|
|
الأضرار البيئية الناجمة عن القصف الإسرائيلي لغزة: الجوانب القانونية منذ 58 ثانية1 20 دقائق
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 05:21
المحور:
القضية الفلسطينية
تسبب القصف الإسرائيلي غير المسبوق لقطاع غزة في سقوط أكثر من 100.000 ضحية والتهجير القسري لمعظم سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ولكن هناك “ضحية صامتة”: البيئة، والتي تشمل البيئة الطبيعية والمبنية. ويأتي هذا القصف ضمن استراتيجية تتبناها قوة الاحتلال تجاه الفلسطينيين منذ عام 1967، وهي استراتيجية لإدارة الصراع. وتهدف شدة القصف وحجمه إلى تحقيق فترة من الهدوء، كما كان الحال بعد غزو الأراضي الفلسطينية المحتلة (عملية السياج الدفاعي، 2002). ووفقاً لهذه الاستراتيجية، فإن استمرار احتلال قطاع غزة يتطلب عملية استئصال جذرية، وهو ما يرقى من الناحية القانونية إلى مستوى الإبادة الجماعية. يحاول هذا التقرير الذي كتبه جونس عاصي تقديم مفهوم واسع للإبادة الجماعية يشمل الإبادة البيئية، ويناقش النظر في “الضرورة العسكرية” في المناطق المأهولة بالسكان عندما نعلم أن معدل الضحايا في قصف هذه المناطق يتجاوز 90٪ وأن إسرائيل تبرر أي هدف على هذا المبدأ. كما أنه يثير مسألة المسؤولية عن الإبادة البيئية في ضوء التطورات في القانون الجنائي الدولي والتناقض بين المسؤولية الفردية والجماعية. في صباح يوم 9 أكتوبر 2023، شنت الطائرات الإسرائيلية هجمات غير مسبوقة على قطاع غزة المحتل، شملت قنابل حارقة وكميات كبيرة من المتفجرات. وبحلول منتصف دجنبر 2023، بلغ عدد القنابل التي أسقطت على غزة 29 ألف قنبلة، وهو أكثر مما أسقطته الولايات المتحدة على العراق في عام واحد (2003) (29199 قنبلة). تجدر الإشارة إلى أن نصف الأسلحة والمتفجرات المستخدمة كانت غير موجهة، مما يعني أنها عشوائية، ويمكن أن تخطئ الهدف بمقدار 30 إلى 100 متر، بحسب خبراء عسكريين، بالإضافة إلى القنابل الثقيلة التي يصل وزنها إلى 2000 رطل والقنابل الفوسفورية التي تحتوي على مواد كيميائية مما دفع الرئيس الأمريكي إلى تحذير القيادة الإسرائيلية من أن القصف العشوائي وعدد الضحايا المدنيين سيؤدي إلى فقدان إسرائيل دعم الدول الأخرى. وأدى هذا القصف الإسرائيلي إلى خسائر فادحة في الأرواح (أكثر من 100 ألف شهيد وجريح، وهي نسبة كبيرة بالنظر إلى عدد السكان البالغ 2.3 مليون نسمة)، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية والأحياء السكنية والمباني العامة والأثرية والدينية والجامعية والطبية وغيرها. ووفقا لخبير في الأمم المتحدة، فإن هذا التدمير لا يمكن فهمه. ويكون الموت في غزة إما مباشراً نتيجة هذا القصف العشوائي والمكثف، أو غير مباشر وبطيء نتيجة تلوث المياه الجوفية ومصادر المياه السطحية بسبب تدمير شبكات المياه والصرف الصحي، والحصار يمنع وصول المعدات وقطع الغيار اللازمة لإصلاح هذا التلوث، ومنع معالجة مياه الصرف الصحي والتي تصل إلى 50 مليون متر مكعب سنويا، 10٪ منها تتسرب إلى فرشة المياه الجوفية. في هذا الشأن، صرحت سها أبو دياب، إحدى النازحات في مدينة رفح قائلة: “هناك تلوث في كل مكان – في الهواء، في الماء الذي نستحم فيه، في الماء الذي نشربه، في الطعام الذي نأكله، في المنطقة المحيطة بنا”. بالإضافة إلى ذلك، أدى استخدام أنواع مختلفة من الصواريخ والمتفجرات والأسلحة إلى جعل مناطق واسعة من قطاع غزة المحتل غير صالحة للزراعة، وإلى انخفاض التنوع البيولوجي: بحلول عام 2023، ستكون غزة موطنا لما بين 150 و200 نوع من الطيور، 20 ثدييات و25 زواحف. ويؤثر التدمير الواسع النطاق للأحياء السكنية والمدارس والمساجد والكنائس أيضا على تدبير النفايات وإعادة تدويرها والتخلص منها والأثر البيئي في غزة. في السنوات الأخيرة، كان هناك اهتمام بالآثار البيئية السلبية للأسلحة المتفجرة “في المناطق المأهولة بالسكان. تؤكد ديباجة الإعلان السياسي بشأن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان الذي أطلقته أيرلندا (2022) على أن هذه الأسلحة لها تأثير على البيئة، ويتم تعريف البيئة على نطاق واسع لتشمل الهواء والأرض والمياه والموارد. يقوم استخدام هذه الأسلحة على “التأثير السلبي” بمعنى تلوث الهواء والتربة والمياه الجوفية والموارد الأخرى، ولكن أيضًا على البيئة الطبيعية، البيئة المبنية والصحة العامة. وهنا يُنظر إلى البيئة على أنها جزء لا يتجزأ من المناطق المأهولة بالسكان وحمايتها جزء من حماية المدنيين. تعتمد صحة المدنيين ورفاههم وبقائهم على قيد الحياة في المناطق المأهولة بالسكان على الوصول إلى مرافق الصرف الصحي الفعالة، وإمدادات المياه الجيدة، والهواء النظيف، والأراضي الصالحة للاستخدام. علاوة على ذلك، قد يؤدي استخدام المتفجرات إلى التلوث وإطلاق مجموعة من المواد الكيميائية السامة والخطرة من المباني والبنية التحتية المتضررة. وفي ما يتعلق بالقانون البيئي الدولي، هناك من يرى أنه جاء كرد فعل من المجتمع الدولي على حوادث كان لها تأثير على