محمد صخي العتابي
الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 02:53
المحور:
الادب والفن
في حي المعلمين القريب من السوق حيث تختلط أصوات الباعة بنداءات الزبائن وتفوح رائحة الخضر الطازجة والفواكه اليانعة مع نسيم الصباح كان مهدي حميد حيدر يعيش منذ شبابه يحلم بحياة كريمة لوطنه ويمتلك قلبا نابضا بالحب والوفاء للناس الذين يحيطون به في الحي البسيط الذي نشأ فيه عالما صغيرا لكنه كان يختزن في زواياه الحكايات الكبرى عن الفقر والكفاح والأمل وكان السوق القريب منه أشبه بمدرسة يتعلم فيها الأنسان دروس الحياة كل يوم في تلك الأزقة وبين وجوه الفلاحين والباعة والنساء اللواتي يحملن سلال الخضار تشكلت شخصية مهدي حميد حيدر وانغرست فيه قيم البساطة والنقاء وأصبح قلبه معلقا بأحلام الكادحين وآمالهم.
بخمسينيات القرن الماضي كان العراق يغلي بالصراعات والأفكار والناس يتطلعون إلى غد أفضل بعد عقود من الظلم والتهميش كان مهدي حميد حيدر شابا يافعا آنذاك مملوءًا بالحماس لا يرضى أن يقف متفرجا أمام ما يراه من فقر وبؤس يحيط بالناس كان صوته الداخلي يلح عليه بأن التغيير لن يأتي إلا بالنضال وبأن الصمت خيانة لقضية الفقراء الذين أحبهم منذ طفولته انجذب الى الأفكار التي تدعو للعدالة الاجتماعية والمساواة في عام 1953أنضم إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي الذي كان آنذاك ملاذا للمثقفين والعمال والفلاحين في وقت كان فيه الانتماء للحزب مخاطرة كبيرة بل مغامرة قد تكلفه حريته أو حتى حياته ومع ذلك لم يتردد فقد كان يؤمن أن طريق النضال محفوف بالتضحيات وأن الكرامة لا تنال إلا بالمواجهة...
بدأ مهدي حميد حيدر نشاطه السياسي في الخفاء يوزع المنشورات ويناقش الأفكار مع الشباب ويدعوهم للوعي بحقوقهم.. كان يمتلك قدرة عجيبة على الأقناع لأنه لم يكن يتحدث من منطلق نظري بل كان يروي لهم ما يراه كل يوم من معاناة البسطاء وكان قلبه يتقد بحرارة الأيمان بقضيته ومع مرور الوقت صار اسمه معروفا لدى السلطات التي كانت تراقب كل نفس حر فتعرض للملاحقة وذاق مرارة الاعتقال أكثر من مرة وفي أحدى تلك المرات عام 1963أعتقل وتعرض لتعذيب شديد ترك أثرا في رأسه ظل يلازمه ما تبقى من حياته كشاهد على قسوة الجلادين وعلى ثباته في مواجهة الظلم.
كان مهدي حميد في تلك الحقبة محبا ومؤيدا للزعيم عبد الكريم قاسم فقد رأى فيه الأمل لوطن جريح وقائدا نزيها لا يساوم على مبادئه كان يردد دائما أن عبد الكريم قاسم لم يكن مجرد سياسي بل كان رمزا لأحلام الفقراء والمحرومين وأنه كان يمثل صورة العراق التي يحلم بها ومع أن الأيام حملت خيبات كثيرة ظل مهدي حميد وفيا لذلك الحلم مؤمنا بأن حب الوطن لا يتبدد حتى لو خذلته الأحداث والسياسات.
كبر مهدي حميد حيدر وكبر معه حزنه وأحلامه المؤجلة لكنه لم يتراجع يوما عن طريقه كان يرى في النضال حياة وفي الصمود كرامة فواصل عمله الحزبي والسياسي رغم ما تعرض له من مضايقات وملاحقات ومع الزمن صار بيته في حي المعلمين ملتقى للنشطاء والمثقفين مكانا يتداول فيه الأصدقاء قضايا الوطن ويخططون لمستقبل أفضل وفي قلب ذلك البيت نشأ أولاده على القيم ذاتها التي حملها أبوهم كان له ثلاثة أبناء أكبرهم وسام الذي اختار أن يسلك طريق التعليم فعمل معلما لكنه ورث عن أبيه نفس النهج والعقيدة ومع مرور السنين أصبح وسام عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حاملا راية النضال التي رفعها والده ومكملا لمسيرة العائلة في الدفاع عن الفقراء والمهمشين.
كان مهدي حميد أنسانا بسيطا في حياته اليومية لكنه عظيم في قلب من عرفه أحبه أهل قلعة سكر بمحافظة ذي قار ليس لأنه كان سياسيا أو مناضلاً فحسب بل لأنه كان قريبا منهم حاضرا في تفاصيل حياتهم كان أذا رأى محتاجا لم يتردد في مساعدته وإذا سمع عن عائلة فقدت معيلها كان أول من يمد لها يد العون امتلك طيبة نادرة وخلقا حميدا وكان إيمانه بقضيته ينعكس في أفعاله لا في أقواله فقط.. كثيرون ممن عرفوه كانوا يقولون أن مهدي لم يكن يطلب شيئا لنفسه وأنه عاش حياته كلها للآخرين كشمعة تحترق لتنير دروب الفقراء..
