أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد صخي العتابي - نص مسرحي(زهايمر السلطة) تأليف/ محمد صخي العتابي















المزيد.....


نص مسرحي(زهايمر السلطة) تأليف/ محمد صخي العتابي


محمد صخي العتابي

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 21:05
المحور: الادب والفن
    


الشخصيات:
الرئيس: كبير السن.. يرتدي بدلة عسكرية مليئة بالأوسمة الوهمية.. طفولي المزاج سريع النسيان.
الكاتب: يرتدي بدلة بالية ويحمل دفترًا قديمًا صوته هادئ لكنه عنيد يحاول تذكير الرئيس بما نسيه.
الحارس: أعمى يحمل بندقية يرى بأذنيه فقط ويتذكر كل شيء لكنه عاجز عن الفعل.
الجوقة: يرتدون ملابس متطابقة..يتحركون ويتكلمون ككتلة واحدة.

بيئة العرض:
(قاعة عرش غارقة في الغبار.. في الوسط كرسي عرش مهترئ فقد هيبته.. على الجدران تتدلى خرائط عربية
بالية حوافها ممزقة لم تعد موجودة.. رائحة عفن تسلل من الزوايا تملأ المكان)
الرئيس: (جالس على كرسيه يلعب بطائرة ورقية صغيرة (الكاتب) واقف إلى جانبه ممسكًا بالدفتر (الحارس)
واقف عند الباب، متجهًا بوجهه إلى الجدار.. الجوقة واقفة في الظل، ساكنة)
الرئيس: (يمط الطائرة الورقية) أليست جميلة؟ ستلمس الشمس قريبًا.
الكاتب:(يقلب صفحات دفتره) ليست طائرة سيدي.. إنها ورقة بيان آخر.. بيان رقم تسعة آلاف وسبعمئة وثلاثة.
الرئيس:(ضحكة طفولية) كذاب.. أنت كذاب.. إنها طائري النورس. أتذكر يوم اصطدت نورسًا على شاطئ البصرة؟
كان البحر أحمر ذلك اليوم.
الكاتب:لم تكن هناك بصرة، ولم يكن البحر أحمر. كان ذلك في حلمك. أو في كابوس..البحر كان أحمر حقًا،
لكن ليس بسبب غروب الشمس.
الرئيس:(يتجهم ) من أنت؟ لماذا تقف هنا؟ حارسي.. هذا رجل غريب.
الحارس:(لايتحرك بصوته الخشن) ليس غريبًا، سيدي. هذا كاتبك.. كان معك منذ البداية.
الرئيس:(ينظر إلى الكاتب بشك) منذ البداية؟ أي بداية؟ البداية كانت عندما ولدت من ضلع أبي، الإله الأزلي.
الكاتب:(يكتب في دفتره) هكذا يقول دائمًا.. ينسى أمه الفلاحة التي ماتت بالكوليرا.. ينسى أباه الذي شنقوه
لأنهم ظنوه جاسوسًا. ينسى كل شيء إلا الأكاذيب التي نسجها حول نفسه.
الرئيس:ماذا تكتب في ذلك الدفتر الملعون؟ أمزقه.
الكاتب:(يغلق الدفتر) تكتبه أنت بأفعالك.. أنا فقط أسجل هذه ذاكرتك وإن لم تردها.
الرئيس:ذاكرتي؟(يلمس جبهته) آه، نعم.. الذاكرة.. أتذكر كل شيء،،أتذكر يوم وقعت معاهدة السلام
أتذكر يوم أهدتني أمريكا نسرًا ذهبيًا.
الجوقة:(بصوت رتيب)
نحن نتذكر.
كنا جائعين ذلك اليوم.
كان النسر يلتهم قمحنا.
سميناه النسر الوطني.
الكاتب:(للرئيس) أتسمعهم؟
الرئيس:(يشرق وجهه) بالطبع.. إنهم يهتفون لي يحبونني (يوجه يده إلى الجوقة كأنه يستقبل التطبيل)
عاش الرئيس.. عاش القائد.
