محمد صخي العتابي
الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 01:53
المحور:
الادب والفن
الزمن ((غير محدد..يطفو بين الماضي والحاضر والمستقبل))
الشخصيات:
الرجل: في الأربعينيات.. وجهه مرهق.. عينيه تحملان حكايات عمره كله.
بيئة العرض:
(غرفة ضيقة، جدرانها باهتة ومتشققة، نافذة صغيرة تطل على شارع مهجور، ضوء خافت يدخل من الشق، الغبار يكسو الأرض، كرسي مائل، ساعة متوقفة، مرآة مشققة، دفتر صغير على الطاولة، حبال معلقة كرمز للخوف أو الانكسار.. الرجل يجلس على الكرسي المائل)
الرجل:هناك لحظة… صغيرة… لكنها قادرة على هدم كل شيء.
لا أحد يسمعها… لا أحد يراها… لكنها تهدم القلب كما يهدم صخر صغير جدارًا قديماً.
(يحدق في يديه): هذان الكفان… كانا يعرفان الطريق… كانا يعرفان العالم…
والآن؟ لا شيء… لا يعرفان اسمي… ولا أعرفهما أنا.
(ينهض ببطء، يمشي في المكان):
حين اختفى اسمي… لم أسأل أحداً… لم أذهب للشرطة… لم أسأل ماراً…
كنت أخاف الإجابة أكثر من الفقدان نفسه…
من يفقد اسمه… فقد شيئًا أعمق بكثير… فقد توازنه… فقد مكانه في العالم… وربما فقد نفسه.
(يلمس الجدار، يتحدث همسًا):
الجدران… تشهد كل شيء… حتى الخيانات الصغيرة… حتى اللحظات التي نخاف أن نتذكرها.
(الإضاءة تتحول تدريجيا الى اللون الأزرق، أصوات ضحك طفل وصرخات امرأة تتداخل):
هذه الغرفة… ليست غرفتي… لكنها تشعرني بأنني هنا منذ آلاف السنين.
(يمرر أصابعه على الجدار):
الجدران تحفظ كل الأسرار… حتى تلك التي نسينا أننا نحملها.
(يتحدث ببطء، كما لو يخاطب طفلًا غائبًا):
كنت أملك عائلة… أظن ذلك…
امرأة… طفل… أصوات دافئة… ثم فجأة… ذهبت كل الوجوه… ذهبت الأصوات… وبقيت وحدي…
(يتوقف، يحدق في الزاوية المظلمة):
ضحكة قصيرة ..ربما صدقتم أنني أهذي… لكن الذكريات، حتى المفقودة منها، لا تخدعك.
(ينحني على الأرض يلمس الغبار):
كل شيء كان قريبًا… ثم اختفى… وكأن العالم قرر أن يرحل عني… وأتركني هنا… أنا والرائحة الباهتة للغبار والهواء العالق.
(يتحرك نحو مقدمة المسرح): في صباح بعيد… كنت أسير بلا هدف…
لا حقيبة… لا أوراق… لا دليل على وجودي.
سمعت صوتًا يناديني…
التفت… لا أحد…
لكن الاسم بقي عالقًا في أذني… اسم أعرفه… وأخاف أن أنطقه.
(يمشي ببطء، كأنه في حلم):
وصلت مقهى صغير… أربع طاولات… رجل عجوز في الزاوية… ابتسم لي… ابتسامة كأن الزمن توقف فيها.
قال: تأخرت اليوم.
فأجبته: ازدحام الطريق.
جلسنا نصف ساعة نتحدث عن كل شيء… عن الغبار… عن الشمس…
دون أسماء… دون أن يعرف أحدنا الآخر.
(يتجه نحو الجمهور):
ربما هنا بدأ ضياعي… أو ربما هنا فقط فهمت أن العالم لا يحتاج أسماءنا كي يحكمنا.
(إضاءة ليلية.. يجلس على الأرض، يفتح دفتره المغطى بالغبار):
عدت إلى ما ظننته بيتي…
الباب مفتوح… الغرفة فارغة… لا صورة… لا سرير… لا شيء.
لكن… كان هناك دفتر صغير…
غطاه الغبار كأنه ينتظرني منذ قرون.
فتحته… صفحة واحدة فقط…
كتابة أعرفها… ولا أعرفها في الوقت نفسه:
إذا ضعت… لا تبحث عن نفسك هناك… ابحث عنها في ما ستفعله بعد الآن.