البيئة الطبيعية، مثل حادث ناقلة النفط توري كانيون عام 1967. وقد نشأت العلاقة بين البيئة والصراع مع احتلال العراق للكويت في أوائل التسعينيات، الأمر الذي أثار مسألة التدمير المتعمد للبيئة من خلال إشعال آبار النفط. إن هذه القراءة لتطور القانون البيئي الدولي وعلاقته بالصراع تتجاهل حرب فيتنام واستخدام الولايات المتحدة للبيئة في عملياتها العسكرية ضد مقاتلي الحزب الشيوعي الفيتنامي. بين عامي 1961 و1971، أسقطت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 77 مليون لتر من المواد الكيميائية السامة، بما في ذلك العامل البرتقالي، الذي يحتوي على مواد كيميائية خطرة، لتدمير الغطاء النباتي الذي تستخدمه القوات الفيتنامية للتمويه وحرمان السكان من وسائل عيشهم من خلال تدمير المحاصيل والتربة و باطن الأرض. وأدت هذه الحرب إلى اتفاقيات مهمة في القانون الإنساني الدولي تتناول البيئة وحمايتها، بما في ذلك البروتوكول الإضافي الأول (1977) واتفاقية حظر الاستخدام العسكري أو أي استخدام عدائي آخر لتقنيات التعديل البيئي (1976). ويجب التأكيد أيضًا على أن تطبيق المعاهدات البيئية أثناء النزاع لا يتوقف، بل يجب تفسيره وفقًا للقانون الإنساني الدولي، وهو قانون النزاع (ليكس سبيشاليس). وينطبق القانون الإنساني الدولي والقانون البيئي الدولي في الأراضي الخاضعة للاحتلال الحربي، وقطاع غزة جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، والتي تشمل أيضا الضفة الغربية والقدس الشرقية. ووفقاً لقرار محكمة العدل الدولية لعام 2004 بشأن الجدار، تعتبر الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 أرضاً محتلة مخصصة لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن اتفاقيات أوسلو. وقد أكدت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية، في قرارها الصادر في 5 فبراير 2002، هذا الحق لجميع الأراضي المحتلة. منذ عام 2005، عندما سحبت إسرائيل قواتها ومستوطنيها من قطاع غزة، تحول ثقل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى قطاع غزة (الجولات العسكرية: 2008/2009، 2012، 2014، 2018، 2021، 2023). واستخدمت إسرائيل فك الارتباط هذا لتبرير سياستها المتمثلة في فرض العقوبات، مثل قطع الكهرباء، مهاجمة البنية التحتية أو فرض حصار بحري. ونظرا لصعوبة رصد آثار الدمار الذي سببه القصف الإسرائيلي لغزة، نظرا لأن حرب الإبادة الجماعية لا تزال مستمرة، فإن هذه الورقة ستتناول أولا القصف الإسرائيلي في سياق استراتيجية إسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، و ثم ننتقل إلى الجوانب القانونية للأضرار البيئية الناجمة عن حرب الإبادة الجماعية على غزة، سواء كان هذا الضرر يندرج ضمن تعريف جريمة الحرب أو الإبادة البيئية، وسواء كان من الممكن تبريره على أساس الضرورة العسكرية، وما هي مسؤوليات الدولة والأفراد. القصف الإسرائيلي وآثاره على البيئة الفلسطينية في قطاع غزة
في التعامل مع مسألة القصف نجد من يهتمون به من وجهة نظر عقلانية ومفيدة – كيف يؤثر القصف على الدعم الشعبي لحركة المقاومة –، ومن ناحية أخرى، كما نجد مهتمين بالجانب الهيكلي للعنف، والذي يمكن تناوله من خلال استراتيجية دولة الاحتلال تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. وفي رأي الكاتب أن القصف الإسرائيلي المحموم لا يمكن فهمه إلا من خلال وضعه ضمن الاستراتيجية العسكرية لقوة الاحتلال تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة. الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية يعتقد بعض الخبراء الإسرائيليين أن الصراع لا يمكن حله، وبالتالي يجب التركيز على تدبيره. في حين أن مصطلح “conflict” (النزاع) يعني المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فمن الواضح أن تركيز مفهوم “conflict Management” (تدبير النزاع) ينصب في المقام الأول على سياسات الهيمنة الإسرائيلية وعدم التماثل والاستعمار، والتي أدت إلى قتل الفلسطينيين وتهجيرهم القسري و تدمير ممتلكاتهم. على عكس الفكرة الشائعة القائلة بأن مفهوم “تدبير النزاع ” كاستراتيجية ظهر في عام 1993 أثناء عملية السلام كنهج بديل لنموذج حل الدولتين، ويقول عمر زناني من جامعة تل أبيب إن إدارة الصراع كانت النهج المفضل للقادة الإسرائيليين منذ عام 1967، حيث اعتبره خيارا أفضل من إيجاد حل، مميزا بين إدارة الصراع المؤقتة والدائمة في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. قبل حكومة بنيامين نتنياهو عام 2009، كان النزاع يدبر في انتظار التوصل إلى حل سياسي. ولكن بعد عام 2009، أصبح تدبير النزاع استراتيجية طويلة المدى. واعتقد زاناني أن هذا التحول يعكس مزيج الأمن والأيديولوجية في حكومة نتنياهو منذ عام 2009. وما تغير مع حكومة نتنياهو الحالية هو أنه بسبب النفوذ السياسي لحلفائه اليمينيين المتطرفين، فإن الإيديولوجية تسود على الأمن. يُستخدم خطاب إسرائيل الكبرى لتبرير وتقديس الوضع الراهن. لم يعد يتم ذكر السلام الاقتصادي والتعاون مع السلطة الفلسطينية، وينصب التركيز على الاستيطان العدواني في الضفة الغربية واستخدام القوة العسكرية من خلال “جز العشب”. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى الضغط على الفلسطينيين وضمان التفوق اليهودي من خلال الاستعمار واسع النطاق، وفي الوقت نفسه تطبيع العلاقات مع الدول العربية على حساب الفلسطينيين. ضمن رؤية إدارة الصراع، يتم استخدام القوة العسكرية ويشار إليها باسم “جز العشب” هذه العبارة هي إضافة جديدة إلى المفردات الاستراتيجية لإسرائيل وتعكس الاعتقاد بأن إسرائيل منخرطة في صراع مستمر وصعب مع كيان غير حكومي. إن استخدام القوة لا يهدف إلى تحقيق أهداف بعيدة المنال، بل إلى الحد من قدرة العدو على إيذاء إسرائيل. وهذا الوضع يختلف كثيرا عن الصراع بين الدول. من الصعب للغاية تغيير سلوك الجهات الفاعلة غير الحكومية، لذا فإن الهدف الأساسي لإسرائيل هو تحقيق الردع المؤقت. إن استراتيجية “جز العشب“ هي نهج يشمل بعض التكتيكات التقليدية لإسرائيل مثل الضربات الاستباقية والانتقام. وقد تم تطبيق هذا النهج في العديد من العمليات العسكرية مثل عملية السياج الدفاعي في الضفة الغربية عام 2002، وحرب لبنان الثانية عام 2006، وعملية الرصاص المصبوب في غزة عام 2008–2009، عملية عمود السحاب في غزة عام 2012 حتى عملية السيوف الحديدية منذ أكتوبر 2023. ومن المفارقات أن هذا النهج يمكن اعتباره انعكاسًا لاستراتيجية مقاومة االمنظمات الفلسطينية. لا يقدم نهج “جز العشب” أي حل دائم وبالتالي تظل إمكانية حدوث صراعات مستقبلية قائمة. إن حرب الإبادة الجماعية الحالية هي رد على تدمير الردع المؤقت في 7 أكتوبر على يد حماس والفصائل الفلسطينية. هذه المرة، تتخذ هذه الاستراتيجية اتجاها جذريا فيما يتعلق بالقضاء على قدرات حماس العسكرية والإدارية في قطاع غزة، بما يتجاوز الغارات والتوغلات في المدن والقرى والأحياء الفلسطينية في الضفة الغربية، والجولات العسكرية المتعاقبة السابقة في قطاع غزة. ويقول عازار جات، خبير الأمن القومي (جامعة تل أبيب)، في مراجعته للنقاش حول أهداف الحرب والاستراتيجية التي سيتم اعتمادها، إن الهدف المعلن هو تدمير قدرات حماس كسلطة وقوة عسكرية في غزة، وهو ما يتطلب حلاً مشابهاً للحل الذي يمثله غزو الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2002 بعد الانتفاضة الثانية في عهد حكومة أرييل شارون؛ أي أنه يتطلب قتالاً شديد الحدة حتى يتمكن الجيش بعد ذلك من تنفيذ عمليات منخفضة الحدة. ما يؤيده هو تجذير لعملية “جز العشب” ومواصلة نفس النهج من خلال تبني فكرة ” قيادة فلسطينية جديدة“ دون دخول أي قوات تابعة للأمم المتحدة أو القوات العربية لأنها ستعيق حرية إسرائيل في العمل في قطاع غزة كما هو الحال في الضفة الغربية. وما يقترحه هو استمرار لنموذج أوسلو وتدبير النزاع. إن الحديث عن سلطة فلسطينية جديدة ليس أكثر من الحفاظ على نفس النموذج لتدبير النزاع وتحويل غزة إلى دولة مشابهة للضفة الغربية بعد غزو عام 2002، أي الحفاظ على حرية عمل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.. ووفقا لما كتبه يوئيل زنجر، المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية وأحد مهندسي اتفاقيات أوسلو، في مقال نشر مؤخرا في صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن أحد أسباب رفض نظام الوصاية هو أنه يتعارض مع التنسيق بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية في مكافحة الإرهاب (التنسيق الأمني). ولذلك فإن إسرائيل ستعارض نشر القوات الدولية أو القوات العربية الخليجية في قطاع غزة بعد حرب الإبادة، لأن ذلك من شأنه أن يعيق حريتها في العمل وفق استراتيجية “جز العشب”. وتجدر الإشارة إلى أن اتفاقيات أوسلو لعام 1993–1995 وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة عام 2005 ليست سوى شكل مختلف من هذه الاستراتيجية. الاغتيال الجماعي لأهالي غزة إن العنف المفرط المستخدم ضد غزة منذ 7 أكتوبر يشمل الحصار والمجاعة ومستوى غير مسبوق من القصف المستمر والمكثف. في هذا القصف المستمر، تستخدم إسرائيل “القنابل الغلبة”(Dumb Bombs) والقنابل الخارقه للتحصينات (Bunker Buster Bombs) التي يصل وزنها إلى الفي رطل. وهذا ما يفسر مستوى الدمار الذي لحق بالأحياء السكنية والمباني والبنية التحتية في قطاع غزة. وبعد ثلاثة أشهر من الحرب، تم تدمير عدد كبير من المنازل والمباني قطاع غزة . 