أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي جميل هلال - ماذا يريد انس عبد الصمد















المزيد.....



ماذا يريد انس عبد الصمد


علي جميل هلال

الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 10:32
المحور: الادب والفن
    


ماذا يريد (انس عبد الصمد)

ان المخرج المسرحي العراقي (أنس عبد الصمد) هو احد مخرجي التجريب المسرحي في العراق والعالم العربي في العقدين الأخيرين، إذ تميزت عروضه بخروجها عن السردية التقليدية ، واعتمادها المكثف على الجسد والصورة ، والتأثيث السينوغرافي المغاير لفضاء العرض ، من دون تقديم خطاب لفظي مباشر أو حبكة درامية مألوفة ، هذا النزوع إلى التجريد والرمز، يتجه نحو رؤية معرفية تتعامل مع العرض المسرحي بوصفه أداة لاختبار وعي المتلقي، وإعادة تشكيل العلاقة بين الخشبة والجمهور ، اذ تُثير هذه التجربة سلسلة من الأسئلة المتكررة، التي عادة ما تُطرح بعد كل عرض (لعبد الصمد)، سواء من قِبل المتلقي العادي أو المختص: لماذا لا نفهم ما نشاهده؟ لماذا يترك المخرج التفسير مفتوح؟ ما الرسالة التي يريد إيصالها؟ هل يسعى عبد الصمد لصناعة أسلوب شخصي؟ وهل يمكن تصنيف أعماله ضمن اتجاهات مسرحية معروفة مثل ما بعد الحداثة، أو ما بعد الدراما! ؟ ، او البعض من النقاد أُطلقَ على تجاربه بـ (الميتا مسرح) والأهم من ذلك، هو هل امتلكنا تصورا مكتملا للمسرح ؟، حتى ندعي فهم ما (وراءه)؟ هذه الأسئلة، وإن تظهر استنكارية، تعبر عن حالة إدراكية معقدة يعيشها المتلقي، تتداخل فيها الرغبة بالفهم مع محددات ( أفق التوقع) ، وهنا تُمكن مقاربة تجربة عبد الصمد من زاويتين معرفيتين متكاملتين: الأولى تنتمي إلى علم النفس المعرفي، والثانية إلى نظرية التلقي.
ان العروض التي يُقدمها (عبد الصمد)، ينصدم المتلقي مع خطاب سردي يتجه مع التأويل، فهو يُواجه سلسلة من الرموز والصور ، والكتل ، والمؤثرات الحسية، والتكوينات السينوغرافية ، والتي تُدرك بصريا وسمعيا، دون أن تندرج ضمن حبكة تقليدية، في هذه اللحظة، تبدأ العمليات المعرفية بالتحرك: يدرك المتفرج العناصر المادية للعرض عبر (الإدراك الحسي)، ثم يُركز على تفاصيل بعينها في محاولة لاكتشاف المعنى (الانتباه)، ثم يستدعي من ذاكرته صورا وأفكارا ومواقف مشابهة (الذاكرة)، ليُعيد تشكيل ما يراه في صورة ذهنية داخلية ،ويبدأ في إنتاج تأويل شخصي للعمل (التأويل) ، اذ ان هذه المراحل التي يصفها علم النفس المعرفي تؤكد أن التلقي لا يتحدد بمعطيات الحواس فقط ، وانما هي بناء معرفي متفاعل، بمعنى ان التلقي هنا يتفاوت من شخص لآخر، وفق مبدأ (ما تراه انت لا يراه الاخرون ) بحسب د. (رياض موسى سكران ) اي عندما يقول أحد المتفرجين بعد العرض: (لم افهم شيئاً من العرض) ، هذا لا يعني أن العرض فشل، وإنما أن (أفق التوقع ) لدى المتفرج لم يكن مؤهلاً لاستيعاب عرض خارج عن نسق الفهم البديهي ، وهذا ما يُحيل إلى نظرية التلقي، اذ يرى (جادامير) أن (أفق التوقع) هو " مجموعة القراءات المعرفية والايديولوجية ، والجمالية التي يتسلح بها القارئ" بمعنى هو حصيلة القراءة السابقة، والخبرات، والتجارب التي يستند إليها القارئ أو المشاهد في تأويله للعرض المسرحي ، وحين لا يتوافق خطاب العرض مع هذا الأفق، تظهر الصدمة الجمالية ، أو المفارقة الإدراكية، لذلك في عروض (عبد الصمد) مثل (حلم في بغداد) ، و(توبيخ) ، (ويس غودو ) ، و(بيت أبو عبد الله) تؤكد هذا النمط من التلقي المؤجل ، فقد رفض بعضها لحظة عرضها الأول، وعُدت غامضة وغير مفهومة، لكنها اليوم تُقرأ بطريقة مختلفة من قِبل الجمهور ذاته ! ، بعدما تطور (أفق التوقع لديه) ، أي أن عملية الفهم لم تكن غائبة، بل مؤجلة، حتى تنضج أدوات المتلقي لتستوعب طبيعة ذلك العرض المسرحي ، فمن هذا السياق ، ارى إن (عبد الصمد ) لا يُنتج عروضا من أجل التلقي الفوري، بل يُنتج ما يمكن تسميته بـ(الزمن الإدراكي الطويل) ، حيث تُزرع الرموز اليوم، وتُفك رموزها بعد سنوات، عندما يكون الوعي النقدي مؤهلا لذلك، هذا يجعل من عروضه تجربة معرفية من وجهة نظري، تتعامل مع المسرح بوصفه محفز على التفكير، وإعادة تشكيل علاقة المتفرج بذاته .