الجوقة:(بنفس الرتابة)
عاش الجوع.
عاش الخوف.
عاش النسيان.
الكاتب:لا يهتفون لك.. إنهم يتذكرون فقط. وأنت من علمهم النسيان.
الرئيس:(يقف غاضبًا) كفى أين تقرير النصر العظيم؟ لقد انتصرنا في المعركة الكبرى.
الكاتب:أي معركة؟
الرئيس:(يتجمد للحظة، محاولاً التذكر) المعركة.. معركة.. ضد الأعداء..كلهم أعداء..المعركة التي جعلتني أسطورة.
الحارس:(دون أن يتحرك) كانت معركة الجبل الأبيض.. قاتلنا فيها طوال الليل.
الرئيس:نعم.. الجبل الأبيض كم قتلت من الأعداء؟ ألف؟ عشرة آلاف؟
الحارس:لم يكن هناك أعداء. كان الجبل مغطى بالثلج. كنا نطلق النار على الصخور والظلال..
مات جنودك من البرد والجنون. أنت من أمرتنا بالذهاب إلى هناك.
الرئيس:(يجلس فجأة، منهكًا) كذبة أخرى..أنتم جميعًا تكذبون علي.. الجميع يريد سرقة مجدي(ينظر إلى طائرته الورقية)
أتعلم؟ سأطير بعيدًا مثلها.. إلى مكان لا يوجد فيه كتاب ملعونون، ولا حراس أعمىاء يتذكرون أكثر من اللازم.
(الإضاءة تخفت قليلاً، ثم تعود فورًا)
(الرئيس يحاول ربط حذائه لكنه لا يستطيع)
الرئيس: لماذا تعقد هذه الأربطة بهذا الشكل؟ إنها مؤامرة.. مؤامرة دولية لتعطيل حركتي.
الكاتب:هي أربطة عادية كنت تربطها بنفسك ذات يوم قبل أن تنسى كيف.
الرئيس:كنت.. كنت.. كل شيء في الماضي.. أنا كائن الحاضر والمستقبل.. أنا من يخلق الزمن.
الكاتب:(يمسك بالدفتر بقوة) الزمن يخلقك ثم يمحوك كما محا غيرك.. اقرأ هذا (يفتح دفترًا ويقربه من الرئيس)
هذه كانت أول خطبة لك.. كنت شابًا مثاليًا كنت تتحدث عن الحرية..عن العدالة..عن الأمة العربية الواحدة.
الرئيس:(يدفع الدفتر بعيدًا) هراء..وخطابات فارغة.. فالشعب لا يفهم إلا لغة القوة.
الجوقة:(يتقدمون خطوة واحدة إلى الأمام)
كنا نفهم.
كانت الكلمات كالخبز.
كانت تملأ بطوننا أملًا.
ثم أصبح الخبز كلمات.
فمتنا جوعًا.
الكاتب:(للجوقة) ماذا تريدون؟
الجوقة:(بصوت واحد) نريد أن نتذكر من نحن.
الرئيس:(يصرخ) أنتم رعاياي.. هذا هو هويتكم.. أن تنتموا إلي.
الحارس:(يدور نحو الصوت، لكنه لا يرى) كان اسمي مرة الكرامة.. كان اسمي العزة.. الآن اسمي الحارس وهذا كل ما تبقى.
الكاتب:(للرئيس) أترى؟ حتى الأسماء تموت هنا.. الهوية تتحول إلى رقم في سجل النسيان.
الرئيس:(يضحك) الهوية؟ دعني أخبرك عن الهوية.. الهوية هي أن تكون الأقوى..أن تمسك بالعصا.
أن تنسى من ضربته بها بالأمس، لتركز على من ستضربه غدًا.. هذه فلسفة الحكم.
الكاتب:هذه ليست فلسفة.. هذه أعراض المرض..أنت تنسى من تكون.. فتظن أنك أصبحت الإله.