18 كما تستخدم إسرائيل الفسفور الأبيض، وهو سلاح لا يخضع لاتفاقية الأسلحة الكيميائية لأنه ليس مصمما للتسبب في الموت بل لإخفاء حركة الجنود أو كستار من الدخان ل تمويه الأهداف. وبطبيعة الحال، لا ينبغي استخدام الفوسفور كسلاح في المناطق المأهولة بالسكان، لأنه يسبب حروقا شديدة وله آثار طويلة الأمد على المدنيين. إن استخدام الفسفور الأبيض ضد المدنيين يتعارض مع القانون الإنساني الدولي، الذي يتطلب من الدول اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب إصابة المدنيين والخسائر في الأرواح. ذكرت منظمة العفو الدولية أن السلطة القائمة بالاحتلال لا تهتم بحياة المدنيين الفلسطينيين حيث دمرت الأحياء، شارعًا بعد شارع، وخربت البنية التحتية مع كل العواقب الكارثية على حياة الفلسطينيين – قطع الكهرباء والاتصالات ومراكز الرعاية الصحية والمستشفيات، وخاصة الحصول على المياه النظيفة والصالحة للشرب. ويدعم ذلك شهادات أفراد المخابرات العسكرية الإسرائيلية التي تم جمعها أفادت بأن هناك تساهلاً في إطلاق النار على أهداف غير عسكرية واستخدام نظام الذكاء الاصطناعي لتوسيع نطاق الأهداف المحتملة أكثر من أي وقت مضى، وهو ما تجلى في الطبيعة التدميرية للمراحل الأولى من الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة. يصف أفراد المخابرات العسكرية الإسرائيلية الحرب بأنها “مصنع اغتيال جماعي”: يمكن تقسيم الأهداف في غزة التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية تقريبًا إلى أربع فئات: الفئة الأولى هي “أهداف تكتيكية،” وتشمل أهدافًا عسكرية نموذجية مثل الخلايا المسلحة، ومستودعات الأسلحة، وقاذفات الصواريخ، وقاذفات الصواريخ المضادة للدبابات، وحفر الإطلاق، وقنابل الهاون، والمقرات العسكرية، ومراكز المراقبة، إلخ .. الفئة الثانية تشمل “أهداف تحت الأرض،” في المقام الأول الأنفاق التي حفرتها حماس تحت أحياء غزة، بما في ذلك تحت منازل المدنيين. يمكن أن تؤدي الغارات الجوية على هذه الأهداف إلى انهيار المنازل فوق الأنفاق أو بالقرب منها. الفئة الثالثة هي “أهداف الطاقة،” والتي تشمل الأبراج الشاهقة والأبراج السكنية في قلب المدن، والمباني العامة مثل الجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية. الفكرة وراء ضرب مثل هذه الأهداف، كما تقول ثلاثة مصادر استخباراتية شاركت في التخطيط أو تنفيذ ضربات على أهداف الطاقة في الماضي، هي أن الهجوم المتعمد على المجتمع الفلسطيني سيمارس “ضغوطا مدنية على حماس”. الفئة الأخيرة هي “منازل العائلات” (Family Homes) أو “المنازل العملياتية“ Operative)’ homes). والغرض المعلن من هذه الهجمات هو تدمير المساكن الخاصة من أجل اغتيال أحد السكان المشتبه في أنه ناشط في حماس أو الجهاد الإسلامي. لكن في الحرب الحالية، تؤكد شهادات فلسطينية أن بعض العائلات التي قُتلت لم يكن من بينها أي نشطاء من هذه المنظمات. ولا يمكن تجاهل تصريحات القادة العسكريين الإسرائيليين، مثل رئيس مجلس الأمن القومي السابق جيورا إرليند، حول تحويل غزة إلى مكان غير صالح للعيش، أو كون المجاعة وتفشي الأمراض من بين أهداف الحرب. إن القضاء على جيل معين من الفلسطينيين يضمن عقداً أو عقدين من الهدوء لدولة الاحتلال. جادل مؤرخ القصف الجوي، روبرت بيب، بأن هذه الحملة، بأي تعريف، تعتبر عملاً ضخمًا من أعمال العقاب الجماعي ضد المدنيين”. وفي محنة شعب غزة، يجب علينا أن ننظر في التأثير المباشر دون إغفال تأثير الحرب على ضحايا الإبادة الجماعية المتصاعدة بسبب التلوث الناجم عن استخدام الأسلحة المتفجرة والكيميائية. تطلق المتفجرات ملوثات مثل اليورانيوم المنضب في التربة، في حين يمكن تدمير المناظر الطبيعية بسبب تحركات القوات وانهيار البنية التحتية. واعترف تقرير صدر عام 2019 عن معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان والعراق والكويت وباكستان بتأثيرها الخطير على البيئات الطبيعية لهذه البلدان وصحة المدنيين والجنود. توفي 432.093 مدنيًا بسبب أعمال العنف كنتيجة مباشرة لحروب ما بعد 11 سبتمبر في الولايات المتحدة. مات ما يقدر بنحو 3.6–3.8 مليون شخص بشكل غير مباشر في مناطق ما بعد حرب 11 سبتمبر، ليصل إجمالي عدد القتلى إلى 4.5–4.7 مليون على الأقل وما زال العدد في ازدياد. ولابد من تقديم استخدام إسرائيل للأسلحة المثيرة للجدل مثل الفسفور الأبيض، والتي يمكن أن تلوث التربة والمياه والحياة البرية، إلى العدالة. إمكانات القانون الدولي للبيئة والصراعات في مواجهة الجرائم البيئية سوف يتناول الكاتب في هذا الجزء ثلاث نقاط: البيئة والصراع في القانون الدولي، الإطار القانوني للإبادة البيئية في غزة. ولم يبدأ من قانون استخدام القوة (قانون إعلان بيلوم) لأن غزة تحت الاحتلال الحربي وليس من المنطقي الحديث عن حق الدفاع عن النفس مثلا، بل التركيز على الأنشطة الحربية (قانون الحرب) ضمن قانون الاحتلال الحربي، وأخيرا مفهوم الضرورة العسكرية وكيف تؤثر في تحديد الجريمة البيئية وما هي المسؤولية التي تنشأ عن هذه الجريمة. البيئة والصراع في القانون الدولي كما ذكرنا سابقًا، أدت حرب فيتنام إلى الاهتمام بالبيئة في سياق الصراع، وقد انعكس ذلك في اتفاقية حظر الاستخدام العسكري أو أي استخدام عدائي آخر لتقنيات التعديل البيئي (ENMOD) لعام 1976. وكانت هذه الاتفاقية هي الخطوة الأولى في ربط البيئة بقانون النزاعات، وكانت تهتم في المقام الأول بعدم استخدام البيئة في تقنيات العمل العسكري. وكان البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 خطوة رئيسية في دمج