(يتنهد ببطء): جملة واحدة فقط… وحياتي معلقة بها…
وهنا… بدأت أرى نفسي… كما لو كنت أنا من لم يعرف الطريق أبداً.
(إضاءة مشوهة، الظلال على الجدران تتطاير كأرواح الماضي):
رأيت ظلي واقفًا أمامي…
يشبهني… لكنه صامت… ثابت.
(يقترب من الظل): تقدمت نحوه… ظل… لم يتحرك.
(يضحك): ربما لم أفقد اسمي… ربما فقد ظلي اسمه… فهرب…
أو ربما نحن مجرد ظلال… نمشي على الأرض… لكن الظلال هي التي تقودنا.
(يجلس أرضًا، يضع رأسه بين يديه): وكل مرة أنظر للمرآة… أرى اثنين… أنا… وظلي…
وكأن الزمن نفسه يحاول أن يعلمني شيئًا… لم أستطع فهمه بعد.
(الإضاءة تهتز قليلاً، الرجل يضع يديه على رأسه): أصوات… أحيانًا تسمعني…
تقول: ارجع… واجه الحقيقة… أعد ما سرقته.
(يهز رأسه): أي حقيقة؟ أي سرقة؟ من كنت قبل أن أضيع؟
(يلصق أذنه بالجدار): سمعت أنفاسًا من زمن آخر…
ومنذ ذلك اليوم… صارت يدي ترتجف عند كل لمسة…
كأنني ألمس ذاكرة ليست لي…
كأن الغرفة نفسها تهمس باسمي… باسمي القديم… وكنت أخاف أن أسمعه.
(إضاءة خافتة، أصوات الرياح وأمواج البحر، صوت خطوات متسارعة):
أحيانًا أحلم… بشوارع مهجورة… مقابر… بحر لا نهاية له…
أركض… أبحث عن شيء… لا أعرف ما…
السماء داكنة… والشوارع تنتهي عند باب مغلق… والبحر يهمس باسمي…
(يصرخ في الحلم): أين أنا؟ من أنا؟
الظل يسبقني… والسماء تضحك علي…
وأستيقظ… أحمل الرهبة معي… في الغرفة… في جسدي… في كل حركة.
(أصوات وهمية: امرأة، طفل، صديق، حب قديم):
المرأة: لماذا تركتني وحدي؟
الطفل: أين أنت يا أبي؟
الحب القديم (همس): لماذا لم تعد؟
(يهز رأسه، يمسك يديه):
كنت هنا… كنت هناك… كنت أبحث عن شيء لم أعرف أنه أنا…
أعود إليكم… وأجد نفسي غريبًا عنكم… وعن نفسي…
(يتنهد، ينظر للجمهور):
كل سؤال بلا إجابة… كل ذكرى بلا حل… كل صوت بلا اسم… يجعلني أعيش مرتين… مرة هنا… ومرة هناك…
في عالم لم أستطع الوصول إليه.
(يتحرك نحو الجمهور): رجل جاء إلي ذات مساء…
قال: وينك؟ ندور عليك صار أسبوع.
نظرت إليه… لم أعرفه… ولا أعرف ما يريد.
حين سألته: أنت من؟
غضب… وذهب… يتركني أبتسم… دون أن أعرف لماذا.
(يتوقف):علمت أن أبتسم فقط…
دون أن أسأل… دون أن أبحث.
ربما… ابتسامة واحدة تكفي كي تعيش… رغم كل شيء.
(شعاع خفيف يدخل من النافذة):
كل صباح… أفتح النافذة…
أنتظر… ولا أعلم ماذا.
ربما وجهاً أعرفه… ربما كلمة… ربما ظلًّا يعود
(يتقدم نحو الضوء)
أشعر أن اسمي قريب… قريب جداً…
لكنني أخاف الإمساك به.
(همس): الاسم… ليس كلمة… هو حياة كاملة… مسؤولية… ووجع.
(الإضاءة تختفي تدريجياً، يبقى خيط الضوء من النافذة فقط):
اليوم… لم أعد أخاف…
الغرفة لم تعد سجناً…
الشوارع لم تعد تهددني…
ولا الأصوات… ولا الظلال.
(يمشي نحو النافذة، يفتحها، يضع يده على الزجاج)
اليوم… أعرف شيئًا واحدًا:
أنني لست بلا اسم… أنا رجل يبحث عن اللحظة التي فقد فيها نفسه… كي يستعيدها.