تنسى ماذا فعلت، فتظن أنك لم تفعل شيئًا. تنسى وعودك، فتظن أن الشعب هو الذي خانك.
الرئيس:(ينهض متثاقلاً، يمشي نحو الجدار ويلمس الخريطة البالية) أين هي؟ أين أمتي العظيمة؟
كانت هنا من المحيط إلى.. إلى.. ماذا يوجد بعد الخليج؟
الكاتب:المحيط نفسه ما عدا محيطًا.. والخليج أصبح بحرًا من الدم.. أمتك كانت حلمًا في هذا الدفتر..
وحلمك أنت جعل منه كابوسًا في الواقع.
الرئيس:(يضرب الخريطة بقبضته) لا.. لقد وحدتهم.. تحت سيوفي..تحت قبضتي.
الجوقة:(يرفعون أيديهم اليسرى كاشفين عن ندوبهم)
وحدت جراحنا.
وحدت فقرنا.
وحدت صمتنا.
لكنك لم توحد أرضًا.
لم توحد شعبًا.
وحدت القبور فقط.
الرئيس:(مرتعبًا) لماذا لا يتوقفون؟ لماذا لا يغادرون؟ حارسي اطردهم.
الحارس:(يظل واقفًا) لا أستطيع، سيدي.. هم لا يأتون ولا يذهبون.. هم ببساطة موجودون كالغبار.. كالذكرى.
(الرئيس يجلس على الأرض..الكاتب يجلس أمامه، يفتح الدفتر بينهما)
الكاتب: لنحاول مرة أخرى.. ماذا تتذكر عن النهر؟
الرئيس:(يفكر بصعوبة) النهر... كان فيه ماء.
الكاتب:ماذا كان لون الماء؟
الرئيس:أزرق؟ لا..أحمر؟ لا.. كان لونه ذهبيًا.. لأننا كنا نصب فيه الذهب.. نعم كنا أغنياء.
الكاتب:(يهز رأسه بحزن) كان الماء بنيًا من الطمي. وأحيانًا أحمر من الدم. وأحيانًا أسود من السموم التي تلقى فيه.
لم تكن تصب ذهبًا. كنت أنت تسرق الذهب لتبني تماثيل لنفسك.
الرئيس:تماثيلي (يتألق وجهه) أين هي؟ لماذا لا أراها؟
الحارس:(من مكانه) أذابها الناس وصنعوا منها رصاصًا.. خلال الانتفاضة الأخيرة.
الرئيس:انتفاضة؟ أي انتفاضة؟ لم يكن هناك أي انتفاضة.. كانت احتفالات.. احتفالات بعيد ميلادي السبعين.
الجوقة:(يبدأون بالهمهمة ثم يرتفع الصوت تدريجيًا)
احتفلنا بالنار.
احتفلنا بالدموع.
احتفلنا بالموت.
كان عيد ميلادك حفلة جنازة لنا.
الكاتب:(يصرخ ليعلو على الضجة) توقف..لا تستطيع أن تتذكر لأنه لا يريد أن يرى.. لا يستطيع أن يرى لأنه يخاف من صورته في المرآة.
الرئيس:(يغطي أذنيه) اخرس.. اخرسوا جميعًا.. أنا لست من أنا..أنا شخص آخر.
الكاتب:(بقوة) من أنت إذن؟
الرئيس:(يخلع أحد الأوسمة من على صدره ويلقيها) أنا البطل..
(يخلع وسامًا آخر)
أنا الحكيم..
(يخلع وسامًا ثالثًا)
أنا الأب..
(يخلع كل الأوسمة حتى تتدلى بدلته فارغة)
من أنا؟لا أدري.. من أنا؟
الكاتب:(يغمض عينيه للحظة) أنت الرجل الذي نسِي اسمه. لأن الأسماء تحتاج إلى ضمير لتحملها، وأنت تخلصت من ضميرك منذ زمن بعيد.