لكن طريق النضال لم يكن مفروشا بالورود فقد تعرض مرارا لتعذيب قاس على أيدي أزلام السلطة البائدة.. كانوا يريدون أن يكسروا روحه لكنه كان كالجبل ينهض بعد كل ضربة ويزداد صلابة وإصرارا وفي أحلك لحظات الألم كان يبتسم ابتسامة صغيرة يراها رفاقه فتمنحهم الشجاعة.. كان يقول لهم دائما (أن الحرية لا تمنح بل تنتزع وأن الظلم مهما طال لا بد أن يزول)
ومع تقدمه في العمر وبعد أن أنهكته سنوات النضال والاعتقال قرر أن يبتعد قليلاً عن صخب السياسة دون أن يتخلى عن مبادئه فتح محلا صغيرا لبيع القماش في السوق القريب من بيته وعاد ليعيش بين وجوه يعرفها وتعرفه وكأنه عاد الى نقطة البداية لكن هذه المرة بحكمة التجارب وهدوء السنين صار يجلس في دكانه ساعات طويلة يتبادل الحديث مع زبائنه ويروي لهم حكايات الماضي وكان أصدقاؤه القدامى يزورونه باستمرار فيجلسون معا يتذكرون أيام الشباب ويتبادلون الضحك والحنين وكأنهم يستعيدون شيئا من أرواحهم التي سرقتها السجون والمعارك السياسية..
لم يكن أبا وسام مجرد تاجر قماش بل كان دكانه مكانا للذاكرة ومساحة يلتقي فيها التاريخ بالحاضر.. كان يتعامل مع زبائنه بحب وكرم وكأن كل قطعة قماش يبيعها تحمل جزءا من قلبه كان يرفض أن يربح على حساب حاجات الناس ويقول دائما أن التجارة الحقيقية هي تجارة الأخلاق وأن المال وسيلة لا غاية..
حين رحل مهدي حميد حيدر بكاه من عرفه ومن لم يعرفه امتلأ قضاء قلعة سكر بصوت الحزن وكأن جدرانه تبكي رجلًا كان قلبه واسعا كالوطن.. كان رحيله صدمة لأهل المدينة الذين اعتادوا رؤيته كل صباح يحييهم بابتسامة ويمنحهم دفء كلماته.. لم يكن مجرد مناضل سياسي أو أب حنون بل كان رمزا لجيل كامل آمن بأن العدالة تستحق أن يضحى من أجلها..
في جنازته مشى أبناء المدينة خلف نعشه وكان بينهم رجال ونساء وأطفال كل منهم يحمل ذكرى صغيرة عنه بعضهم كان يروي كيف ساعده مهدي في لحظة يأس وآخرون تحدثوا عن شجاعته في مواجهة الطغاة حتى الذين اختلفوا معه سياسيا لم يتمالكوا أنفسهم من البكاء لأنهم أدركوا أنه كان صادقا مع نفسه ومع مبادئه.
وبينما كانت الجموع تمشي خلفه كان صوت وسام ابنه الأكبر يرتفع بخطبة وداع يتحدث فيها عن أبيه عن الرجل الذي علمه أن الوطن أكبر من الأفراد وأن التضحية هي المعنى الحقيقي للحياة قال وسام وهو يحبس دموعه: أبي لم يرحل لأنه ترك فينا الحلم وترك لنا طريقا نسير فيه سنكمل ما بدأه وسنظل نحمل رايته حتى يتحقق ما ناضل من أجله...
رحل مهدي حميد حيدر لكن قصته لم تنته فهي حاضرة في كل بيت فقير ساعده وفي كل شاب ألهمه بفكره وفي كل حجر من حي المعلمين الذي شهد طفولته ونضاله لقد عاش حياة مليئة بالتحديات والآلام لكنه لم ينكسر ظل وفيا لوطنه ولشعبه حتى آخر لحظة مؤمنا بأن الحرية تستحق كل شيء حتى لو كان الثمن هو العمر نفسه وهكذا تحول أبا وسام الى ذاكرة حية تروى كحكاية عن رجل أحب وطنه وأهله بصدق ومضى تاركا خلفه أثرا لا يمحوه الزمن وأملا يتجدد في قلوب من عرفوه ومن سيأتون بعده.
رحم الله مهدي حميد حيدر الذي ناضل من أجل الفقراء وأحب الناس بصدق وترك لنا مثالاً يحتذى في الطيبة والأيمان..سيظل اسمه محفورا في وجدان مدينته قلعة سكر كما تحفر الحكايات الخالدة في ذاكرة الأجيال القادمة...
#محمد_صخي_العتابي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