البيئة في قانون النزاعات. تحظر المادة 35 “استخدام أساليب أو وسائل الحرب التي تهدف، أو من المتوقع، أن تسبب أضرارا جسيمة وواسعة النطاق وطويلة الأجل للبيئة.” وتنص المادة 55 على ذلك. يجب الحرص في الحرب على حماية البيئة الطبيعية من الأضرار الجسيمة والواسعة النطاق وطويلة الأمد. وتشمل هذه الحماية حظر استخدام وسائل أو أساليب الحرب التي يقصد بها أو من المتوقع أن تسبب ضررا للبيئة الطبيعية أو من المتوقع أن تسبب مثل هذا الضرر للبيئة الطبيعية وبالتالي تضر بصحة السكان أو بقائهم على قيد الحياة. كما تحظر هذه المادة الاعتداءات على البيئة الطبيعية لغرض الانتقام. في العقد الماضي، تم اتخاذ العديد من المبادرات لحماية البيئة في الصراعات، كما يتضح من تقرير الصليب الأحمر والهلال الأحمر لعام 2015 حول القانون الإنساني الدولي وتحديات الصراع المعاصر. في هذا التقرير، لا تقتصر الأضرار التي تلحق البيئة المأهولة وتأثير الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان على القتل والجرح، بل تمتد إلى التأثير الشديد على حياة الناس من خلال الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والضائقة النفسية. لقد ثبت أن الهجمات على المناطق السكنية تدمر البنية التحتية الحيوية لرفاهية المدنيين وبقائهم على قيد الحياة، مثل المنازل ومحطات الطاقة وأنابيب المياه والمدارس والمستشفيات، مما يؤدي إلى النزوح وتعطيل التعليم وفقدان الرعاية الصحية. ليس هناك شك في أن الحرب في المناطق المأهولة بالسكان هي حالة يمكن فيها وصف الأسلحة المتفجرة التي يمكن استخدامها بشكل قانوني في ظروف أخرى، مثل ساحة المعركة المفتوحة، بأنها ‘عشوائية، كما جاء في نفس المادة. في عام 2020، وضعت اللجنة الدولية “مبادئ توجيهية لحماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة،” تميز بين الحماية الخاصة للبيئة، المنصوص عليها في مواد البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، والحماية العامة، التي توفرها المبادئ العامة للقانون الإنساني الدولي مثل مبدأ التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية والامتناع عن استهداف المرافق ذات الأهمية للسكان المدنيين. وشددت هذه المبادئ التوجيهية على تدابير الحماية الثالثة المرتبطة بأسلحة محددة، مثل حظر استخدام الأسلحة الحارقة. وجاء هذا الجهد للتغطية على الفشل في اعتماد اتفاقية جنيف الخامسة لحماية البيئة. أما لجنة القانون الدولي، فقد قدمت حتى عام 2022 مشاريع مواد بشأن حماية البيئة في حالات النزاع. في هذه المسودة، لم يعد هناك تركيز على مصطلح البيئة الطبيعية، بل على البيئة والتي تشمل البيئة البشرية والسكنية وكذلك النباتات والحيوانات. الإطار القانوني للصراع في غزة وذكر الأمين العام للأمم المتحدة أن أحداث 7 أكتوبر 2023 لم تحدث من فراغ، مشيراً إلى أن هذه الأحداث يجب أن توضع في سياق الصراع بين الشعب الفلسطيني وقوة الاحتلال. ولا يمكن فصل هذه الأحداث عن طبيعة الصراع، والاحتلال صراع دولي وفقا للبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977. الاحتلال الإسرائيلي هو “حرب مستمرة ضد مجال الحياة الفلسطينية،” كما يؤكد جون كولينز، الذي يستخدم كتابات المفكر الفرنسي بول فيريليو لقراءة الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. في عام 2007، قررت الحكومة الإسرائيلية إعلان غزة كيانًا معاديًا، مما يسمح لها بفرض عقوبات مثل قطع الكهرباء، أو ضرب البنية التحتية، أو فرض حصار بحري. في نظر القيادة الإسرائيلية، لم يعد هناك احتلال في قطاع غزة، ومنذ عام 2007 كان هناك صراع مسلح بين إسرائيل وغزة. وأعربت روث لابيدوت، إحدى أشهر الباحثين الدوليين في إسرائيل، عن الموقف الإسرائيلي المتمثل في أن الصراع بين إسرائيل وغزة هو صراع مسلح، وليس احتلالا، لأن الاحتلال يتطلب وجود قوات مسلحة في الإقليم. هنا، يتم تفسير “السيطرة الفعالة (المادة 42 من اتفاقية لاهاي الرابعة) على أنها تعني القوات على الأرض. وهذا أيضًا هو التفسير الذي اعتمدته المحكمة العليا الإسرائيلية في بسيوني ضد رئيس الوزراء: “لا تتمتع إسرائيل بالسيطرة الفعالة أو حتى القدرة الفعالة على فرض النظام أو إدارة الحياة المدنية في غزة.” وبما أن إسرائيل ليست قوة احتلال، فليس عليها أي التزامات بموجب اتفاقية جنيف والبروتوكول الإضافي الأول لتوفير وتلبية احتياجات السكان المدنيين من الرعاية الصحية والتعليم وصيانة البنية التحتية، إلخ… ووفقا للموقف الإسرائيلي، فإن ما يحدث بالفعل في غزة حصار وليس احتلالا، والتزامات إسرائيل في حالة الحصار تأخذ شكلاً سلبياً بمعنى أنه يجب عليها الامتناع عن الممارسات التي قد تضر بالسكان المدنيين في غزة. هذا الموقف غير مقبول وقابل للطعن لأنه يمكن تطبيق السيطرة الفعالة بموجب المادة 42 لأن إسرائيل لديها سيطرة فعالة على الدخول والخروج من قطاع غزة، وعلى المياه الإقليمية، وعلى المجال الجوي. بالإضافة إلى ذلك، فهي تسيطر أيضًا على البنية التحتية من حيث