الحارس:(يتنهد) كان لديه ضمير مرة.. كان يخونه في الليل.. كنت أسمعه يبكي في غرفته.. ثم في صباح أحد الأيام.. توقف عن البكاء.. وبدأنا جميعًا في النسيان.
(الرئيس يبدأ في البكاء، مثل طفل.. الجوقة تسكت.. صمت)
الرئيس:(من خلال دموعه) أشعر بالخوف.. كأنني في غرفة مظلمة وأسمع أصواتًا ولا أرى وجوهًا.. أريد أمي. أريد أن أعود إلى البيت.
الكاتب:(بنبرة أقل حدة) أي بيت؟
الرئيس:البيت... الذي له نوافذ تطل على النخيل. حيث كانت أمي تخبز الخبز.. كانت رائحته..
(يتجمد، لا يستطيع إكمال الجملة)
الكاتب:كانت رائحته مثل الوطن.
الرئيس:(ينظر إليه وكأنه يراه للمرة الأولى) نعم... الوطن. أين هو؟
الكاتب:(يشير بالرأس نحو الجوقة) هناك. تحت أقدامهم. مدفون تحت صمتهم.
(الإضاءة تضيء على الجوقة لثانية..ثم تعود)
(يجلس الرئيس على كرسيه ويغفوا بنوم مضطرب.. الكاتب واقف بعيدًا، يشاهده الحارس يتنفس بصعوبة)
الرئيس: (في منامه) لا... ليست لي... الدم ليس على يدي... هم من وضعوه هناك... المؤامرة...
الجوقة:(يهمهمون كالنحل)
الدم يبحث عن يديه.
الدم يتذكر.
الدم لا ينسى.
نحن لا ننسى.
الكاتب:(للحارس) كم بقي من الوقت؟
الحارس:(يهز رأسه) الوقت مات هنا منذ زمن. لا يوجد سوى الانتظار.
الرئيس:(يستيقظ فجأة، مرتعبًا) من هناك؟! سمعت صوت رصاص.
الكاتب:لم يكن هناك صوت. كان صمتًا. والصمت هنا أعلى من الرصاص.
الرئيس:(يمسك برأسه) آه.. رأسي..كأن ذاكرتي ثقيلة..كأنها صخرة أحملهما على كتفي.. منذ متى وأنا أفعل هذا؟
الكاتب:منذ أن أصبحت رئيسًا.. منذ أن استبدلت ذاكرتك بذاكرة الأمة. أصبحت ذاكرتهم ثقلك. وآلامهم وسامك.
الرئيس:(ينظر إلى يديه) أتذكر.. أتذكر يومًا..كان فيه طفل. ألقى علي وردة. كانت حمراء.. مثل..مثل..
الجوقة:(فجأة بصوت حاد واحد)
مثل الدم.
مثل العلم.
مثل النار.
الوردة كانت نارًا.
وأنت أحرقتنا بها.
الرئيس:(يصرخ) كفى.. لقد اعتذرت.. ألم أعتذر؟
الكاتب:(يفتح دفتره على صفحة معينة) نعم.. في اليوم التالي لأحد المذابح قلت: أيادينا البيضاء
لم تلطخها دماء الأبرياء وإن لطخت فهي دموع الندم.
الرئيس:(مستغرقًا في ذاته) جميلة..كانت جميلة تلك العبارة من كتبها؟
الكاتب:(يغلق الدفتر بصفعة) أنا.
الرئيس:(يحدق في الفراغ) أعتقد أنني نسيت شيئًا مهمًا.. شيء يتعلق بامرأة كانت تصرخ..وتحمل لافتة... ماذا كانت مكتوبة؟
الحارس:(بصوت هادئ) كانت مكتوبة:أين ابني؟ وكان ابنها أحد الطلاب الذين سحقتهم الدبابات في ميدان الحرية.
الرئيس:ميدان الحرية؟ (يفكر) آه، نعم.. ذلك الميدان الجميل.. حيث كنا ننظم الاستعراضات العسكرية.
الكاتب:نعم..استعراضات الموت والنسيان.