من هذا المنطلق، يبرز سؤال إضافي مُلح: هل أنس عبد الصمد يقرأ الواقع المحلي؟ أم يتجاوز ذلك نحو الواقع الكوني؟ هل يكتب بعين مثقلة بإيقاع العصر، أم بعقل يتطلع إلى المستقبل عبر فرضيات لا يشترط فيها أن تكون كلها صائبة؟ هل يتعمد الغموض ليترك مساحة تأويلية حرة، أم أنه يختبر المتلقي نفسه؟ اضف الى ذلك ، هل عروضه المسرحية التي تُقدم في دول أخرى تُفهم على نحو مختلف تماما عما يفهمه الجمهور العراقي المحلي؟ هذه الأسئلة تُحيلنا إلى أن( أنس )قد لا يُنتج عروضا مقيدة بمرجعية ثقافية واحدة، ربما هو يقرأ الواقع من عدة طبقات ، او هو ينظر للواقع من وجهة نظر مختلفة ، او مؤجل تلقيها، كما في عرضه الاخير (نحن من وجهة نظر قِط) الذي قُدم في مهرجان (بغداد الدولي للمسرح الدورة السادسة) ، فهو يواصل بمنطلق اشتغاله على بناء عرض لا يقدم إجابات كالعادة، فضلا عن كونه يفتح فضاءات للتساؤل ، اذ ان هذا العرض لا يتوسل الحبكة التقليدية ، ولا يركن إلى الخطاب المباشر، كما اشرنا سابقا ، فهو لا يُفهم من أول وهلة، بفعل الادراك المؤجل ، اذ ان القط لا يرى العالم كما يراه الإنسان، فمجال رؤيته أوسع، إذ يمتد إلى 220 درجة، لكنه لا يدرك العمق بدقة، كما أن ألوانه محدودة، إذ لا يرى الأحمر بوضوح، كما انه يتمتع بقدرة فائقة على الرؤية في الظلام، تفوق الإنسان بعدة أضعاف، فرؤيته أقرب إلى الأرض، وتحركه مدفوع بالحدس والمراقبة الصامتة تجاه فريسته ، على غرار الإنسان الذي يرى من زاوية أعلى، ويدرك التفاصيل بدقة ووعي مباشر، هذه الاختلافات تتخذ طابعاً رمزياً عميقاً ، كما يظهر في عرض (عبد الصمد) الذي يفتح فضاءات للتساؤل، فالقط في هذا السياق تحول من كونه كائنا منزليا أليفا، إلى رمز كثيف مشبع بالمعاني، ، وينسحب من التفسير المباشر، ليقيم في منطقة الإدراك المؤجل ، فالعنوان نفسه ينهض على شحنة رمزية اتجهت بي بوصفي متلقي الى الأساطير القديمة ، فبحسب ( واليس بدج) في كتابه (آلهة المصريين) ، فالقِط لم يكن القط كائناً منزليا بقدر ما كان تجليا للإلهة (باستت) ، والتي ترمز للحماية والغموض والأنوثة المكثفة، اذ تقيم عند تخوم الضوء والظل، وتحرس المعرفة المخبأة، أما في الأساطير الاسكندنافية ، فغالبا ما يظهر القط كمرافق للساحرات، وكائن يرتبط بالعالم الآخر، كما تشير إليه موسوعة (باربرا ووكر) في تأويلاتها الرمزية، إذ يُعامل بوصفه كائنا بينيا، ويتجاوز الواقع نحو الرمزي والمفارق للأول ، اما على المستوى النفسي، وبحسب (كارل يونج) في كتابه (الرموز والتحولات) ، فإن القط يمثل جزءا من اللاوعي الأنثوي ، بمعنى ان الذات المستقلة الحدسية غير القابلة للترويض، والتي تراقب من خارج المركز، وترفض الانصياع، وتتحرك بحذر داخلي صامت ، ووفق هذا السياق فهو كائن رمزي يقيم على حافة اللغة، تماما كما يقف المتفرج في عرض عبد الصمد حاضر، لكنه لا يجد مكانا مألوفا في ذاكرته للتفسير، الا بعدما يعاني من البحث في فك شفرات العرض ، لكن العنوان يفتح أيضا تأويلا مغايرا حين يُسقط على واقع الإنسان المعاصر في إيقاع زمنه المتفكك ، بمقاربة تدنو من مقاربات (باومان) في كتابه (الحداثة السائلة ) ، فهو يرى ان المجتمعات الحديثة تميل إلى أشكال مؤقتة من العلاقات، اذ تستبدل الروابط العميقة بأنماط بديلة من المتعة العابرة، مثل تبني الحيوانات المنزلية لا كفعل رحمة، وانما عن غياب العلاقات الإنسانية المستقرة، ويضيف كذلك (عامر موسى الشيخ) أن الانسان في سياق الاستهلاك المادي ، يبحث عن الرفقة التي لا تتطلب التزاما، ولكن في العود الى تمثلات الاسطورة والولوج الى الذاكرة ، ولكوني متابع مستمر للآنمي اليابانية ، دائما ما يظهر القط بوصفه حكيم ، او يظهر بوصفه إله الدمار كما في شخصية (بيروس) في مسلسل (دراجون بول سوبر) ، وهذا المعطى الذي تشبثت به ، عندما قرأت وشاهدت عنوان العرض ، وهذا التأويل المستمر للقط الذي ظهر بأشكال رمزية متحولة ، فتارة يظهر على شكل قط أسود، أقرب إلى الرمز الأوروبي للسحر والغموض، وتارة كتمثال يُرسل في طرد، ما يستدعي صورة (مانيكي نيكو)في الثقافة اليابانية، والذي يجلب الحظ لكنه محايد لا ينحاز لأحد، في لحظة أخرى يتحول إلى شجرة، بوصفه كائن نباتي جامد يحمل رمزية الثبات، ثم ينقلب إلى مجسم عشوائي من أكياس النفايات، كأن العرض نفسه يعيد تشكيل القط بوصفه صورة مرنة للزمن المعاصر: من الكائن المقدس إلى المخلفات التي يصنعها الانسان ، وتدويره للذوات القذرة والمتوحشة وتحويلها الى مقدس ، او تحويل المقدس الى مدنس ،هذا التعدد في تمظهر القط داخل العرض شتت المعنى، ومن البديهي يتشتت (النسق الادراكي) للمتلقي ، بفعل تحولات القِط ، الذي يتسلل إلى مشاهد العرض تارة كشيء مألوف، وتارة كشيء مقلق، فمرة يدفعنا إلى التعاطف مع القط، ومرة إلى الشك في كونه ليس بريئاً . وهنا تكتمل المفارقة: القط، الذي غالبا ما يكون موضوعاً للعناية والرعاية، فهو يتحول إلى كيان يُخيف، أو يتفسخ، أو يُحزم في طرد، أو يُغادر من المعنى نفسه، وبهذا المعنى، يقدم العرض القط بوصفه عدة اسئلة يطرحها المتلقي من هو القط؟ ما الذي يمثله اليوم؟ هل هو الحامي أم المدمر؟ هل هو الأليف أم قناع الانسان الذي يستتر خلفه؟ هذه الأسئلة الجدلية ، تكشف عن البنية التأويلية العميقة التي يشتغل عليها (عبد الصمد)، والذي بدوره يجعل من الذوات المتلقية تنقسم باستمرار من قراءة العنوان ومشاهدة العرض وصولا الى النهاية ومغادرة المتلقي العرض ، فهذا التمركز خارج مركزية الإنسان يدفعنا لإعادة النظر في عناصر العرض المسرحي: المدون النصي ، والسينوغرافيا ، والاداء التمثيلي، بوصفها أدوات تُبني من منظور منحرف عن المعتاد.
هل (انس) يطرح الاسئلة ليصنع من اجابات المتلقي عروض اخرى ؟ ...
يشكل المتن الحكائي في عرض (من وجهة نظر قِط) للمخرج (أنس عبد الصمد) بنية درامية ، تتكئ على تقنيات التشظي، والتأجيل، والتكرار، والتعدد، وتعيد ترتيب العلاقة بين المشهد المسرحي والمتلقي، من خلال تفكيك البنية الكلاسيكية ، واستدعاء صور وأفعال تتجاوز الحدث المرئي نحو تأويلات أكثر تعقيدا ، ومن هذا المنطلق، يصبح المتن ذاته مفتوح للقراءة المتعددة ، فضلا عن كونه يستدعي استحضار دلالات الصورة والمكان والفعل من قبل المتلقي، خاصة مع توظيف الوسيط الرقمي، والاشتغال على مفردات بصرية مألوفة أعيدت كتابتها داخل العرض، ولقراءة هذا المتن الحكائي، في ادناه سنستعرض تتابع المشاهد ، وتحولاتها بشكل سريع من دون الغوص في تفاصيلها .
