وصدى نفسك. في البداية، يبدو الصدى واضحاً.. تسمع كلماتك تعود إليك. ثم تبدأ الأصوات بالتشوه. كلماتك تختلط بكلمات سمعتها، بكلمات قيلت لك، بكلمات كنت تتمنى أن تقولها.. أين تنتهي ذاكرتك وأين تبدأ ذاكرة العالم الذي ابتلعته؟ الذكريات… ليست أرشيفاً منظماً. إنها حيوانات جائعة في قبو مهجور. تلتهم بعضها البعض، ثم تلتهمك أنت. تبقى منها شظايا. وجه بلا عينين. ضحكة بلا صوت. يد تلمسك في الظلام ولا تعرف إن كانت تهدئك أو تخنقك. (يرفع رأسه قليلاً، لكنه لا ينظر إلى مكان محدد. الأصوات الخلفية من همسات وصدى خطوات تبدأ بالظهور، مختلطة مع دقات القلب): أسمع أصواتاً… لا أعرف لأي وجه تنتسب. أرى مشاهد في عيني المغلقتين… لا أدري إن كانت من حياتي أم من حياة شخص سرقتها منه. أحياناً، في ذروة هذا الصخب الداخلي، يغمرني شعاب غريب: أنا لم أكن شاهدا فحسب… أنا كنت المكان نفسه.. أنا الغرفة التي وقعت فيها الأحداث. أنا الجدار الذي سمع الهمس. أنا الأرض التي شربت الدم.. ولأني كنت كل شيء… فأنا المسؤول عن كل شيء.. أنا الذي ابتلع الأصوات ولم يطلقها. أنا الذي حجب الضوء. أنا الصمت الذي سمح للصوت الخاطئ أن يعلو. (ينهض.. بحركة مفاجئة تشي بتوتر داخلي انفجر. الضوء الأزرق يتحول فجأة إلى ومضات حمراء متقطعة، كأنما إنذار صامت.. يبدأ بالتحرك في أرجاء الغرفة، لا كمن يمشي، بل كمن يطارد شيئاً.. أو يهرب منه): نعم كنت أراقب.. وكان في مراقبتي هذه… موافقة.. كنت أقف عند الحدود التي رسمتها بنفسي، وأراقب الآخرين يتخطونها، أو يتعثرون عندها. وكنت أقرر في صمت… هذا مستحق، وهذا بريء. هذه الحياة تستحق، وهذه تهدر. وكل قرار كان يخرج من فمي كحكمٍ نهائي، لكنه كان يبقى حبيس حلقي. قتل بالصمت.. قتل بالإهمال.. قتل بعدم الاكتراث.. كانت جرائمي أنقى أنواع الجرائم: بلا أداة، بلا بصمة، بلا دليل مادي. فقط أنا أعرف. والآن… من يحاكم من؟ أنا أحاكم نفسي. وأحاكم في نفسي كل الوجوه التي مرت.. أحاكم الأم التي لم تحضن، والأب الذي لم يفهم، والصديق الذي خان، والغريب الذي لم يساعد. لكن محكمتي لهم… هي في الحقيقة محاكمة لجزء مني قبلتهم أو رفضتهم، أحببتهم أو كرهتهم.. أليس القاضي في النهاية… هو المتهم الذي يرتدي رداءً مختلفاً؟ (تتوقف الومضات الحمراء، ويعود الضوء الأصفر الخافت ليركز عليه وهو واقف في منتصف الغرفة، منهكاً.. صوته يهبط إلى همس متعب) أعرف أنكم هنا. جميعكم. القاضي بوجهه الحجري، والشاهد بعينيه الواسعتين، والجمهور الصامت بأسئلته التي لا تطرح.. أنتم جميعاً هنا… في هذا المسرح الداخلي. لكن… ما قيمة هذه المحاكمة إذا كان الحضور كله تمثيلية من تأليفي وإخراجي؟ ما قيمة العدالة إذا كان القاضي والمتهم والمشهد… كلهم أنا؟ هل يمكن للحقيقة أن تظهر في مكان لم يدخله إلا شخص واحد؟ (يتململ، يبدو وكأنه يحاول الخروج من جلده. ثم يتوقف، ويأخذ وضعية الوقفة الرسمية. الضوء يتغير، يصبح شعاعاً أبيض ناصحاً، بارداً، يسقط من الأعلى مباشرة على رأسه وكتفيه، مثل بقعة استجواب. بقية الغرفة تغرق في ظل أعمق. الصمت يصبح ثقيلاً، ملموساً): المتهم (بصوت عالٍ، واضح، كمن يعلن بدء طقس): كفى.. كفى تلميعاً للأسئلة.. ها أنا ذا في قفص الاتهام الذي صنعته بيدي.. ولأن كل شيء مسموح… فسأكشف كل شيء ليس أمامكم… بل أمام نفسي.. أمام هذا الفراغ الذي أصبح مرآتي الوحيدة. سأقول ما لم أقله.. سأعترف بما أخفيه حتى عن أعماقي.. العدالة التي طالما انتظرتها من الخارج… كانت مجرد دخان أحاول الإمساك به لأسد به جوع روحي.. والحقيقة… أوه، الحقيقة كانت تلاعبني.. تظهر لي لمحة منها في المرآة ثم تختفي حين ألتفت. تضحك عليَّ من خلف الزجاج. هل كانت موجودة أصلاً؟ أم أني أنا من اخترع مفهوم "الحقيقة" لأمنح لصراعي معنى؟ (يتغير وضع جسمه قليلاً، يتصلب ظهره، تعلو ذقنه. صوته يأخذ نبرة مختلفة: حادة، منفصلة، مليئة بالسلطة الباردة. إنه صوت القاضي الذي بداخله): القاضي (الصوت الداخلي): المتهم. اقترب. انظر في عيني. هل تعترف؟ (تعابير وجه المتهم تتغير سريعاً، بين الذهول والسخرية والألم. يعود بصوته الطبيعي، لكنه يحاور الصوت الآخر): المتهم: أعترف؟ بكلمة واحدة تلخص عمرا من التشعبات؟ الاعتراف… هل هو بداية النهاية أم ناية البداية؟ أم هو مجرد حركة في لعبة كبيرة، لعبة ..المحاكمة التي بدأت قبل أن أولد؟ هل بدأت حين تعلمت كلمة ..صح و خطأ ؟ أم حين شعرت لأول مرة بالذنب دون أن أفعل شيئاً؟ أم حين رأيت الظلم لأول مرة وقررت أن أكون طرفاً فيه، سواء كظالم أو مظلوم، بدل أن أكون مجرد مشهد؟ الاعتراف… هل هو توبيخ للنفس أم تبرئتها؟ حين أعترف، ألا أقول في قرارة نفسي: انظروا.. أنا أتحمل المسؤولية، أنا الشجاع؟ أليس هذا اعترافاً يريد الثناء؟ (يمشي نحو الجدار، يقرأ العبارة المكتوبة: كل شيء مسموح هنا.. يضرب كفه على الحائط): كل شيء مسموح.. إذن مسموح لي أن أعترف ومسموح لي أن أنكر.. ومسموح لي أن أعترف بنصف الحقيقة ومسموح لي أن أختلق حقيقة جديدة من كلمات الاعتراف نفسه.. أين الحقيقة الأصلية هنا؟ كل وجه رأيته في حياتي… هل كان يعكس ضوئه الحقيقي أم كان مرآةً لمخاوفي ورغباتي؟ هل أحببت شخصاً ما لذاته، أم لأن صورته كانت تلبي حاجة في داخلي؟ هل كرهت شخصاً ما لأفعاله، أم لأني رأيت فيه جانباً من نفسي أرفضه؟ كل كلمة قلتها… هل خرجت من أعماق يقينية، أم كانت مجرد رد فعل، أو تمويه، أو محاولة يائسة للسيطرة على الانطباع الذي أتركه؟ كل صمت سكنني… هل كان حكيماً، أم جباناً، أم قاتلاً؟ أنا… من رسم معنى هذه الأشياء. أنا من منح الحب قيمته والخوف سلطته. أنا الذي أخلقت الحقيقة من شظايا الواقع… ثم أهدمتها حين لم تعد تخدم الرواية التي أرويها لنفسي عن نفسي. فأي اعتراف له قيمة بعد هذا؟ (من زاوية مختلفة في الغرفة، أو ربما من داخله تماماً، يبدأ صوت آخر بالهمس.. صوت حاد مراقب مليء بالمعرفة المؤلمة.. إنه صوت الشاهد) الشاهد (الصوت الداخلي): رأيتك.. لا تظن أن شيئاً فاتني.. رأيتك وأنت ترسم الحدود على الرمال ثم تقفز فوقها ببرودة، وكأنها لم تكن موجودة.. رأيت عينيك وهما تتسعان ليس خوفاً، بل بشغف خفي، حين كان الآخرون ينهارون. كنت أسمع صوت انهيارهم يتردد في صدرك وكأنه موسيقى.. رأيت الابتسامة التي كانت تزحف إلى زوايا فمك حين كنت تظن أن لا أحد ينظر… ابتسامة النجاة، أو ربما ابتسامة الانتصار الخفي على مأساة ليست مأساتك. ولكن الأهم… رأيتك تخفي وجهك. لا خلف قناع… بل خلف وجه آخر. وجه الصمت. الصمت المزيف الذي تتظاهر بأنه حكمة أو تسامح أو تعب.. بينما هو في الحقيقة جدار. جدار تختبئ خلفه وأنت تشاهد العالم يحترق، وتشعر بدفء النار على وجهك دون أن تحترق أنت. (المتهم يلهث، كما لو أن هذه الكلمات طعنات. ثم يبدأ ضحكاً. ضحكاً منخفضاً، مبحوحاً، مختلطاً بلهاث البكاء. يضع يديه على وجهه): المتهم: أضحك؟ نعم. أضحك على المهزلة. أبكي؟ نعم. أبكي على المأساة. لكن من يستطيع أن يفصل بينهما؟ من يجرؤ على القول: هذه دموع حقيقية، وتلك ضحكة مصطنعة؟ أليست الدموع أحياناً مجرد طقس نؤديه لنثبت لأنفسنا أننا ما زلنا بشراً؟ أليست الضحكة أحياناً صرخة رعب مقنعة؟ أوه، إنه الوهم الأكبر: أن المشاعر نقية. أن الحزن حزن، والفرح فرح.. لكنهم جميعاً… أطياف.. أطياف تلعب على مسرح الجسد. وأنا… الممثل والجمهور في آن. وأنا… ربما كاتب المسرحية الذي نسى الحبكة الأصلية.. من أنا تحت كل هذه الأقنعة؟ هل هناك..أنا أصلاً أم أنا مجرد مكان التقاء هذه الأصوات، هذه المشاعر المتضاربة، هذه الذكريات المتناقضة؟ (يقف ببطء. يمد يديه أمامه في الظلام، كأنه يحاول أن يلمس كائناً غير مرئي، أو أن يمسك بالهواء نفسه ليتحول إلى شيء ملموس. الضوء الأحمر الخافت الذي كان يحيط به يتلاشى، ويحل محله ضوء أبيض بارد يغسل المكان): وأنا… لا أعرف هذه هي الإجابة الوحيدة الصادقة التي أملكها.. لا أعرف من رسم الخط الأول على هذا الجدار.. لا أعرف من أنا حين لا يكون هناك مرآة.. لا مرآة من زجاج، ولا مرآة من عيون الآخرين.. لا أعرف من يحكم هذه الجلسة في رأسي. لا أعرف من سيبقى بعد أن تنتهي كل المحاكمات. (يجلس على الأرض، منهكاً. يضع رأسه بين ركبتيه.. صمت، ممتد، لا يكسره سوى أنفاسه المتقطعة والهمس الخافت جداً لأصوات الماضي.. أصداء لكلماته هو، أصوات غيره، ضحكات، صراخ، همسات.. كلها تختلط في سمفونية من الفوضى الصامتة.. الضوء يتقلص ليصبح بقعة صغيرة على رأسه المنحني. ثم، تبدأ الأصوات