(يتقدم خطوة نحو الجمهور): إن عاد اسمي… سأعرفه…
وإن لم يعد… فسأترك النافذة مفتوحة…
كي يمر.. ويطرق الزجاج… كما يطرق الغائب باب الذاكرة… وكما تطرق الحياة أبوابنا حين لا نتوقعها.
(إضاءة خافتة تتسلل عبر الشقوق في المرآة، الرجل يقف أمامها، ينظر لوجهه المتشقق):
المرآة… تشبهني… لكنها تكسرني…
أرى وجهي… مكرراً… متصدعاً… كل جزء منه يصرخ باسمي… وأنا أخاف أن أجيب.
(يقترب من المرآة ويهمس):
كم من جزء مني رحل؟
كم من اسم فقدت دون أن ألاحظ؟
كم من ظل تبعني… لكنه كان جزءًا مني… واختفى؟
(ينهض فجأة، يطرق المرآة بقبضته):
أصوات… تخرج من زوايا الزجاج…
همسات الماضي، صرخات الأمل…
أو ربما… صمتًا قاتلًا، يراد لي أن أعيشه إلى الأبد.
(إضاءة زرقاء متقطعة، أصوات أمواج ورياح، الرجل يسير وكأنه يطفو):
أركض… الشارع مهجور… كل الأبواب مغلقة…
البحر أمامي بلا نهاية… الأمواج تعانق قدمي…
وأنا أحاول أن أصرخ… لكن لا صوت يخرج…
(يتوقف فجأة، ينظر للجمهور):
هل هذا الحلم… أم الحقيقة؟
أحيانًا أعتقد أنني عالق بين عالمين…
عالم فقد فيه اسمه… وعالم آخر… يطالبه أن يعيشه.
(أصوات الطفل، المرأة، الصديق والحب القديم تتداخل، الرجل يستجيب لهم أحيانًا):
الطفل (صوت بعيد): أين أنت يا أبي؟
الرجل (يهز رأسه بحزن): أنا هنا… ولكني لم أكن هناك…
المرأة: لماذا تركتني وحدي؟
الرجل (همس): كنت أبحث عن نفسي… ولكني فقدتكم في الطريق…
الحب القديم (صوت خافت): لماذا لم تعد؟
الرجل (صوت مرتفع، صارخ): لأني لم أعد أعرف الطريق.
أصبح كل شيء بعيد… كل وجه، كل اسم… حتى نفسي…
(يتوقف، يسند رأسه على الطاولة):
كل سؤال بلا إجابة… كل ذكرى بلا حل… يجعلني أعيش مرتين…
مرة هنا… ومرة هناك… في عالم لم أستطع الوصول إليه.
(إضاءة صفراء باهتة، الرجل ينظر للساعة المتوقفة على الحائط):
الوقت… توقف هنا…
كل لحظة… تتكرر… كل دقيقة… عالقة…
وكأن العالم نفسه يرفض المضي…
أشعر بأنني أسير في حلقة مفرغة… كل ثانية تحكي عن ضياعي… وكل ضياع يحكي عن اسمي المفقود.
(يمشي ببطء حول الغرفة):
كل شيء متوقف… إلا الظلال…
الظل يتحرك… يتقدم… أحيانًا يسبقني…
وكأن اسمي الحقيقي لم يعد ملكي… بل ملكًا لهذا الظل.
(شعاع من النافذة يضيء الغرفة بالكامل):
أفتح النافذة… أترك الضوء يدخل…
أترك الغرفة… أترك نفسي… أترك الماضي…
(يتقدم نحو الضوء، يمد يده للسماء)
اليوم… أفهم…
الاسم… ليس مجرد كلمة…
الاسم… هو حياة… مسؤولية… وحزن…
ويمكن أن أعيش بدون أن أملكه…
(يتنهد): لقد وجدت جزءًا مني… ولو في الضوء… ولو في صمت الظلال…
(يتوقف.. ينظر للجمهور):
ربما لم أعد بلا اسم… ربما اسمي الحقيقي هو اللحظة التي أعيشتها، اللحظة التي واجهت نفسي فيها…
الآن… يمكنني أن أمشي، أن أبحث، أن أختار، أن أترك الماضي…
(الإضاءة تخفت تدريجيًا، يبقى شعاع خفيف من النافذة،يقف صامتًا، ثم يغلق عينيه..يهمس دون أن يفتح عينيه)
غريب..حين أغلقت عيني… لم أختفِ…
بل رأيت أشياء لم أجرؤ على رؤيتها وأنا مستيقظ…
(يصمت لحظة، نفس عميق):
رأيت يدي تمسك يد طفل…
لم تكن ترتجف…
كانت قوية… دافئة… تعرف طريقها.