ان لحظة افتتاح العرض، تُسدل الستارة خلفها صورة باركود، ليتحول المسرح إلى مشهد استفزازي يُشرك المتلقي مباشرة في لعبة التفاعل الرقمي ، ليلتقط الحضور الإشارة ويمسحونها، على أمل أن تُفتح نافذة إلى ما هو قادم… لكن الرابط يقود إلى فيديو مقفل لا يُعرض إلا في وقت لاحق ،هنا، يُزرع الشك: هل هو خطأ أم جزء من العرض؟ ثم، في منتصف الليل، بعد نهاية العرض يُفتح الرابط أخيراً ، يظهر رجل داخل (مطعم دجلة) تُجري فتاة لقاءً قصيراً معه ، تحية، نظرة، تراجع، وابتسامة أخيرة ، من دون أي حوار يذكر ، فالمشهد هو الاخر لا يعطي أي توقع للاجابة عن الاسئلة.مع رفع الستارة، تتكشف المشاهد: في أعلى سلم رقمي كبير يقف أنس وجوليت وثريا، وعلى ظهورهم شجرة بلا أوراق اشارة الى رمزية العدم ، اذ تحيط بهم مفردات المسرح وهي : خزانة ملابس، طاولة، مغسلة، سرير طبي ، وقنينة أوكسجين ، وأكياس قمامة سوداء، خلف باب ، تقترب جوليت من الطاولة ، تكتب بالإيماءات على كيبورد كمبيوتر، كأنها تبحث عن مخرج من المكان ، او حل بديل ، وهذه الايماءات تكررت فكل شخصية تبحث عن شيء يظهر ما تبحث عن في الشاشة ، تفتح ثريا الخزانة، تُخرج الملابس التي لاحقاً ترتديها جوليت نفسها، تلك التي ظهرت في الفيديو الليلي.أنس يقرأ كتاباً وهي مفردة أساسية عبر تجارب سابقة ،الثلاثة يتقدمون صوب المغسلة ليمسحوا وجوهاً بلا ملامح، كأنّه مرآة مختفية.تُعرض على الشاشة صور لقط أسود، ولمرور الأوكسجين إلى CO2، ثم تنقلب الشاشة الى متاهة ، ثم قِطٌّ مصري مشوه أو محطم.يُحال القط إلى التحنيط، يُوضع في كيس قمامة، يُرَمَى خلف الباب. تُفتح فتحة الرؤية في الباب، فتطل صور على الشاشة بعد كل نظرة من خلف فتحة رؤية الباب لممر فندق وشخصيات غائبة الملامح، مرة إلى قط مشوه، مرة إلى قط محطم.ثم جوليت تنطق همهمات بلا لغة مفهومة، احتجاجاً على ما يجري في البيت. تليها لقطات لطفلين في فيلم قديم، يتبادلان أحاديث فلسفية. مع نوم جوليت على السرير، يدخل محمد عمر بالقط الذي يحنط مجدداً. تنزل شخصيات أنميشن على سلالم متعددة في الشاشة ، وأطباء يجريون عمليات جراحية على القطة، في تحوّل تدريجي من البيت إلى غرفة عمليات.يُسلم جذع شجرة يحمل انس مناشرا خشبية، يقطّع الشجرة أنس، وتخرج ثريا ستراً متعدّدة من الخزانة، لارتدائها فيما بعد ، يجلس الثلاثة على خشب القط المقطع، يتأملون الجمهور، كما في مشاهد من عروض سابقة. ثم تسمع صوت فرامل سيارات، تُوضَع القطع الخشبية تحت ثيابهم كمن يحملون أجنة، تُخزن في الخزانة، ليحرقها انس مع الخزانة ، لتتحول الى اداة تدوير او مصنع ،تقترب ثريا من الباب، تظهر من خلال فتحة صورة ماجد درندش معدلة بالذكاء الاصطناعي، تُمحى صورته لكنها تعود ، يُفرغ المسرح من كل المفردات ويبقى الباب والطاولة فقط، مع صورة درندش كعمق وحيد. تُرفع الستارة لتظهر صور مشوشة، تُمحى، ثم تظهر أكياس القمامة مرتبة على شكل قط عملاق، يجلس درندش ويكتب على الطاولة، في مشهد نهائي حيث تُسحق الشخصيات بقطع خشبية كالمخالب.
وبناءً على ما جاء في المتن الحكائي للعرض ، لا يبدو المخرج في (من وجهة نظر قِط) منشغلاً بإقناعنا بشيء! ، فالعرض لا يريد أن يقول، بقدر ما يريد أن يخلخل يقين السرديات البديهية النمطية نفسها للمتلقي المسرحي المختص والاعتيادي ، فمنذ اللحظة الأولى، حين تشتغل الستارة وتحولها الى شاشة رقمية لصورة (باركود)، يُدفع (انس) المتفرج للمشاهدة، ويقوم بزجه قسراً في لعبة تشكيك، فالباركود، هو علامة تقنية-اجتماعية ، فضلا عن استدعاءه كاختصار رقمي اصبح سائداً ، ولكن هذا الاختصار يتحول الى مفتاحاً خادعاً لمعنى مؤجل، وهذا التأجيل نفسه يتأجل إلى ما بعد العرض ذاته ، وهنا في اعتقادي هي بداية للتأويل الحقيقي ، والبحث عن اجابة السؤال ماذا يريد ان يقول انس ؟، فالرابط المؤجل، الفيديو الذي لا يُفتح إلا عند منتصف الليل، هو بمثابة صدمة معرفية تعطيل في (النسق الاداركي ) للمتلقي ، فالاخير يذهب إليه ظناً بأنه (الحل)، لكنه لا يجد سوى رجل يجلس، فتاة تنسحب، نظرة تهكم بين الطرفين، وابتسامة مُربكة من قبل (درندش) ومن دون أي كلمة تلفظ ! ، فضلاً عن عدم وجود مؤثر صوتي او موسيقي !، والسؤال هنا يتضاعف: ما الجدوى من كل هذا؟ لماذا لم يكتمل المشهد؟ ولِمَ على المشاهد أن يُستكمل العرض خارج الخشبة؟ هنا، نحن بإزاء خطاب مستمر ومتشظي خارج حدوده الزمان والمكان للعرض !، وهو ما يحيل إلى شكل من (التلقي الممتد) او المؤجل والذي يتجه مع ما طرحه (إيزر) عن فجوات النص، ولكنه يتقدم إلى تمسرح الفجوات ذاتها، بمعنى ان التلقي يغادر فكرة المسرح المرتبطة بـ (الهنا والان) الى الفضاء الرقمي ، وهي محاولة تجريبية قام بها المخرج (مصطفى الركابي) في عرض مسرحية (يارب) عندما قام بتوزيع اقراص ليزرية للجمهور في اشارة لاحتواء الاقراص على العرض البارد ! ، وهي نفس المحاولة ولكن من منطلق اخر اعتمد على فكرة (الباركورد) ، واعتقد ان المراد ان يتحول العرض الى جملة من التحولات المستمرة التي تبدأ ولا تنتهي بعدما يكتشف المتلقي انه لم يجد ولو اجابة واحدة لأسئلة العرض والتي لا حصر لها ، ليعود المتلقي مرة اخرى ويسأل ماذا يريد قوله (انس) ؟
