|
|
هوية مصر بين جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل
حسام محمد عبد المعطي أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 22:10
المحور:
الادب والفن
هوية مصر بين جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل
شهدت الهوية المصرية سجالًا فكريًا واسعًا خلال القرن العشرين، حيث تعددت الرؤى حول انتماء مصر الحضاري والثقافي والسياسي. ومن أبرز من تناول هذا الموضوع اثنان من كبار المفكرين المصريين: جمال حمدان الجغرافي والمؤرخ، ومحمد حسنين هيكل الكاتب والصحفي السياسي. يقدم كل منهما منظورًا مميزًا لهوية مصر؛ فجمال حمدان ركّز على عبقرية المكان وتراكم التاريخ والثقافة، بينما انصب اهتمام محمد حسنين هيكل على البعد السياسي والقومي (العروبي) لمصر في محيطها العربي. تهدف هذه الدراسة إلى مقارنة رؤيتي حمدان وهيكل لهوية مصر، مع إبراز نقاط الالتقاء والاختلاف بينهما، وتقييم إسهام كل منهما في تشكيل الوعي العام بالهوية المصرية في القرن العشرين. تهدف المقالة لفهم وتحليل هوية مصر عند كل من جمال حمدان وهو واحد من أهم الجغرافيين المصريين وهو صاحب رؤية مهمة للغاية ويعد كتابه الأشهر شخصية مصر واحداً من أهم جمال حمدان: عبقرية المكان وتعدد الأبعاد في هوية مصر: - جمال حمدان (1928–1993) كان جغرافيًا ومفكرًا موسوعيًا عكف على دراسة شخصية مصر عبر تاريخها وجغرافيتها الفريدة. في عمله الأشهر «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان» (1967 ثم الطبعة الموسعة 1984)، قدّم حمدان رؤية شاملة لهوية مصر ترتكز على تفاعل الجغرافيا بالتاريخ. أكّد حمدان أن موقع مصر الفريد عند ملتقى قارّات وحضارات قد أكسبها شخصية حضارية مميزة. فهي عنده “ملكة الحد الأوسط” التي تمتص مختلف الثقافات الوافدة وتصهرها في نسيج مصري خاص . ويرى أن الشعب المصري عبر تاريخه الطويل امتلك قدرة فائقة على استيعاب الغزاة والمؤثرات وصبغها بطابعه المحلي، فمهما تعددت الطبقات الحضارية (فرعونية، ويونانية-بطلمية، وقبطية، وعربية-إسلامية) ظلّت الهوية المصرية جوهرية ثابتة رغم تغير أشكالها. بهذا المعنى، يؤكد حمدان على امتداد واستمرار التاريخ المصري؛ فالقديم في مصر لا يزال حيًا في وجدانها الثقافي حتى اليوم. ركز جمال حمدان على البعد الجغرافي بوصفه عنصرًا حاسمًا في تشكيل الهوية. فمصر بالنسبة له ليست مجرد دولة قطرية محدودة، بل هي قلب إقليمي ومركز حضاري منذ أقدم العصور. يشير حمدان إلى أن مصر كانت تاريخيًا “قطب قوة وقلب إقليم” في محيطها، حتى في أشد حالات ضعفها، ولم تكن يومًا على هامش كيان آخرt. هذه الخصوصية الجغرافية ربطت مصير مصر بمحيطها الأوسع. وفي الفصل الأخير من «شخصية مصر» الذي حمل عنوان «مصر والعرب»، خلص حمدان إلى نتيجة محورية مفادها أن «لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية». لقد رأى أن العروبة هي الامتداد الحضاري الطبيعي لمصر بحكم التاريخ واللسان والدين، دون إنكار لجذورها الأقدم. ففي صياغة بليغة قال: “مصر فرعونية بالجد، عربية بالأب”، أي أن مصر ولدت من جد حضاري فرعوني لكنها تربّت ونمت في كنف أب عربي، ويضيف حمدان أن كلا الأصلين (الجد الفرعوني والأب العربي) يلتقيان في جذور بعيدة مشتركة، إلا أن الهجرة العربية والإسلامية إلى مصر أحدثت تغييرًا جوهريًا في ثقافة مصر ولغتها لصالح الهوية العربية، وعلى هذا الأساس اعتبر حمدان عروبة مصر محسومة مع اعتزازه في الوقت نفسه بأصالتها الفرعونية الضاربة في القدم لم يقف حمدان عند التأطير النظري لهوية مصر، بل استدلّ بالتاريخ على ترابط المصير المصري والعربي. فهو يشير إلى أن أعظم إنجازات مصر القومية تحققت ضمن الإطار العربي والإسلامي؛ فمثلًا كان توسّع محمد علي في القرن التاسع عشر يفوق ما حققه الفراعنة القدماء، وكانت معارك مصر المصيرية والانتصارية مثل حطين (1187م) وعين جالوت (1260م) بقيادة قطز وبيبرس، ثم معارك العصر الحديث كحرب أكتوبر 1973، كلها في سياق الدفاع عن الأمة الأوسع. واستنتج حمدان من ذلك أن قدر مصر الاستراتيجي هو الوحدة العربية، فرضته حقائق الأمن والجغرافيا؛ إذ إن التهديدات التاريخية لأمن مصر جاءت أساسًا عبر بوابتها الشرقية في بلاد الشام. لذلك يرى أن من يهدد أمن المشرق العربي يهدد تلقائيًا أمن مصر، وأن مصر خاضت معظم حروبها الكبرى على أرض الشام دفاعًا عن نفسها وعن محيطها. ويُذكَر أن جمال حمدان كان أيضًا صاحب موقف قومي واضح، فهو “من المدافعين عن هوية مصر والقضايا العربية، وعلى رأسها الفلسطينية، مما يعكس إيمانه العميق بأن الهوية المصرية والعروبة متلازمتان في وجه الاستعمار والمخاطر المشتركة. وباختصار، جسّد جمال حمدان هوية مصر كهوية مركّبة متعددة الطبقات: جذور حضارية قديمة متواصلة، وهوية وطنية حديثة منفتحة، تصب جميعها في إطار عروبة مصر التي تعد تتويجًا لمسيرة تاريخها الجغرافي والحضاري. محمد حسنين هيكل (1923–2016) كان صحفيًا وكاتبًا سياسيًا بارزًا ارتبط اسمه بسياسات مصر في عصرها الحديث، خاصة خلال حقبة الرئيس جمال عبد الناصر. ويشكل هيكل واحداً من أهم الصحفيين المصريين في القرن العشرين ويعد أكثرهم شهرة وتأثير في الأوساط الصحفية والفكرية المصرية والعربية، انطلق هيكل في رؤيته لهوية مصر من منظور سياسي وقومي عملي، تشكّل خلال عمله الصحفي وعلاقته الوثيقة بصناعة القرار. لقد آمن هيكل بأن مصر جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وأن انتماءها العربي ليس خيارًا، بل هو قدر جغرافي وتاريخي. بل يُروى عنه قوله إن مصر لا يمكنها إلا أن تكون عربية – وهو نفس الاستنتاج الذي وصل إليه حمدان. وقد انعكست هذه القناعة العروبية العميقة في كتابات هيكل ومواقفه طوال مسيرته. ففي مقالاته السياسية (مثل سلسلة مقالاته الأسبوعية "بصراحة" في الأهرام) وفي كتبه العديدة، شدّد هيكل على مركزية البعد العربي في الهوية المصرية المعاصرة. كان يرى أن تجربة مصر الحديثة، بما فيها كفاحها ضد الاستعمار وحروبها مع إسرائيل، لا تنفصل عن محيطها العربي؛ فمصر قائدة للعالم العربي