علي جميل هلال
الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 02:25
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
تشير الحالات التي تظهر داخل الأقسام الفنية في معهد الفنون الجميلة إلى وجود مشكلات تربوية عميقة ترتبط ببنية المجتمع العراقي المعاصر، وبالتحولات الاجتماعية والقانونية التي أصابت الأسرة، وبالتغيرات الثقافية التي يمر بها جيل Z، إضافة إلى فجوة معرفية واسعة تسببت بها سياسات الدولة ومميزات الكليات الاهلية التي تسمح بدراسة المجموعات الطبية والهندسية والتكنولوجية بمعدلات اقل من معدلات الجامعات الحكومية ، وهذه ما دفعت الطلاب دفعا نحو التخصصات العلمية وأهملت العلوم الإنسانية التي تُعدّ الحقل الأول لفهم السلوك البشري. إن هذه العوامل مجتمعة أسهمت في خلق بيئة نفسية مضطربة يعيشها الطالب داخل البيت، ثم ينقل صراعاتها إلى المؤسسة التعليمية.
وتتعقد هذه المشكلات بصورة أكبر في حالة الطلاب الذين يعيشون مع أمهات مطلقات أو أرامل يعملن في قطاع التربية، لأن هؤلاء الأمهات يعشن حالة نفسية مزدوجة، تنقسم فيها الذات بين الدور المهني السلطوي الذي اعتادت عليه في المدرسة، والدور الأُمومي الذي يثقل عليه القلق والخوف من فقدان الحضانة وفق القوانين المستندة إلى الفقه الجعفري. هذا الخوف يولد ما يسميه علم النفس “قلق التملك”، الذي يدفع الأم إلى الإفراط في تلبية رغبات ابنها، وتقديم دلال زائد، وتوفير انخراط غير صحي في تفاصيل حياته، في محاولة لتعويض خوفها من فقدانه. ومع كونها معلمة أو موظفة تربوية، تنتقل أدوات العمل المدرسي من المدرسة إلى البيت، فتخضع الابن إلى منظومة أوامر وتلقين وانضباط شبيه بما يواجهه التلميذ الصغير، مما ينتج شخصية متوترة عاجزة عن بناء استقلاليتها.
وتشير نظريات إريكسون حول النمو النفسي الاجتماعي إلى أن المراهق يحتاج إلى مساحة تجريب حرة حتى يستطيع بناء هويته، لكن المراهق الذي ينشأ في بيت تسيطر عليه أم قلقة ومفرطة بالدلال والحماية يفقد هذه المساحة، فيصبح عاجزًا عن اتخاذ القرار أو تحمل المسؤولية، ويعتمد على الآخرين بصورة مرضية، وهي صفات أكدها ألفرد آدلر في تحليله للشخصية الاعتمادية، كما أشار إليها باولبي في نظريته حول أنماط التعلق غير الآمن. وحين يدخل هذا الطالب إلى بيئة تعليمية فنية تعتمد على التجريب والخيال والفهم والتحليل، لا على الحفظ والقواعد الرياضية، فإن الصراع يشتد، لأن قدرته على التعامل مع المعرفة الإنسانية لم تتطور بسبب طبيعة تربيته المنزلية، وبسبب الفجوة العامة في المجتمع تجاه علوم النفس والسلوك.
ويضاف إلى هذا كله أن جيل Z يعيش أصلًا أزمة هوية كما وصفها باومان، نتيجة الانفتاح الرقمي والعولمة، وظهور خطابات ما بعد الحداثة، والجندر، والنسوية، التي كسرت البنى المرجعية التقليدية وأعادت تشكيل قيم الشباب ومفهوم الذات والسلطة والجسد. ومع غياب الأب أو ضعفه في الأسر التي تقودها أم مطلقة أو أرملة، يفقد المراهق “الوظيفة الرمزية للأب” التي تحدث عنها جاك لاكان، وهي الوظيفة التي تساعد الفرد على الانتقال من عالم الطفولة إلى عالم القانون الرمزي الذي ينظم العلاقة مع المجتمع. هذا الغياب يخلّف فراغًا نفسيًا يحاول المراهق ملأه بطريقة غير منظمة، فيلجأ إلى التمرد أو العدوانية أو الإسقاط على المدرسة والمعلم.
وفي السياق العراقي، تتضاعف هذه الأزمة بسبب الأعراف القبلية التي تمنع الرجل من مجادلة المرأة خشية “الارتكاب” وتبعاته العشائرية، مما يجعل الإدارة التعليمية والمعلمين في موقف ضعيف عند مواجهة أولياء أمور من هذا النوع. هذه الأعراف تمنح الأم مساحة واسعة للمواجهة والانفعال، وتقلل قدرة المؤسسة على ضبط الحوار أو الرد، وهو ما يشجع بعض الأمهات على التهجم أو إطلاق الاتهامات، ثم التراجع عنها لاحقًا عندما تتضح الحقائق، في دورة تمثل نموذجًا لما يسمى في علم النفس بـ"القلق الهجومي الدفاعي".
وتزداد المشكلة تعقيدًا بسبب السياسات التعليمية التي دفعت المجتمع إلى تفضيل الكليات العلمية على حساب الإنسانية. لقد خلقت هذه السياسات فراغًا معرفيًا عظيمًا، إذ لم يتم إعداد المجتمع لفهم السلوك البشري أو الاضطرابات النفسية أو التحولات الثقافية. وبغياب اهتمام الدولة بعلم النفس وعلم الاجتماع، فقد المجتمع أدوات فهم ذاته، وأصبحت المدرسة تواجه وحدها نتائج هذا الخلل دون دعم مؤسساتي. إن إهمال العلوم الإنسانية أدى إلى ضعف الوعي التربوي، وإلى سوء فهم للمواد الفنية التي تعتمد على التجريب والرمز والقراءة الفلسفية، فصارت مادة الإخراج والتمثيل تبدو غامضة لولي الأمر، فيفسرها تفسيرًا دفاعيًا، خصوصًا حين تتضمن دراسة الأساطير أو الأديان القديمة أو الرموز الفنية، فيتهم المعلم أو يهاجم المنهج بدلاً من فهم طبيعته العلمية.
وتشير نظريات سوسيولوجيا التربية إلى أن المجتمعات التي لا تستثمر في العلوم الإنسانية تنتج فجوات حادة بين الأجيال، وتضع المؤسسات التعليمية تحت ضغط نفسي واجتماعي كبير، لأن المعلمين يصبحون وحدهم أمام طلاب يعانون من اضطرابات هوية، وأمهات يعانين من قلق الفقدان، وعادات اجتماعية تقف ضد الحوار العقلاني، ومنظومة تعليمية لا توفر دعمًا نفسيًا حقيقيًا. وهكذا تتحول المدرسة إلى مساحة إسقاط جماعي، يحمل فيها الطالب صراعاته، وتحمل فيها الأم مخاوفها، ويتحمل فيها المعلم عبء ما لم تعالجه الدولة والمؤسسات الاجتماعية.
إن فهم هذه الظاهرة بوصفها نتاجًا لتراكمات نفسية وقانونية وثقافية وتعليمية، وليس حادثة فردية، يُعد ضرورة لحماية المؤسسة التعليمية وضمان سير العملية التربوية. ويتطلب ذلك وضع آليات واضحة للتواصل، وتوثيق السلوكيات، وتفعيل الإرشاد النفسي، وتحصين الكادر التدريسي، وتطوير وعي أولياء الأمور، وإعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية بوصفها شرطًا أساسيًا لحياة تربوية مستقرة. ففي غياب هذا التوازن بين الفني والعلمي، وبين النفسي والاجتماعي، تبقى الفجوة قائمة، وتستمر المدرسة بدفع ثمنها دون أن تكون مسؤولة عنها.