ان العرض لا يقف عند هذا الفخ ، فالبنية المشهدية، وتحديداً تلك التي تُعاد فيها توظيف مفردات مثل الطاولة، ، التفاح ، الشجرة المجردة، القمامة، السرير الطبي، الكتاب، كلها تُستدعى لخلق إحالات مرجعية، فضلا عن اختبار الذات وانقساماتها المتكررة فالطاولة التي كانت نقطة اجتماع في (حلم في بغداد) و (بيت ابو عبد الله) صارت هنا منصة لخلع وخلق الهويات في الوقت نفسه، كذلك الشجرة التي كانت في (يس غودو) علامة انتظار، تنبت هنا كعبء عدمي على الظهر في المشاهد الاولى للعرض، من منطلق ان الشجرة المجردة التي لم تغادر عرض (في انتظار غودو) بوصفها ثيمة مركزية لدى (انس) و (بيكت) ، اما القمامة، او اوراق الكتب الممزقة والتفاح المسحوق و المنتشر هي مفردات متكررة ، والتي رافقت نهايات عروض سابقة، صارت هنا جسدا ماديا مركباً على شكل قِط، يُحطم الشخصيات بعد أن كانت تسعى هي إلى تحنيطه،في هذا كله، هل (انس) يكرر نفسه ام هو يُعيد (انس) إنتاج أرشيف عروضه المسرحية ؟ والتي سنشير اليها في (الحلقة الثالثة) ، ولكن على مستوى المدون النصي ،اعتقد انه يقوم على انتاج مشروع خاص به ، قائم على هدم مركزيات نصوصه السابقة بوصفه مؤلف يقوم باخراج النصوص التي يكتبها ، ولكنه يُشوهها، يُعريها، يُخرجها من صفتها التعبيرية السابقة الى صفة ، جديدة ومغايرة ومن الاخيرة يتكرر السؤال نفسه ماذا يريد انس ؟ ، أما المشهد الاخير الذي تُسحق فيه الشخصيات بمخالب القِط (الخشبية) والمصنوع من القمامة، فهو نهاية (النسق الادراكي) للمتلقي وتوقفه عن تفسير أي معطى من معطيات العرض !. اذ ان هذه اللحظة سحقت النص المعاد انتاجه ومع الاداء الجسدي المتكرر، ومع ذاكرة المخرج التي تُعيد نفسها ، ما عدا القط الجديد وهو بمثابة رمز مفكك للفظاعة اليومية التي أنتجها الإنسان بنفسه، ثم جلس يراقبها بابتسامة منكسرة كما في فيديو اليوتيوب ، ونهاية العرض ، ويتكرر نفس السؤال ماذا يريد انس ؟
فالبناء تجاوز منطق الحبكة التقليدية، ليتحول إلى تجربة مسرحية تقوم على التشظي السردي، والتعدد البصري ، من منطلق تفكيك بنية السرد نفسها، من خلال بنية درامية تقوم على الاستفزاز للنسق الادراكي، وإحالاته المؤجلة ، والتكرار الدلالي المعاد تدويره داخل زمن العرض وخارجه ، اذ ان في العرض يقف القط، بوصفه رمز مركب ، كما اشرنا الى تأويلاته في (الحلقة الاولى ) ، وهنا سأعتمد على افق توقعاتي وأعتمادي في التحليل على شخصية (إله الدمار – بيروس ساما ) كما في مسلسل الأنمي (دراجون بول سوبر) اذ ظهر(درندش) في شخصية القط المُعدلة صورته في الذكاء الاصطناعي وهي اشارة الى موت الانسان ، وفي القلادة تظهر نجمة سباعية، وهي ربما اشارة الى الربط بين العام والخاص فاستخدامها قد يربط بين التراث العالمي أو الروحاني العام وبين الوضع السياسي الثقافي المحلي او ترمز الى الرقم سبعة نفسه الذي يحمل دلالات في التراث الديني (الإسلام، المسيحية) – سبعة أيام الخلق، سبعة سماوات، سبع آيات أولى من القرآن، او هي ربما تكون إحالة مباشرة إلى تأسيس الدولة العراقية قبل قرن من الان ، وما تلاها من أنظمة متعاقبة، متشابهة في المضمون وإن اختلفت في الشكل ، في النهاية فلا يوجد رمز لا يحمل خطاب ومن منطلق (فوكو) اينما وجد الخطاب وجدت السلطة ، لذلك فان السلطة دائماً ما تكون في صيرورة مستمرة ، فهي تموت وتعود، تُدفن وتُنبش، ويعاد إنتاجها لا من الخارج بل من داخل الجماعة (نحن) نفسها التي تعيد انتاج السلطة القائمة ، والاخيرة قائمة على النزعة (الديونيوسيسة ) التدميرية بحسب (نيتشه)، التي ما ان تبني الشخصيات او تتخلص من القط (السلطة) يُعاد انتاجها مرة اخرى وبطرق مختلفة ، فضلا عن تعقيد الرمزية عندما يحمل الممثلون أجزاء القط تحت ثيابهم كأنهم حوامل – في إشارة صادمة إلى أن السلطة مفروضة ، و مزروعة في الا وعي الجمعي بحسب (يونج) ، تحمل الموروثات الايديولوجية القائمة على اعادة الانتاج السلطة المتكررة ، فعبر هذا التدوير يطرح العرض أسئلة ايديولوجية حادة دون شعارات: هل نحن من نخلق هذا القِط الذي ينظر الينا بعين الفريسة ؟ هل نحن من نصنع جلادينا؟ وهل السلطة كيان مفروض علينا أم أننا ننتجها من داخلنا؟ ،ارى ان الحمل هنا هو استعارة للحالة العراقية نفسها: مجتمع يعيد ولادة سلطته في كل دورة زمنية، مهما حاول الهروب منها ، فنحن في واقع ذهاني مضطرب قائم على الهلوسة والاوهام وفقدان الاتصال بالعالم الخارجي ، فنحن اصبحنا لا نميز ما يحدث فعلاً وما نتخيله ، ووفق هذا السياق تذكرنا هذه البنية المسرحية بعبثية (صامويل بيكيت) في (في انتظار غودو)، فالشجرة التي تظهر في بداية العرض، والشخصيات التي تتحرك بلا غاية، والبحث المستمر عن إجابة لا تأتي، كلها توازي جوهر المسرح العبثي، وما يطرحه من اسئلة عدمية ، كما ظل (فلاديمير وإستراغون) ينتظران (غودو) الذي لا يأتي، فالمتلقي في عرض (عبد الصمد) هو الاخر مثل (فلادمير ، واستراغون) ينتظر الاجابة عن سؤال ماذا يريد (انس) ؟ ،أما التحول التدريجي للبيت إلى غرفة عمليات، والمشاهد التي تتداخل فيها الصور الحقيقية والرقمية، تذكرنا في نص (سارة كين) كما في (4.48 )، وتداخل العنف النفسي والجسدي ، وتحول المشاهد إلى تدفقات ذهنية غير منطقية ، كما عند (جوليت)، التي تتحدث بهمهمات غير مفهومة، ولغة غير مفهومة !، وهي تماما كما تفعل شخصيات (كين) التي تبحث عن الاجابات وسط ضجيج الهذيان، اذ شكلت مفردة الخزانة، والتي تُفتح وتُستخرج منها الملابس المطابقة لما ظهر في فيديو (مطعم دجلة) ، تتحول إلى بوابة زمنية داخل العرض، وتُعيد ربط الماضي بالحاضر، الرقمي بالمادي، والوهمي بالحقيقي ، كذلك المغسلة، التي يُغسل فيها الوجوه دون ماء، تعكس غياب الهوية والملامح العراقية التي كلما ارادت ان تظهر تُشطب ، والمرآة المختفية ربما تُشير إلى ذواتنا والتي لم تعد ترى نفسها ، الا عبر الوسائط الرقمية ، وهي دلالة من وجهة نظري عن غياب الإنسان ، فهل هذا ما يريده (انس) ؟ ،ام هو يطرح العديد من الاسئلة ليصنع من اجابات المتلقي عروض اخرى ؟ ...
هل (انس) يعيد أنتاج نفسه ، مثل القِط الذي تم اعادة انتاجه مراراً وتكراراً في العرض ؟

لا يمكن المرور على التجربة المسرحية لـ(أنس عبد الصمد) من دون التوقف طويلاً عند البنية الإخراجية التي أصبحت، مع تراكم عروضه، تكاد ان تشكل ما يشبه الطقس المغلق على نفسه. فمن (حلم في بغداد)، إلى (توبيخ)، (يس غودو)، و(بيت أبو عبد الله)، ووصولًا إلى (نحن من وجهة نظر قِط)، يتضح لنا ان المخرج يقوم على تكرار المعالجات الاخراجية ، لكن هل هذا التكرار هو استهلاك لذاكرة إبداعية سابقة؟ أم أنه استراتيجية إخراجية واعية، تعيد توظيف مفردات أرشيفه الخاص كوسيلة لهدمه من الداخل؟ وهل إعادة استخدام نفس المعطيات البصرية والحركية هي رغبة في تثبيت الأسلوب، أم انه قلق من مغادرتها؟ فعندما نشاهد عرض (نحن من وجهة نظر قِط)، لا يمكن أن نخفي الإحساس بأننا أمام عمل (يعرف نفسه جيداً)، فالعرض لا يتلعثم، لا يبحث عن أسلوبه، لا يُغامر في أرض مجهولة، على العكس، يسير داخل بنية جمالية مألوفة تماماً لمن تابع عروض (أنس عبد الصمد) السابقة، فالطاولة، والشجرة، والتفاح، والقمامة، والتنظيف،وصورة (بيكت) نفسها صورة (درندش) … كلها مفردات شكلت البنية السينوغرافية لعروضه السابقة ! ، فما الجديد إذاً؟ اضف الى ذلك ، الهيرسات التي ترتفع لتكشف الفضاء المعماري للمسرح كما في نهاية (يس غودو)، تعود نفسها في (نحن من وجهة نظر قِط)، ولكن هذه المرة لتُظهر صورة (ماجد درندش) المعدلة بالذكاء الاصطناعي، حتى الحركات الكيروغرافية التي تؤديها الشخصيات في عروض سابقة (حلم في بغداد)، (بيت أبو عبد الله)، (يس غودو) تُعاد بالحرف نفسه في العرض الجديد، حتى مشهد تنظيف الخشبة من المفردات ما قبل نهاية كل عرض، والذي تحول الى اشبه بالطقس الخاص بـ (انس) ، هو الاخر سبق وان شاهدناه في جميع عروضه السابقة ! ، اما العرض الأخير: القِط ، فهو المخلوق الذي حُمل رمزيات متراكبة، من التحنيط، إلى التغليف، إلى الطرد، ثم الى كائن مصنوع من القمامة . لكن السؤال الملح هنا: هل تكفي مفردة جديدة واحدة ، او الخطاب المعني بالقط بشكل عام رغم ثقله الرمزي ، لتبرير عرض بكامله؟ هل يكفي (القط) لخلق فارق في مشروع إخراجي استقر على ذاته ويدور داخل دوائره الخاصة؟ ، المعضلة أن العرض لم يخذل أفق التوقع، بل عززه، إلا المعطيات الجمالية المتعلق بالقط ، أما ما عداه، فقد كان متوقعاً، وكأن المتفرج يشاهد عرضاً يعرفه مسبقاً، عرضاً يعود إلى ذاته ولا يخرج منها.