(الرئيس يقف فجأة، مشدودًا. يبدو وكأنه يتذكر شيئًا حقيقيًا للحظة)
الرئيس:انتظر..المرأة..كانت تشبه أمي كانت عيناها..مثل عيني أمي.
(لحظة من الصدق النادر. ثم يهز رأسه، وتعود الغشاوة إلى عينيه)
لا.. كانت جاسوسة كلهم جواسيس.. يجب أن أحمي الشعب منهم.. هذه مسؤوليتي.
(الإضاءة تخفت إلى لون أحمر)
(الرئيس يعتلي كرسيه بصوت خطابي.. الجوقة تقف بلا حركة.. الكاتب يجلس على الأرض يئن من الأحباط لا يكتب..
الحارس منحني، وكأنه يحمل ثقل العالم)
الرئيس: أيها الشعب العظيم أيها الأحرار لقد قدتكم عبر العواصف إلى بر الأمان.. بنينا دولة القضاء والعلم.. دولة الذرة والفضاء.
الجوقة:(لا يردون يصمتون)
الرئيس:(مرتبكا) لماذا لا تهتفون؟ دائماً كنتم تهتفون.
الكاتِب:(بدون أن ينظر إليه) لأنهم لم يعودوا يخافون.. والجائع لا يخاف إلا من الجوع والموتى لا يخافون من الموت.
الرئِيس:لكنني أعطيتهم كل شيء.. أعطيتهم..أعطيتهم..ماذا أعطيتهم؟
الحارِس:أعطيتهم القبور أسماءً مختلفة.. مستشفيات، سجون، ميادين.. لكنها تبقى قبورًا.
الرئِيس:(ينزل من على الكرسي، متعبًا محطمًا) أعتقد أنني... مريض.. أشعر أنني..أضيع.
الكاتِب:مرضك اسمه الزهايمر.. زهايمر السلطة.. تنسى أنك بشر، فتتوهم أنك إلهًا.. تغريك السلطة فتنسى أنك عبدها لاسيدها..
تنسى أنك جزء من الشعب، فتظن أن الشعب جزء منك.. وعندما تنسى كل ذلك، تبدأ في نسيان نفسك.
الرئِيس:(يجلس على الأرض، يحضن ركبتيه)أشعر بالبرد. أين بطانتي؟
الجوقة:(يتقدمون خطوات بطيئة، محاصرينه في نصف دائرة)بطانينا سرقتها..لتدفئ عظامك.
عظامنا ما زالت تنتظر الدفء.
الرئِيس:(ينظر إليهم، وعيناه توسعان بالخوف) من أنتم؟ ماذا تريدون مني؟
الجوقة:(بصوت واحد، هادئ ورهيب)
نريد ذاكرتك..
نريد هويتنا..
نريد ضميرك..
أعطنا إياه..
الرئِيس:(يتمسك برأسه) ليس لدي شيء أنا فارغ.. انظروا (يضرب على رأسه) فارغ مثل جرس مكسور.
الكاتِب:(ينهض من الأرض) هذا هو الثمن.. لقد أكلت كل شيء حتى لم يعد هناك شيء بداخلك.. لقد نسيت حتى كيفية الندم.
الحارس:(يسقط بندقيته على الأرض) انتهى.. لقد انتهى.
(صوت البندقية وهو يسقط على الأرض يتردد في الصالة)
الرئِيس:(ينظر إلى البندقية.. ثم إلى الجوقة.. ثم إلى الكاتب.. في عينيه وميض أخير من الاستبصار من الوضوح المخيف)
أنا..أتذكر..
(جميعهم يتجمدون.. ينتظرون)
أتذكر...أنني نسيت.
(وهو يقول ذلك، يبدو وكأنه يتقلص، يصبح أصغر)
نسيت اسمي الحقيقي..نسيت وجهي في المرآة.. نسيت أن الضمير ليس كلمة في خطاب.. بل هو صمت في الليل
يخبرك أنك كنت إنسانًا ذات مرة.