تشير الحالات التي تظهر داخل الأقسام الفنية في معهد الفنون الجميلة إلى وجود مشكلات تربوية ونفسية عميقة ترتبط ببنية المجتمع العراقي المعاصر والتحولات الاجتماعية والقانونية التي أصابت الأسرة، وبالتغيرات الثقافية التي يمر بها جيل Z. كما أسهمت سياسات التعليم العالي في العراق، ولا سيما مميزات الكليات الأهلية التي سمحت بدراسة التخصصات الطبية والهندسية والتكنولوجية بمعدلات منخفضة مقارنة بالجامعات الحكومية، في خلق فجوة معرفية واسعة دفعت المجتمع دفعا نحو التخصصات العلمية وأهملت العلوم الإنسانية التي تُعد المجال الأساسي لفهم السلوك البشري وتنمية مهارات التفكير النقدي. مما ادى هذا الإهمال إلى ضعف عام في الوعي النفسي والتربوي داخل الأسرة، وإلى غياب قدرة المجتمع على فهم طبيعة التعليم الفني، مما أنتج بيئة معرفية غير مستقرة يعيشها الطالب داخل البيت قبل أن ينقل صراعاتها إلى المؤسسة التعليمية . اذ ان نسبة كبيرة من الطلبة الملتحقين بالمعهد هم من الفئات التي تعثرت في المراحل المتوسطة أو الإعدادية، ودخلت المعهد بضغط أسري على غرار الموهبة والرغبة الشخصية، على أمل الحصول على شهادة معلم تربية فنية. وهذا الالتحاق الإجباري أدى إلى فقدان الدافعية الداخلية والارتباط الوجداني بالمجال الفني، كذلك وضع الطالب في حالة صراع بين هويته الحقيقية ومسار تعليمي فُرض عليه. ووفق نظرية (إريكسون حول) (أزمة الهوية)، فإن المراهق الذي لا يملك حرية اختيار مساره الدراسي يعيش اضطرابا في بناء ذاته، ويبحث عن تبريرات سلوكية للهروب من المسؤولية، ويصبح أكثر ميلًا إلى التمرد أو خلق المشكلات داخل الصف.
ان هذه الأزمة تتفاقم اكثر فأكثر لدى الطلاب الذين يعيشون داخل أسر أحادية الوالد تقودها أم مطلقة أو أرملة تعمل في قطاع التربية أو في مديرية التربية ، أو موظفة في الدوائر الحكومية ذات الضغوطات العالية ، لذلك فأن هذه الأمهات يعشن انقساما نفسيا بين هوية الأم الحامية القلقة وبين هوية المعلمة – الموظفة السلطوية. ووفق نظرية التعلق لـ (جون باولبي)، يعاني الأبناء في هذه الأسر من نمط (التعلق القَلق–المسيطر)، اذ تقوم الام بغلق فجوة الأب في كل شيء، لكنها في الوقت نفسه تعيش خوفاً من فقدان الحضانة بسبب القوانين المستندة إلى (الفقه الجعفري) التي تنقل الحضانة للأب عند سن معينة ، وهذا الخوف يدفع الأم إلى الإفراط في تلبية رغبات الابن، وتقديم دلال زائد، وتوفير حماية غير واقعية، بغية الحفاظ على رابطة عاطفية قوية ،وبحسب (آدلر) فإن هذا النوع من التربية ينتج شخصية اعتمادية تهرب من المسؤولية وتلجأ إلى إسقاط أخطائها على الآخرين ، ووفق هذا الاطار فان الصورة تتعقد أكثر عندما تعمل الأم في المجال التربوي، او الجامعي ، فتستورد أدوات عملها من المدرسة إلى البيت، وتتعامل مع الابن كطالب صغير وليس كمراهق من جيل Z يبحث عن استقلاله ، فتصبح العلاقة معه مزيجاً من الدلال والسيطرة، مما يتشكل ازدواجية حادة في تكوينه النفسي، كما وصفها (فرويد) بــ(البنية المتذبذبة للأنا). ومع غياب الأب البيولوجي ، يفقد المراهق وبحسب (لاكان) (الوظيفة الرمزية للأب)التي يحتاج إليها ليمتلك القدرة على فصل ذاته عن سلطة الأم والانتقال من عالم الطفولة إلى عالم القانون الرمزي.