وبناء على ما سبق يتشكل لدينا سؤال جديد وهو : هل أعاد (أنس عبد الصمد) إنتاج ذاكرته المسرحية؟ أم دخل في مشروع لتفكيكها؟ أم هو توقف عن الإبداع دون أن يعلن ذلك؟ في الظاهر، العرض لا يُقدم إضافة مفاهيمية جذرية ،كل شيء يوحي بأننا داخل (ارشيف انس المسرحي) فالمعالجات الاخراجية والتقنية ، وتوزيع الفعل على الخشبة كلها تُستعاد بطريقة أقرب إلى الاستذكار المسرحي الذاتي ،وكأن المخرج يعيد مشاهدة أعماله، وتكثيفها مرة اخرى حتى تُصاب بالتخمة ،لكن ضمن فضاء هذا التكرار الظاهري، تكمن مفارقة دقيقة: وهي ان القط كائن مُستعار من خارج ذاكرته المسرحية، زُج به عمداً ليقلب توازن الصورة ، لكن ما يلفت في هذا العرض، هو تلك المفردة التي تبدو للوهلة الأولى دخيلة على سياقه، وهي: القط. غير أن القط هو الاخر، وعند التأمل العميق، هو ايضاً تطوير لمفردة اشتغل عليها (عبد الصمد) في (يس غودو)، وهي الأرنب. فهل يريد ان يقول إن (القط) هو الجيل الثاني من مشروع مفردة (الأرنب)؟ ، اذ ان في (يس غودو)، ظهر الأرنب كمفردة عبثية، بوصفه كائن يهرب باستمرار، ولا يُمسك، يعيش في الحفر، ولا يُرى إلا عندما يراد اصطياده ،أما في (نحن من وجهة نظر قِط)، فإن القط يظهر كنسخة أكثر تطوراً وتهديداً من الأرنب البريء ، وتحوله الى كائن يُحنط، يُقتل، يُشوه، ثم يُعاد إنتاجه ككائن قمامي عملاق يسحق الشخصيات ، وكما اشرنا اليه في اكثر من موقع ضمن سياق (الحلقة الاولى) و (الحلقة الثانية) إذا، هل القط هو تطوير للأرنب؟ ربما نعم او لا ! ، فالقط يدخل ككائن مُخرب، يكاد يكون المعول الذي يُهدد البنية التي بُنيت سابقاً. وهنا اكرر السؤال نفسه هل هذا العرض إعادة إنتاج للذاكرة ، ام هو تدمير بطيء لها من الداخل؟ واذا غادرنا فكرة اعادة انتاج للذاكرة واعتمدنا على نزعة التدمير ، ربما نجد ان (أنس) يستدرج مشروعه نحو حافة التشظي، ويريد ان يهدم (ارشيفه المسرحي) من الداخل ! .لكن لا بد أن نعترف: من يشاهد العرض ومن دون ان يشاهد العروض السابقة فهو سيدخل في خانة (التلقي المؤجل) على غرار المتلقي الذي شاهد جميع عروض (انس) سيظنه عرضا استنسخ نفسه كمفردة جهاز الاستنساخ في عرض (توبيخ) ، وهنا يكمن خطر التكرار، ليس في البعد الجمالي فحسب، وانما في أفق التلقي أيضا ، فمن منطلق (رولان بارت) : "النص يُدرك نفسه أكثر مما يُدرك متلقيه " ، لذلك نجد ان عرض (من وجهة نظر قِط) اصبح انعكاس لوعي (انس) أي انه انعكاس الى لغته، وإحالاته الجمالية لا لوعيه بالعالم أو بالقارئ، فهل هذا ممكن ؟ فهل (انس) قدم هذا العرض لنفسه ولم يقدمه الى الجمهور ؟، وهل هذا السبب المركزي الذي ادى الى تشكل فجوة بين المعطى الجمالي للعرض والمتلقي، وخرج المتلقي بتفسير مؤجل ، وهو يسأل هذا وذاك ماذا فهمت من العرض ؟ ...