(ينفتح الضوء قليلًا، ظله يظهر على الجدار أكبر من حجمه الحقيقي):
ورأيت امرأة لا تبكيني…
بل تنتظرني فقط…
بصبر يوجع أكثر من البكاء.
(يفتح عينيه ببطء)
إذن… لم أكن شبحًا كما ظننت…
كنت إنسانًا يؤجل الرجوع…
حتى نسي كيف يعود.
(يتقدم خطوة مترددة)
الآن أفهم لماذا كانت الأصوات تطالبني بالحقيقة…
لم تكن تريد فضحي…
كانت تريد إنقاذي.
(يقترب من الدفتر على الطاولة، يفتحه من جديد، يتأمل الصفحة)
ابحث عن نفسك في ما ستفعله بعد الآن…
لم تكن وصية…
كانت محاكمة.
(ينظر للجمهور مباشرة):
وأنا..هربت من الحكم طويلًا.
(صوت دقات خفيفة… الساعة المتوقفة تبدأ بالتحرك ببطء شديد.. دقة واحدة فقط..يرتجف قليلًا)
سمعتم؟
الوقت… عاد يتنفس.
(يضحك ضحكة قصيرة)
حتى الزمن… لم يفقد اسمه مثلي.
(يتقدم نحو الحبال المعلقة، يلمس أحدها دون أن يشده)
ظننتها حبال خوف…
لكنني الآن أراها طرقًا لم أسلكها…
كل حبل… قرار هربت منه.
(يسحب يده ببطء):
ولن أشنق نفسي اليوم…
لا بالحبال… ولا بالأعذار.
(يتجه إلى المرآة من جديد، ينظر لوجهه المتشقق):
أيها الوجه الذي تهربت منه…
لسنا خصمين…
نحن جرح واحد… من جهتين.
(يمسح سطح المرآة بكم قميصه، يصفو جزء صغير منها):
هكذا إذن أبدو…
متعب… نعم…
لكن حي.
(يتراجع ببطء):
كم غريب أن تحتاج أن تضيع كل هذا العمر…
لتعرف فقط أنك كنت تخاف أن تعيشه.
(صوت الطفل يعود، أوضح من قبل):
الطفل (صوت داخلي): بابا؟(يتجمد..بصوت حزين):نعم..أنا هنا.
(صوت المرأة،ليس عتابًا هذه المرة بل انتظارًا):
المرأة: تأخرت… لكنك عدت.
(تدمع عيناه دون بكاء):
العودة… كلمة ثقيلة…
أثقل من الغياب أحيانًا.
(يتنفس بعمق):
لكنني سأحملها…
مرة واحدة على الأقل… قبل أن أموت.
(يتجه نحو النافذة، يفتحها على اتساعها هذه المرة، يدخل ضوء أقوى، وصوت شارع بعيد، خطوات بشر..ينظر إلى الخارج طويلاً):
هناك… لا أحد يعرف أنني كنت بلا اسم…
وهذا يمنحني فرصة نادرة…
أن أكون ما أختاره… لا ما هربت منه.
(يلتفت نحو الجمهور للمرة الأخيرة):
أنا لا أطلب منكم أن تمنحوني اسمي…
ولا أن تصدقوا حكايتي…
(بهدوء): يكفيني… أن تعرفوا أن رجلًا بلا اسم…
قرر أخيرًا… أن لا يهرب حين ينادى.
(دقة ثانية من الساعة.. أوضح من الأولى..يضع يده على صدره):
الآن..إن سألني أحد: من أنت؟
لن أقول: لا أعرف.
(ابتسامة خفيفة).. سأقول: أنا في الطريق.
(يخطو خارج دائرة الضوء.. ثم ينطفئ ببطء تام)
((النهـايــة))
ملاحظــة: ((لايجوز إخراج هذا النص أو الإقتباس منه أو أعداده دون موافقة المؤلف))
#محمد_صخي_العتابي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