المياه والكهرباء والبنزين والصادرات والواردات وترددات الراديو والتلفزيون، إلخظ.. لكن الشيء الأكثر أهمية هو استمرارية الاحتلال الإسرائيلي، وبشكل أكثر تحديدًا، استمرارية العمليات العسكرية. إن تكرار العمليات العسكرية هو تأكيد لاتفاقية لاهاي التي تنص على أن دولة الاحتلال تحتفظ بحق التدخل عسكريا، لذا فإن نهاية الاحتلال هنا يجب أن تعني نهاية العمليات العسكرية. وباختصار، العمليات العسكرية المتعاقبة دليل على استمرار احتلال غزة. الإبادة البيئية والضرورة الأمنية والمسؤولية وفقا للمادة 8 (2) (ب) (4) من اتفاقية روما لعام 1998: يجرم شن هجوم عمدا مع العلم أن مثل هذا الهجوم سيتسبب في خسائر عرضية في الأرواح، أو إصابات للمدنيين، أو أضرار للمدنيين، أو أضرار جسيمة وواسعة النطاق وطويلة الأجل للبيئة الطبيعية والتي من الواضح أنها مفرطة مقارنة بالعامة الملموسة والمباشرة الميزة المتوقعة. يجب أن يستند تحديد الجريمة البيئية كجريمة حرب إلى ما تحدده مواد البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 (الفقرة 3 من المادة 35 والمادة 55) فيما يتعلق بمستوى معين من الضرر البيئي، إذا كان واسع النطاق وطويل الأمد. وهذا ما حاول التأكيد عليه التقرير الذي أعده المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بعد قصف قوات حلف شمال الأطلسي ليوغوسلافيا عام 1999. وقد تم نشر التقرير، ولكن لم يتم الكشف عن فريق الخبراء الذي قام بصياغته. وأهم استنتاج توصل إليه فريق الخبراء هذا هو أنه يعتبر حماية البيئة جزء من حماية السكان المدنيين. وتبنى التقرير موقفا خجولا تجاه الصراعات غير المتكافئة أو المنخفضة الحدة التي تهدف إلى ترسيخ عدم المساواة من خلال ضرب البنية التحتية والمرافق العامة والمستشفيات، وممارسة الموت البطيء. تهدف الغارات الجوية عالية الدقة إلى قتل عدد قليل، ولكنها تؤدي إلى إصابة الكثيرين، ومع تدمير المرافق الحيوية تجعل الموت في كل مكان غير مرئي، ولا يتم تضمينها في إحصائيات ضحايا الضربات العسكرية. إذا نظرنا إلى الوراء، نرى أنه في ردود الفعل الأكاديمية والعامة على الجرائم البيئية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام في أوائل السبعينيات، تم الترويج لمفهوم الإبادة البيئية” (ecocide) بواسطة مايكل شميت. لكن هذا المفهوم تم تهميشه لصالح البيئة باعتباره جريمة حرب. في ضوء ما يحدث في غزة، يمكن التعامل مع الجريمة البيئية على أنها جريمة إبادة بمعنى جريمة ضد الإنسانية، حيث أن “إبادة” تشمل الفرض المتعمد للظروف المعيشية، بما في ذلك الحرمان من الحصول على الغذاء والدواء، بقصد تدمير جزء من السكان (المادة 7 (2) (ب)). ومع ذلك، فمن الممكن العودة إلى المفهوم الواسع للإبادة الجماعية كما اقترحه رافائيل ليمكين، والذي يتضمن أكثر من مجرد التدمير المادي لمجموعة معينة ولكنه يشمل أيضًا الجوانب الاجتماعية والثقافية وغيرها. وفي قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر 2023، أصدرت محكمة العدل الدولية عدة أوامر مؤقتة، ويمكن قول ما يلي عن هذه القرارات: أولاً، رغم الأمر المؤقت الصادر في 26 يناير 2024,استندت إلى أحداث 7 أكتوبر 2023، ولم تستخدم هذه الأحداث كإطار تفسيري لانتهاكات القانون الدولي. وكان القرار أحادي الجانب، بمعنى أنه ركز على الجانب الإسرائيلي وممارساته، التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها تشكل إبادة جماعية. ثانيا، بالإضافة إلى ضرورة اتخاذ تدابير لمنع قتل الفلسطينيين أو إلحاق الأذى الجسدي والنفسي بهم، طالبت المحكمة إسرائيل بالامتناع عن فرض شروط حياة تهدف إلى التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة. وأشارت محكمة العدل الدولية، في أمرها المؤقت الصادر في 28 مارس 2024، إلى أن أوضاع المجموعة الفلسطينية، التي وصفتها بالكارثية، قد تدهورت أكثر. وأخيرا، طالبت محكمة العدل الدولية، في أمرها المؤقت الصادر في 22 ماي 2024، بوقف العملية العسكرية في رفح واعتبرتها ذات خطورة استثنائية، لأنها تنطوي على النقل القسري المتكرر لمجموعة ضعيفة إلى منطقة غير آمنة، منطقة مواسي غرب رفح، التي تفتقر إلى البنية التحتية وتتميز بالرمال والقمامة. النقطة الثانية هي نقطة موضوعية ويمكن أن تستفيد من الدراسات الاجتماعية للإبادة الجماعية، والتي، استنادا إلى تحليلات رافائيل ليمكين، تدعم أن الإبادة البيئية يمكن أن تكون أسلوب إبادة جماعية عندما يتم تدمير البيئة بهدف خلق الظروف التي تهدد الوجود المادي لمجموعة عرقية أو قومية أو عنصرية أو دينية. وتشمل جريمة الإبادة البيئية نية جعل غزة غير صالحة للسكن أو مكان يسود فيه الجوع وتفشي الأمراض وأعمال مثل الحصار. وبالنظر إلى موقف محكمة العدل الدولية، فمن المتوقع أن تتخذ موقفا حذرا بشأن الإبادة الجماعية البيئية بسبب المفهوم الضيق لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، التي تركز على الإبادة الجماعية المادية والبيولوجية. على أية حال، لا يمكن التقليل من أهمية