وبناء على ما سبق ارى ان هذا التكرار اللافت يقودنا إلى تساؤل جوهري: هل يسعى أنس إلى بناء أسلوب مسرحي شخصي؟ أم إلى تأسيس اتجاه مسرحي عام؟ أم ربما لم يعد هدفه (الإبداع) بمعنى المفاجأة، بل (التثبيت) لمشروعه ؟ ،من هذا المنطلق ربما إن (أنس) يعمل من أجل تأسيس (اتجاه) مسرحي يمكن أن يتبعه الآخرون، بعد ان (يثبت) لتشكيل بصمة إخراجية ذاتية (اسلوب ذاتي)، متميزة وذات طابع خاص ، فوجود هذه البصمة يعني أن العرض (يعرف نفسه جيداً) ،إذاً، هو يبني أسلوباً، ولكن هل سيستمر هذا الاسلوب ؟ وهل سيطرأ على تجربته متغير اسلوبي جديد ؟ ، وفي حال استمرت هذه الاستراتيجية ماذا سيحصل ؟ ارى انها تحمل بداخلها مخاطرة اخرى كالمخاطرة السابقة : فعندما يصبح الأسلوب أشبه بـ (آلة إعادة إنتاج)، خصوصا عندما يتم جعل المفردات نفسها تتكرر بصرياً وحركياً، يُصبح المتلقي – خصوصاً ذاك المطلع – في حالة (توقع مسبق) ، ربما يقلل من إمكان المفاجأة ، ويزيد من إحساس التكرار، قد البعض يقول :( إن أنس توقف عن الإبداع ، لكني ارى انه دخل في مرحلة الاستقرار والثبات ، بمعنى هو أقر أسلوبه .
اما عن الاسئلة السابقة ماذا يريد (انس) وماذا يريد ان يقوله ؟ ، يبدو أن أنس لا يهدف إلى إجابة صريحة، فعروضه تقدم كمداخل إلى فضاءات تساؤل أكثر من كونها تقدم اجابات . في (نحن من وجهة نظر قِط)، مثلاً، مفردة (القط) تُضاف إلى مفرداته السابقة، لكنها لا تُقدم فك شيفرة، وانما تفتح مزيداً من الأسئلة: من نحن؟ ما ذا نفعل؟ من ينظر؟ من يُراقب؟ لماذا نتحول إلى نفايات؟ والخ... ارى انه يريد أن يسأل، اكثر من ان يجيب ، بمعنى يريد أن يخلخل النسق الاداركي للمتلقي ، وهذا جوهر المسرح فما الحاجة من تقديم اجابات على طبق من حوار او تقديم معنى جاهز ، فما يطرحه (أنس) هو تفكيك للنسق الإدراكي، وهذا هو جوهر المسرح ، لا استجابة لفضول الجمهور، ولا محاولة لإرضائه بإجابات (جاهزة) كما تفعل محركات البحث أو أدوات الذكاء الاصطناعي ، فهو يقاوم هذا النمط من التلقي الكسول، عندما تقدم الأفكار كما لو كانت وجبة في مطعم سريع: سريعة، معلبة، بلا حاجة للتفكير أو الهضم، ولهذا، لم يكن عبثياً أن يُختم العرض بصورة (ماجد درندش) المعدلة بتقنيات الذكاء الاصطناعي ، كأنها إشارة ساخرة إلى أن الجمهور، في زمن الرقمنة والانصياع لمعطيات الريلز واصحاب المحتوى . ولكن الأدهى من ذلك أن الجمهور يعرف (القط)، ويتعرض لافتراسه، لكنه يعيد إنتاجه ويدافع عن أيديولوجيته ، حتى وهو يبتلعه، ارى إننا، في الواقع، لا نحتاج إلى اكذوبة الانسان (غودو) كما في مسرح (بيكيت)، بقدر ما نحتاج إلى أن نفكك هذا القط الذي يسكن فينا، وهذا جوهر ما يميز مشروع (انس) المسرحي اليوم والذي اطلق عليه في الجلسة النقدية هو : مشروع أسئلة لا أجوبة، مشروع خلخلة لا طمأنة ! .
وفي الختام اكرر نفس السؤال ماذا يريد أنس ؟ ...






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في العرض المسرحي طلاق مقدس
- جدلية السيد والعبد قراءة في البنية القبلية العراقية


المزيد.....




- نادر صدقة.. أسير سامري يفضح ازدواجية الرواية الإسرائيلية
- صبحة الراشدي: سوربون الروح العربية
- اللحظة التي تغير كل شيء
- أبرزها قانون النفط والغاز ومراعاة التمثيل: ماذا يريد الكورد ...
- -أنجز حرٌّ ما وعد-.. العهد في وجدان العربي القديم بين ميثاق ...
- إلغاء مهرجان الأفلام اليهودية في السويد بعد رفض دور العرض اس ...
- بعد فوزه بجائزتين مرموقتين.. فيلم -صوت هند رجب- مرشح للفوز ب ...
- حكمة الصين في وجه الصلف الأميركي.. ما الذي ينتظر آرثر سي شاع ...
- الأنثى البريئة
- هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخاً بديلاً عن الإنسان؟


المزيد.....

- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- پیپی أم الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي جميل هلال - ماذا يريد انس عبد الصمد