وبناء على ما بق فان هذه الإشكالات عندما يدخل الطالب إلى بيئة تعليمية فنية تعتمد على التجريب، والخيال، والرمز، والقدرة على التأويل، وتستلزم استعدادا معرفيا وجمالياً ، بوصف هذه البيئة لا تعتمد على المعطيات الرياضية والفيزيائية التطبيقية ، بقدر ما تعتمد على مهارات التفكير المجرد والقدرة على تقبل الاختلاف الثقافي، وهو ما يفتقده كثير من الطلبة الذين نشؤا داخل بيئة أسرية مغلقة أو تعليم تقليدي لا يعزز التفكير النقدي ، كما أن تأثيرات ما بعد الحداثة، والجندر، والنسوية، والعولمة، والانفتاح الرقمي، أوجدت لدى جيل Z ما يسميه باومان (الهوية السائلة)، من منطلق ان الشاب يعيش بين صور متعددة لذاته: صورة في البيت، وصورة مع أقرانه، وصورة رقمية، وصورة داخل الصف، دون وجود مركز نفسي ثابت ينظم هذه الهويات المتعددة ، كذلك ان الانفجار الرقمي جعل المراهق يعيش في فضاء سريع الإيقاع، فقدت الذات المراهقة القدرة على الصبر المعرفي، وعلى التأمل ، وعلى فهم المواد المعقدة ، بالاستناد على الأبحاث النفسية لجيل Z بأنه الأكثر تعرضا للقلق والاكتئاب واضطراب الهوية نتيجة الانغماس في الفضاء الإلكتروني ، لذلك فان هذا النوع من الطلبة عندما يدخل هذا إلى صف الإخراج أو التمثيل ، أو بقية الاقسام الفنية الاخرى ويُطلب منه التحليل والتجريب والتفاعل، بينما هو غير راغب في الدراسة أصلا، وغير قادر على استيعاب المواد الفنية، فإنه يلجأ إلى الدفاعات اللاواعية التي وصفها (فرويد): الإنكار، الإسقاط، اختلاق المشكلات، اتهام المعلم، التشكيك بالمنهج، أو التهجم عند الشعور بالعجز ، اضف إلى ذلك العامل الاجتماعي الحاسم في العراق هو الأعراف القبلية التي تمنع الرجل سواء كان معلما أو مديرا من مجادلة امرأة خشية (الارتكاب) وما يترتب عليه من تبعات عشائرية، لذلك فان القيد الاجتماعي يمنح بعض الأمهات مساحة واسعة في الهجوم على الإدارة أو الكادر التدريسي دون خشية من الرد، مما يضعف سلطة المؤسسة التعليمية ويزيد من تعقيد التعامل مع الطالب، لأن ولي الأمر يصبح جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل.
إن مجموع هذه العوامل و ضغط الأسرة، وانهيار أساليب التربية، وتغير قوانين الحضانة، وهيمنة التخصصات العلمية، وضعف الوعي النفسي، والتحولات الثقافية لجيل Z، والتدخل العشائري، وغياب الإرشاد التربوي النفسي يُظهر أن الصراعات داخل الأقسام الفنية تدل على صورة متركبة لأزمة اجتماعية كاملة تنعكس على المؤسسة التعليمية، التي وجدت نفسها تواجه جيلا يعاني من مشكلات هوية، وتشتت نفسي، وغياب الدافعية، وفجوة معرفية، وبيئة أسرية مهزوزة لا تساعده على الاستقرار أو التعلم.
وبناء على ما سبق وللتغلب على هذه المشكلة يمكن الشروع بالعمل لما يلي :
1. إنشاء وحدة للإرشاد النفسي والتربوي داخل المعهد لمتابعة حالات الطلاب المتأزمين نفسيا أو أسريا.
2. توثيق جميع حالات التواصل مع أولياء الأمور توثيقا رسميا وبحضور إدارة المعهد.
3. وضع ضوابط تحترم المؤسسة وتمنع التهجم من قِبل أي ولي أمر، مع إجراءات واضحة في حال حدوث تجاوز.
4. إعداد برنامج تعريفي للطلبة الجدد يوضح طبيعة الدراسة الفنية وضرورة الموهبة والرغبة.
5. فحص دوافع التحاق الطالب بالمعهد ووضع برامج دعم خاصة للذين دخلوا المعهد بضغط أسري.
6. إقامة ورش تربوية للكادر التدريسي حول كيفية التعامل مع خصائص جيل Z وسماته النفسية.
7. تعزيز تعليم العلوم الإنسانية داخل المعهد من خلال نشاطات فلسفية وثقافية وفنية.
8. تنظيم لقاءات توعوية مع أولياء الأمور حول طبيعة الفنون ودورها التربوي والنفسي.
9. دعم الأنشطة الجماعية المسرحية لأنها تعزز الشعور بالانتماء وتقلل من القلق والعزلة.
10. تأمين حماية المعلم والإدارة من الضغوط العشائرية عبر دعم مديرية التربية وإجراءاتها القانونية.
11. إشراك الطالب تدريجيا في القرارات الخاصة بتعلمه لتعزيز الدافعية وتقليل المقاومة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