(ينظر إلى يديه كما لو أنه يراها للمرة الأولى)
هاتان اليدان...كم قتلتا؟ كم سرقتا؟ كم دفنتا؟
الجوقة:(بصوت همس جماعي)
أكثر من أن تحصى..
أكثر من أن تتذكر..
أكثر من أن تغفر..
الرئِيس:(ينظر إلى الكاتب) ماذا أفعل الآن؟
الكَاتِب:(يهز رأسه) لا أعرف.. لم يعد دفتر يملك إجابات.. لقد امتلأ.
الرئِيس:(يحاول الوقوف.. لكنه لا يستطيع يزحف نحو الجوقة على ركبتيه)
خذوا...خذوا ما تبقى مني.. ليس لدي شيء سوى..النسيان.
(يقترب منهم، وهم لا يتحركون.. هو يمد يده كي يلمسهم لكنه يتوقف قبل أن يصل)
الحارس:(يخرج من جيبه مرآة صغيرة مكسورة يرميها على الأرض أمام الرئيس) انظر.
(الرئيس ينظر في المرآة المكسورة.. يرى انعكاسه المشوه)
الرئِيس:(يصرخ) هذا ليس أنا.. هذا غريب هذا... هذا شبح.
الكاتب:هذا هو ما صنعته من نفسك..
وهذه هي الصورة التي ستبقى في ذاكرتنا.
(الجوقة تبدأ في الانسحاب ببطء إلى الظل تاركة الرئيس وحيدًا في دائرة من الضوء الخافت)
الرئِيس:(يناديهم) لا تتركوني.. لا تذهبوا.. أنا رئيسكم.. أنا قائدكم.. أنا.. أنا..
(ينظر حوله في الذهول.. الكاتب يجلس ويبدأ في تمزيق صفحات الدفتر واحدة تلو الأخرى ويتركها تسقط ..
الحارس يجلس على الأرض ظهره إلى الجميع، لا يحرك ساكناً..
الرئيس يبقى جالسًا في منتصف المسرح، محاطًا ببقايا الدفتر الممزق، محدقًا في المرآة المكسورة على الأرض)
الرئيس:لماذا هذا الصمت؟ هل متم جميعًا؟ أم أنني أنا الميت؟
(ينظر إلى يديهه)إنها لا تتحرك كما كانت..كأنها ليست لي..
هل كنت أحكم بها العالم؟
(يتوقف، كأنه يسمع صدى صوته)العالم...العالم؟
(يضحك)ما هو العالم إن لم يكن غرفة.. صغيرة.. يغلقها الخوف بالمفتاح؟
الكاتب(بهدوء) العالم كان ينتظر أن تفتح النافذة.. لكنك كنت تخاف الضوء.
كلما جاء صباح.. كنت تصرخ في العسكر:
أغلقوا الستائر، العدو قادم من الشمس.
الحارس:(ينهض صوته مبحوح)كنت تخاف من النار ياسيدي.
كنت تخاف من النهار يا سيدي..الليل كان حليفك..
يخفي الوجوه والدماء والخطيئة.
الرئيس: (ينهض بصعوبة)
هل كنت أخاف؟(ينظر حوله)
كل هذه الجدران.. أنا من بناها؟
(يلمس الجدار فيسقط جزء منه غبارًا)
ها هي تتهاوى مثل ذاكرتي.
الجوقة: (بصوت متقطع)
كنا نحفر أسماءنا على الجدران،
لكنها كانت تتشقق كلما كتبت خطابًا.
كل كلمة منك كانت مطرقة.
كل وعد كان جدارًا جديدًا.
الرئيس: (يصرخ)كنت أحميكم
كنت... كنت أمسك العالم من أن يسقط.
(يتراجع إلى الوراء)
لكن العالم سقط... وأنا تحته.
الكاتب: (يتقدم نحوه)
لا، سيدي... لم يسقط العالم،
سقطت أنت من داخله.
سقطت من ذاتك.