ومتأثرة به في آن واحد. لذلك انتقد هيكل أي توجه لعزل الهوية المصرية عن سياقها العربي، واعتبر القومية المصرية الحقة مرتبطة بالعروبة. وقد لخّص هذه الفكرة بقوله إن “حب المصري لمصر يُقاس بمدى عروبته، والمصري الأكثر مصرية هو المصري الأكثر عروبة. بمعنى أن الانتماء للعروبة يُعمّق الانتماء الوطني لمصر، وأن من ينادي بمصرية منعزلة ضيقة الأفق إنما ينتقص دون قصد من رصيد مصر الحضاري ودورها الإقليمي. يشير هيكل إلى فكرة الأمن القومي المصري بمجموعة من المحددات التي يمكن التأكيد عليها وهي: - أولا: - أن مصر مرتبطة بمحيطها الإقليمي العربي ولا يمكنها الحياة بدون الارتباط والتفاعل مع هذا المحيط، فلا يمكن أن تكون بمعزل عن محيطها الإقليمي تاريخياً وجغرافياً. ثانياً: - أن مصر بلد لا يمكن أن تدافع عن نفسها من داخل حدودها، وأن أمنها القومي يكمن في محيطها الإقليمي، وأنه على مدار التاريخ من الأهم والأقوى لمصر يكمن في بلاد الشام. ثالثاً: - أن أمن مصر الاقتصادي يكمن خارج أراضيها بشكل عميق، حيث أن مصر لا تستطيع الاستغناء بمواردها الخاصة عن جيرانها، فالمياه المصرية تأتي كلها تقريباً من خارج أراضيها، أن الموارد الاقتصادية جزء كبير منها خارج أراضيك، ركز هيكل على البعد السياسي لهوية مصر، مناديًا بأن مصر يجب أن تنظر لنفسها كدولة ذات رسالة ودور يتجاوز حدودها الجغرافية الضيقة. وقد ظهر ذلك جليًا في تحليلاته لمواقف القيادة السياسية المصرية عبر العصور. فهو على سبيل المثال انتقد رؤية الرئيس أنور السادات التي انكفأت – في نظره – على القطر المصري وحده بعد 1974، معتبرًا أن حصر مصر في حدودها الجغرافية تنكّر لحقيقة دورها التاريخيfacebook.com. كتب هيكل أن حاكم مصر ينبغي أن تتجاوز رؤيته حدود بلاده، لأن وزن مصر ومكانتها يفرضان ارتباطها الدائم بقضايا أمتها العربية. ومن هذا المنطلق، عارض هيكل النهج الذي ركّز على شعار "مصر أولًا" إن كان على حساب التضامن العربي. وهو يرى أن استقلال مصر وأمنها القومي لا ينفصلان عن محيطها، تمامًا كما أكد حمدان من قبل في سياق آخر. ويذهب هيكل إلى أن مصر إذا انعزلت عن العرب فإنها تفقد عمقها الإستراتيجي وهويتها المكتملة. كان دعم القضايا العربية وخصوصًا قضية فلسطين جزءًا أساسيًا من خطاب هيكل بشأن هوية مصر ودورها. فقد أدرك “خطورة الكيان الصهيوني وحتمية الصراع الوجودي معه، وشدد على أن المواجهة مع إسرائيل ليست معركة قطرية تخص مصر وحدها بل هي معركة عربية جماعية. وفي سلسلة كتبه “حرب الثلاثين سنة” وكذلك في أحاديثه الإعلامية الأخيرة، دعا إلى وحدة الصف العربي باعتبارها ضرورة لكي يكون العرب جزءًا فاعلًا من العالم. نُقل عنه قوله: “لا يمكن للعرب أن يكونوا جزءًا من العالم دون أن يكون بينهم وحدة سياسية، في إشارة واضحة إلى أن قوة الهوية المصرية ترتبط بوحدة الهوية العربية الأوسع. وعليه، رأى هيكل أن العروبة ليست مجرد بعد ثقافي لمصر، بل هي أيضًا خيار سياسي ومصيري فرضته ظروف ما بعد الاستعمار والتحديات المشتركة أمام الدول