الداخلية بالعودة، لكن هذه المرة ليست منفصلة، بل مختلطة، متداخلة، تتصاعد وتعلو حتى تصل إلى ذروة من الضغط السمعي النفسي): (يرفع رأسه قليلاً، همسه ثقيل، كأن كل كلمة تستخرج بقوة): أنا… أنا المتهم الوحيد في هذه القضية التي لا يحضرها أحد.. أنا الذي ينهار حجراً حجراً، وأنا الذي يبني جدار الدفاع. أنا الذي يحيا في خوف من الحكم، وأنا الذي يصدر الحكم.. أنا الذي يموت قليلاً في كل جلسة، وأنا الذي يمنح نفسه فرصة أخرى للعذاب في الجلسة التالية.. أنا الضحك في الظلام، والبكاء في الضوء. أنا… كل شيء. ولكن… هل أنا فقط؟ أم أن هذا ..أنا.. هو وعاء يحمل بقايا الجميع؟ أبوي، أصدقائي، أعدائي، الغرباء الذين مررت بهم في الشارع… كلهم تركوا شيئاً هنا.. بصمة، كلمة، نظرة. فأنا لست وحدي أبداً.. حتى في هذه العزلة المطلقة، أنا محشور بآثار كل من قابلت. أنتم جميعاً هنا… معي… في داخلي. تحاكمونني، أو تحاكمون أنفسكم من خلالي. (الأصوات الداخلية تعلو، تتداخل، تصبح كالجوقة في رأس مجنون): القاضي والشاهد والضمير (أصوات مختلطة، متداخلة، يصعب تمييزها): اعترف… يجب أن تعترف… الاعتراف هو الطريق الوحيد… اعترف بما فعلت… بما لم تفعل لكنك تمنيت فعله… اعترف بما أخفيت حتى عن نفسك… اعترف بالفرح الذي شعرت به في الأوقات الخاطئة… اعترف بالحزن الذي لم تشعر به في الأوقات الصحيحة… اعترف بأنك لست بريئاً… واعترف بأن براءتك المزعومة كانت سلاحاً… اعترف… اعتراف… اعتراف… (المتهم يغطي أذنيه، لكن الصوت يأتي من الداخل.. يقف ووجهه مشوه بالعذاب ثم يطلق صرخة طويلة، ممزقة تخرج من أحشائه) المتهم: أعترف.. نعم.. أعترف.. أسمعتموني؟ أعترف بكل شيء.. بالخير والشر، بالنية والفعل، بالصمت والكلام، بالحب الذي كان أنانياً، والكراهية التي كانت مخيفة في صدقها..أعترف بأنني خلقت إلهي الخاص لألومه، وخلقت شيطاني الخاص لأبرر له. أعترف بأنني أحياناً… استمتعت بالألم..ألمي وألم غيري. أعترف بأنني خائف أكثر من أي شيء آخر… خائف من أن أكون عادياً، وخائف من أن أكون وحشاً، وخائف من أن أكون لا شيء. أعترف. (يخرس فجأة، وكأن الصرخة استنفدت كل ما فيه يترنح قليلاً.. الصوت ينخفض إلى همس مكسور متسائل): ولكن… أي قيمة لهذا الاعتراف؟ أي ثقل لهذه الكلمات؟ إن سقطت في فراغ، ولم تصل إلى أذن حقيقية؟ إن كان القاضي هو أنا، والشاهد هو أنا، والجمهور هو أنا… فمن سيصدق؟ من سيمنح الاعتراف قوته التطهيرية أو إدانته النهائية؟ الاعتراف يحتاج إلى آخر. يحتاج إلى عين ترى، وأذن تسمع، وقلب يحكم. وإلا فهو مجرد حوار داخلي آخر، طقس من طقوس العذاب نؤديه لنشعر أننا ما زلنا أحياء. (يصمت.. الضوء الأبيض النقي يبدأ بالتدرج، يصبح أكثر شدة، ثم يبدأ بالانتشار ليغسل الغرفة كلها، لكنه يكشف مع ذلك الظلال الرمادية العميقة في زواياها.. كل التفاصيل على الجدران تصبح واضحة للحظة: العبارات، الرسومات، الخربشات. ثم يبدأ الضوء بالخفت، رويداً رويداً. صمت طويل لا يملؤه سوى صوت الريح الخفيف الذي يعود، وكأنه تنهيدة المكان نفسه.. المتهم يقف ساكناً، منظراً إلى الجدران، ثم إلى يديه، ثم إلى النافذة البعيدة.. يهمس همسة أخيرة قبل أن يغرق المكان في الظلام): المتهم: أنا… المتهم. أنا… القاضي الذي لا يرحم. أنا… الشاهد الذي لا ينسى. أنا… الضمير الذي تأخر كثيراً. أنا… الصمت الذي يلي العاصفة. أنا… كل الأصوات وكل الهدوء. وكل شيء… كل شيء مسموح هنا. لكن السؤال الوحيد الذي بقي… من… سمح لي أن أكون… أنا؟ (الستارة تسدل.. آخر ما نراه هو عبارة ((كل شيء مسموح هنا)) مضاءة للحظة خاطفة قبل أن تختفي في الظلام) ((النهـايــة))
#محمد_صخي_العتابي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مونودراما (أعترافات رجل بلا أسم) تأليف: محمد صخي العتابي
-
نص مسرحي (شرق أوسط جديد) تأليف: محمد صخي العتابي
-
نص مسرحي(زهايمر السلطة) تأليف/ محمد صخي العتابي
-
نص مسرحي (ليلة القبض على جيفارا) تأليف: محمد صخي العتابي
-
مسرحية ( صبراً يا أطفال غزة)
-
مهدي حميد حيدر أحب وطنه وأهله بصدق/ محمد صخي العتابي
-
مسرحية تربوية للأطفال(محاكمة الذئب) تأليف: محمد صخي العتابي
-
نص مسرحي ( رسائل من غزة ) تأليف / محمد صخي العتابي
-
نص مسرحي: قبر مؤجل (مونودراما) تأليف / محمد صخي العتابي
-
مسرحية( صرخة في الظلام)
-
مسرحية (المخدرات طريق الهلاك) تأليف / محمد صخي العتابي
-
نص مسرحي للأطفال (الحكمة والقوة) تأليف / محمد صخي العتابي
-
الفن سلاح ذو حدين بناء وهدم
-
لعبة الحرب/ قصة قصيرة
-
(حراس الغابة نص مسرحي للأطفال)
-
مسرحية (جنون) تأليف/ محمد صخي العتابي
-
مسرحية المرآة ( مونودراما) تأليف/ محمد صخي العتابي
-
رسالة إلى الاتحاد الآسيوي لكرة القدم
-
(تلوث بيئي نص مسرحي للأطفال) تأليف محمد صخي العتابي
-
مسرحية (صرخات من غزة) تأليف / محمد صخي العتابي
المزيد.....
-
مصر: مبادرة حكومية لعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة
-
غمكين مراد: الرُّوحُ كمزراب
-
مصر: مبادرة حكومية علاج كبار الفنانين على نفقة الدولة
-
رحلة العمر
-
حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
-
مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم هند صبري بالشراكة مع غو
...
-
فيلم -الملحد- يُعرض بدور السينما المصرية في ليلة رأس السنة
-
كابو نيغرو لعبدالله الطايع: فيلم عن الحب والعيش في عالم يضيق
...
-
-طفولتي تلاشت ببساطة-.. عرائس الرياح الموسمية في باكستان
-
مسابقة كتابة النشيد الوطني تثير الجدل في سوريا
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|