الزهايمر لم يكن مرضك وحدك...
بل كان وباءً انتقل إلى كل من صدقك.
الحارس: (يتنهد) الذاكرة مثلي... عمياء،
لكنها تسمع أنين الأرض.
أسمع الآن أصواتهم من تحت التراب...
أطفال، نساء، مقاتلون، شعراء...
كلهم ينادون بأسم واحد نسيته.
الرئيس:(بلهفة) أي اسم؟! قل لي.. أريد أن أتذكره..
أريد أن أتذكر شيئًا واحدًا حقيقيًا قبل أن...
الكاتب: (يقطع كلامه بهدوء) الوطن..
(صمت مطبق.. الرئيس يتراجع خطوة كأنه تلقى رصاصة)
الرئيس: (بهمس) الوطن...
كنت أراه في النشرات... في الأعلام... في الشعارات...
لكنني لم أره يومًا في عيون الناس...
هل كان هناك وطن حقًا؟
الجوقة:(بصوت واحد)
كان..ثم نسيته.. ثم نسيناه معك.
الرئيس: (يسقط جاثيًا، يصرخ بحرقة)
أعيدوه إلي.. أعيدوا الوطن..
أقسم أنني سأتذكر..
سأكتب اسمي الحقيقي من جديد.
الكاتب: (يضع بقايا الدفتر أمامه)
الدفتر لم يعد يحتمل أسماءً أخرى.
كل الصفحات امتلأت بالدم.
الحارس: (يرفع وجهه لأول مرة نحو الضوء كأنه يرى رغم العمى)
سيدي..لقد حان وقت النوم الأخير.
الذاكرة تتعب هي الأخرى.
(الرئيس يتنفس بصعوبة، يزحف نحو المرآة المكسورة على الأرض يرفعها بيد مرتعشة.. ينظر في شظاياها يرى وجوهًا كثيرة:
جندي.. طفل.. امرأة.. فقير.. ثم وجهه هو.. يتلاشى بينهم)
الرئيس: (بصوت متلاشي)
ها أنا..الكل..
القاتل..والمقتول..
الحاكم..والمقهور..
أنا..الزهايمر.
(تسقط المرآة من يده وتتحطم أكثر. الجوقة تقترب ببطء، يغطونه بعباءة رمادية، كأنهم يدفنونه حيًا..
الإضاءة تنكمش تدريجيًا حتى تبقى بقعة ضوء صغيرة على الدفتر المفتوح أمام الكاتب)
الكاتب: (يرفع رأسه.. يخاطب الجمهور مباشرة)
أحيانًا.. لا يموت الطغاة عندما يموتون.
بل عندما نتوقف عن تذكرهم.
وحين نصحو من الزهايمر الجماعي...
ربما نجد في الذاكرة وطناً آخر...
لم يكتب بعد...
(يصمت، ثم يغلق الدفتر ببطء. صوت تنفس الحارس الأخير يتوقف.. الدفتر الممزق على الأرض، الجريدة القديمة تتطاير فيها صفحاتها..الجوقة واقفون في دائرة ضوء صغيرة، وجوههم مغطاة بالرماد، أيديهم ممتدة إلى الأمام.. لا صوت إلا همهمة خافتة.. كأصداء الذكريات)
الجوقة:(بصوت جماعي متردد)
أين نحن؟
هل نحن هنا؟
هل نحن هناك؟
أم أننا ظل في ذاكرة من مات قبل أن نحيا؟
(تتحرك أصابعهم نحو الدفتر الممزق، يلمسون الصفحات بحذر يرفعونها واحدة واحدة، ينظرون إلى الكلمات الملطخة بالحبر والدم)
الجوقة:القصص... القصص مستمرة.
القصص تنتظر من يتذكر.
نحن... من نتذكر.
(ينحني أحدهم، يلتقط قطعة من المرآة المكسورة، ينظر فيها فيرى انعكاس وجهه، ثم يرفعها لأعلى. الجميع يفعلون نفس الشيء، كل قطعة مرآة تعكس جزءًا من وجوههم، يتجمعون في دائرة كبيرة، الضوء يتوسع تدريجيًا)
الجوقة: (بصوت واحد أقوى أكثر وضوحًا)
نحن الذاكرة..