الالتزام الأخلاقي للمجتمع الدولي، كما يتضح من العريضة عبر الأطلسي التي وقعها 800 مسؤول من الحكومات الغربية، وخاصة الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، والتي تدعو حكوماتهم إلى العمل من أجل وقف إطلاق النار في غزة. وأكدوا أن دعم إسرائيل في حربها على غزة، التي وصفوها بأنها ليس لها حدود ولا احترام للقانون الدولي، يمثل تراجعا أخلاقيا للموقف الغربي ويؤثر على موقف هذه الدول في النظام الدولي. واعتبرت محكمة اتحادية أمريكية في كاليفورنيا بتاريخ 13 نوفمبر 2002 أن الحملة العسكرية ضد غزة تهدف إلى اقتلاع شعب بأكمله وتنطوي على خطر الإبادة الجماعية، وشددت على أنه من واجب كل فرد مواجهة حصار غزة، ومن هذا المنظور الأخلاقي طلب من الإدارة الأمريكية التفكير في عواقب دعمها المفرط لسياسة الحصار على قطاع غزة. وهذا الجانب الأخلاقي يقع في قلب مفهوم الإبادة البيئية، الذي يركز على ضرورة تفكيك هياكل الهيمنة والاستعمار. أما بالنسبة للضرورة العسكرية، فقد نظرت محكمة العدل الدولية في مشروعية أو عدم مشروعية الأسلحة النووية في قرارها الصادر عام 1996: احترام البيئة جزء من تقييم ما إذا كان العمل العسكري متناسبًا ومتسقًا مع الضرورة العسكرية (الفقرة. 30). وإذا لم يكن تدمير المدن والقرى مبررا بالضرورة الأمنية، فإنه يعتبر جريمة دولية. ويشير روبرت كولب إلى أن مبدأ الضرورة العسكرية ومبدأ الإنسانية هما المبدآن التوجيهيان للقانون الدولي الإنساني. ويرى أن مفهوم الضرورة العسكرية غير واضح، بما في ذلك الجوانب القانونية والسياسية. وفي الحالة الإسرائيلية، يُستخدم مبدأ الضرورة العسكرية على نطاق واسع على حساب مبدأ الإنسانية وحماية السكان المدنيين، حتى أنه يفرغ القانون الدولي الإنساني من محتواه المعياري. وقد يستند هذا التركيز على الضرورة العسكرية إلى خطاب عنصري يقدم الصراع على أنه صراع بين الديمقراطية والإرهاب. وهذا ما نسمعه في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت، اللذين يقولان إنه لا يوجد شيء أكثر أخلاقية من هذه الحرب، ويشيران ضمناً إلى أن هذه الحرب هي فقط لأنها دولة ديمقراطية ضد الجماعات الإرهابية. وفي قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن مسألة التعذيب (9018/17، بتاريخ 24 أكتوبر 2018)، تم توسيع الضرورة العسكرية لتشمل كل عمل أو ممارسة إسرائيلية في النزاع. وهو ما دفع لجنة مناهضة التعذيب الإسرائيلية إلى تقديم شكاية ضد الدولة الإسرائيلية أمام المحكمة الجنائية الدولية لأنها لم تعد ترى أي فائدة من الذهاب إلى المحكمة العليا الإسرائيلية. إن الذين يؤكدون على الضرورة العسكرية في غزة يعتبرون الحرب مبررة، ولا يرون الكارثة الإنسانية التي تحدث، لأن هذه الضرورة تتطلب أيضاً غزو رفح. وأخيرا، تتحمل الدول المسؤولية إذا انتهكت قواعد قانون النزاع ويجب عليها تقديم الجبر الكامل (اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 (المادة 31)). ومع ذلك، مع تطور القانون الجنائي الدولي في عمل محكمة نورمبرغ في عام 1945، أصبحت المسؤولية فردية. وفي سبتمبر/أيلول 2018، أكد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية اختصاص المحكمة في القضايا البيئية، وهو ما يفتح بالطبع الباب أمام الملاحقات القضائية على انتهاكات البيئة الفلسطينية من قبل أعضاء قيادة دولة الاحتلال الإسرائيلي وجيشها. إن اعتبار أن القانون الجنائي لا ينطبق إلا على الأفراد يحجب البعد الجماعي للجرائم الدولية التي تنطوي على عمل جماعي ومسؤولية جماعية. الجرائم الدولية، بما في ذلك الجرائم البيئية، هي جرائم فردية مرتبطة بالذنب الأخلاقي الجماعي. ويبدو أن مبدأ “الملوث يدفع ” الذي وضعته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والذي تم تأكيده في المبدأ 16 من إعلان ريو لعام 1992، والمشار إليه في اتفاقية ستوكهولم، متسق مع النهج الليبرالي والفردي في التعامل مع القانون الجنائي. ولذلك فهو غير قابل للتطبيق فيما يتعلق بالدولة. ولكن من وجهة نظري فإن معنى هذا المبدأ يمكن أن يمتد إلى ما هو أبعد من الفرد ليشمل القطاع الصناعي ومجتمع دولة الاحتلال. الأفعال الفردية لا تحدث في الفراغ؛ إنها جزء من عمل جماعي. ويعتقد كاتب هذا التقرير أن استخدام أندريه نولكايمبر لمفهوم “الجريمة النظامية” المتداول مناسب جدا هنا. وهذا يعني أن “الحكومات تأمر أو تشجع أو تحرض أو تتسامح مع ارتكاب الجرائم”. إن ارتكاب الجرائم “يخدم النظام وينتج عن النظام”. ما يصفه أندريه نولكايمبر بالمناخ المعياري “للنظام” يعني إذنًا واسع النطاق لارتكاب أعمال عنف أو التحريض عليها من خلال الدعاية وتجريد الضحية الأخرى من إنسانيتها. يميز مؤلف “المسؤولية ذات التأثيرات النظامية” بين المسؤولية الفردية في حالة انتهاء الصراع، وفي الحالة التي يكون فيها الصراع مستمرًا. وفي الحالة الأخيرة، تكون التأثيرات النظامية للمسؤولية الفردية أكثر أهمية. وما نراه هو ظهور نظرية لصالح العلاقة التكاملية بين شكلي المسؤولية في الجرائم البيئية. ومثل أندريه نولكايمبر، أعتقد أنه لا يوجد بديل للمسؤولية الفردية وأنه ينبغي التعامل معها كعقاب ضد المجموعة وكجزء من سياسة التعويض. والجديد في عملية الانتقال من اتفاقيات جنيف لعام 1949 إلى اتفاقية روما لعام 1998 هو أن الأفراد لم يعد بوسعهم الاختباء خلف واجهة المسؤولية الجماعية للدولة. خاتمة ما قيل أعلاه يقود الكاتب إلى الاستنتاجات التالية: كما انعكس الاهتمام بحماية البيئة في الفترة الأخيرة في قبول موقف اتفاقية التعديل البيئي لعام 1976 بمعنى أن الضرر البيئي لا ينبغي أن يكون له عتبة عالية كما هو منصوص عليه في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، وهذا ما نراه على سبيل المثال مع الإعلان السياسي لاستخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق السكنية سنة 2022. إن ما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، يدل على إرادة إسرائيلية لجعل الأضرار البيئية في غزة طويلة الأمد وواسعة النطاق وشديدة (خطاب تحويل غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش أو منطقة للأوبئة والأمراض)، وهو ما يقع ضمن تعريف جريمة الإبادة الجماعية بمعنى القتل والتهجير القسري ولكن أيضًا بمعنى التدمير البيئي وبطء وتيرة الإبادة. إن تدمير البنية التحتية والأحياء والمباني والمستشفيات له آثار كارثية على استمرارية الحياة الفلسطينية في غزة. إن إساءة استخدام مبدإ الضرورة العسكرية من قبل القيادة الإسرائيلية يجب أن تثير تساؤلات حول الضرر الذي يمثله هذا الانتهاك للقانون الإنساني الدولي. كما قد يكون من الضروري عدم مراعاة الضرورة العسكرية في المناطق المأهولة بالسكان، إذ تشير البيانات إلى أن نسبة الضحايا المدنيين بلغت أكثر من 91٪. وفي ما يتعلق بالمسؤولية عن الأضرار البيئية، فقد تم تقديمها في بداية القرن العشرين كمسؤولية جماعية ويجب على الدولة التعويض عنها، ولكن النهج الفردي الذي يمثله القانون الجنائي الدولي لا ينبغي أن يفهم على أنه تناقض مع المسؤولية الجماعية. المسؤولية الفردية هي جزء من المسؤولية الجماعية وفقًا لوجهة النظر “النظامية ” للمسؤولية لأن إجرام الأفراد هو جزء من إجرام الدولة (الخطاب الأيديولوجي العنصري والتحريض ضد “الإرهابي” الفلسطيني).
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء رفيع المستوى بين المغرب وإسبانيا: توقيع 14 اتفاقية تعاو
...
-
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.. ما قبل المؤتمر الوطني الساب
...
-
ما زال التوتر بين امريكا وفنزويلا مستمرا.. هل اقتربت ساعة ال
...
-
تقرير المخاطر العالمية لعام 2025 ينبه القارة السوداء إلى خمس
...
-
الدار البيضاء-سطات: الثقافة في صميم تطلعات الشباب
-
الرباط: تقرير شامل حول المائدة المستديرة التي نظمتها منظمة (
...
-
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تنظم مؤتمرها الوطني السابع تح
...
-
مقاربة حكومية جديدة من أجل إعادة إدماج الأطفال المشردين والم
...
-
سوريا: احتجاجات في المناطق العلوية بعد أعمال عنف ضد هذه الطا
...
-
المهداوي يُثير فضيحة هزت الأوساط الإعلامية والسياسية والحقوق
...
-
فرنسا تستعد لفرض الخدمة العسكرية التطوعية وسط جدل أثاره رئيس
...
-
هشام الدگيگ: “نعمل على أن نكون أبطال العالم” في كرة الصالات
-
المحاولات السيزيفية التي قامت بها النقابات الأكثر تمثيلية من
...
-
أوكرانيا: خطة ترامب ستُناقش في سويسرا
-
اللطف والتعاطف في علم النفس التحليلي لكارل غوستاف يونغ
-
النائب العام للملك يصدر دورية حول المقتضيات الجديدة في قانون
...
-
ثلوج وأمطار أنعشت الأمل في موسم فلاحي خصب وشجعت وزارة الفلاح
...
-
الشباب المغاربة يشعرون اليوم بضغوط لتحقيق النجاح أكثر من آبا
...
-
مراكش: الأستاذ محمد الغلوسي ينجح في إقناع المواطن المعتصم فو
...
-
اليونسكو والاحتفال باليوم العالمي للفلسفة
المزيد.....
-
أربع دول أوروبية تعلن مقاطعة مسابقة يوروفيجن بعد السماح باست
...
-
عندما تتحول المفارقة الإيديولوجية إلى أداة للسخرية السياسية!
...
-
قصف إسرائيلي على ريفي درعا والقنيطرة في سوريا
-
مصر.. تشكيل لجنة -عاجلة- للتحقق من -رصد- تماسيح بمحافظة الشر
...
-
خروقات إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة
-
من رومان غوفمان المرشح الجديد لرئاسة الموساد؟
-
المرحلة الثانية من اتفاق غزة للسلام.. -إعلان وشيك- لترامب
-
بوتين يطلق مزحة عند سؤاله عن اجتماعه مع مبعوثي ترامب
-
مع تعثر فرص الاتفاق بين الجانبين… ما سرّ الـ200 مليون دولار
...
-
كأس العرب.. الوطن والمنتخب مقابل جواز السفر
المزيد.....
-
مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني
/ غازي الصوراني
-
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي
...
/ غازي الصوراني
-
بصدد دولة إسرائيل الكبرى
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل
/ سعيد مضيه
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
المزيد.....
|