نحن الوطن..
نحن الصمت والصرخة..
نحن الذين نكتب التاريخ بعد أن ينساه الطغاة.
(الكاتب يقف في الوسط ينظر إليهم بصمت طويل.. ثم يبتسم.. الدفتر الممزق بين يديه يتحول ببطء إلى صفحة بيضاء كبيرة يرفعها فوق رأسه)
الكاتب: (بقوة) الصفحة البيضاء ليست فراغًا..
إنها وعد بأن يكتب شيء جديد.. شيء لنا، ليس لهم.
الذاكرة عادت.. والوطن يبدأ من هنا.
(الجوقة يمدون أيديهم إلى الأعلى.. الضوء يشتد تدريجيًا يملأ المسرح كله.. صفوفهم تتلاشى في الضوء ويظل الدفتر المفتوح
في المنتصف كرمز للذاكرة الحية والأمل الجديد)
النهايــــة
ملاحظــة: ((لايجوز أخراج هذا النص أو الأقتباس منه أو أعداده دون موافقة المؤلف))



#محمد_صخي_العتابي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نص مسرحي (ليلة القبض على جيفارا) تأليف: محمد صخي العتابي
- مسرحية ( صبراً يا أطفال غزة)
- مهدي حميد حيدر أحب وطنه وأهله بصدق/ محمد صخي العتابي
- مسرحية تربوية للأطفال(محاكمة الذئب) تأليف: محمد صخي العتابي
- نص مسرحي ( رسائل من غزة ) تأليف / محمد صخي العتابي
- نص مسرحي: قبر مؤجل (مونودراما) تأليف / محمد صخي العتابي
- مسرحية( صرخة في الظلام)
- مسرحية (المخدرات طريق الهلاك) تأليف / محمد صخي العتابي
- نص مسرحي للأطفال (الحكمة والقوة) تأليف / محمد صخي العتابي
- الفن سلاح ذو حدين بناء وهدم
- لعبة الحرب/ قصة قصيرة
- (حراس الغابة نص مسرحي للأطفال)
- مسرحية (جنون) تأليف/ محمد صخي العتابي
- مسرحية المرآة ( مونودراما) تأليف/ محمد صخي العتابي
- رسالة إلى الاتحاد الآسيوي لكرة القدم
- (تلوث بيئي نص مسرحي للأطفال) تأليف محمد صخي العتابي
- مسرحية (صرخات من غزة) تأليف / محمد صخي العتابي
- الذكريات كنز لايقدر بثمن
- طفل يتيم في عيد الأضحى / قصة قصيرة
- حكاية عائلة حزينة : قصة قصيرة/ محمد صخي العتابي


المزيد.....




- النسيان على الشاشة.. كيف صوّرت السينما مرض ألزهايمر؟
- وفاة فنان عراقي في أستراليا
- رحيل الفنانة بيونة.. الجزائر تودع -ملكة الكوميديا- عن 73 عام ...
- معجم الدوحة التاريخي.. لحظة القبض على عقل العربية
- الرئيس تبون يعزي بوفاة الفنانة الجزائرية باية بوزار المعروفة ...
- رحيل الفنانة الجزائرية باية بوزار المعروفة باسم -بيونة- عن ع ...
- وفاة أسطورة السينما الهندية.. دارمندرا
- موسيقى وشخصيات كرتونية.. محاولات لمداواة جراح أطفال السودان ...
- مسرحي تونسي: المسرح اجتماعي وتحرري ومقاوم بالضرورة
- الفنانة تيفين تتعرض لموجة كراهية وتحرش لمشاركتها في نقاش عن ...


المزيد.....

- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد صخي العتابي - نص مسرحي(زهايمر السلطة) تأليف/ محمد صخي العتابي