العربية في القرن العشرين. وقد تلاقى في رؤيته هذه مع التوجه الذي ساد حقبة جمال عبد الناصر، والذي كان هيكل أحد مهندسيه الإعلاميين والفكريين. إلى جانب محتوى الأفكار، تميّز محمد حسنين هيكل بدور خاص في تشكيل الوعي العام بالهوية والقضايا القومية من خلال أسلوبه الصحفي. فقد كانت كتاباته بمثابة جسر يصل الفكر الإستراتيجي بالنخبوي (كما عند حمدان وغيره) بالجمهور العام. يصف بعض الباحثين هيكل بأنه قام “بترجمة وتبسيط أعمال حمدان ورفاقه ورؤية عبد الناصر إلى رؤية سياسية للقارئ العادي والمواطن البسيط. أي أنه أخذ الأفكار المعقدة حول الهوية والدور التاريخي لمصر وصاغها بلغة الصحافة المفهومة للجماهير، تمامًا كما ترجم مارتن لوثر الإنجيل للعامية في أوروباز بهذه المهارة الإعلامية، كسر هيكل احتكار النخبة للمفاهيم الإستراتيجية ووضعها في متناول الناس. فمثلًا، خلال حقبة المد القومي في الخمسينيات والستينيات، ساهم هيكل عبر منصبه كرئيس تحرير الأهرام وكاتب مقالاتها السياسية في تعبئة المشاعر الوطنية والعربية عند المصريين. وقد توازى خطابه مع الخطاب الرسمي في تمجيد فكرة "الوطن العربي الأكبر"، فجاءت الأغاني والأفلام في عهده تجسد حلم الوحدة العربية وتغذي شعور المواطن المصري بأنه جزء من أمة تمتد من الخليج إلى المحيط. هكذا لعب هيكل دورًا محوريًا كالمفسر الأكبر» لهوية مصر العربية بلغة السياسة اليومية. التشابهات والاختلافات بين رؤيتي حمدان وهيكل: - بالرغم من اختلاف خلفية كل من جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل ومنهجية تحليلهما، فإن رؤيتيهما لهوية مصر تتقاطعان في عدة نقاط جوهرية. أولًا: - يتفق الاثنان على محورية البعد العربي في تعريف هوية مصر. كلاهما يرفض فكرة القومية المصرية المنعزلة أو القوقعة حول الفرعونية فقط، ويؤكدان أن مصر جزء أصيل من العالم العربي بحكم التاريخ والجغرافيا والمصير. رأى حمدان في العروبة امتدادًا طبيعيًا لشخصية مصر المتطورة عبر القرون، كما اعتبرها هيكل معيارًا لصدق الانتماء الوطني ثانيًا: - وظّف كلاهما قراءة التاريخ لتعزيز طرحهما: حمدان عبر تحليل طويل المدى يمتد لآلاف السنين يبرز استمرارية الشخصية المصرية وتفاعلها مع موجات التاريخ، وهيكل عبر تركيزه على تاريخ مصر الحديث ودروس السياسة والصراع في القرن العشرين لإثبات أن مصر لا تستطيع النهوض وحدها دون محيطها ثالثًا: - تبنى كلا المفكرين منظورًا يتسم بالشمولية في فهم الهوية؛ فحمدان مزج بين علوم الجغرافيا والتاريخ والثقافة لتكوين صورة تكاملية، وهيكل مزج بين التحليل السياسي الداخلي والخارجي لرسم إطار دور مصر. النتيجة في الحالتين واحدة: هوية مصر متعددة الأبعاد، ولكن عمودها الفقري عربي. وكلاهما ربط أمن مصر ونهضتها بتضامنها مع العالم العربي ومواجهتها للأخطار ضمن كتلة واحدة. مع ذلك، هناك فوارق واضحة بين النهجين. يتجلى الاختلاف الأول في زاوية المعالجة وأسلوب الخطاب: جمال حمدان يكتب بلغة الباحث الأكاديمي، يغوص عميقًا في طبقات التاريخ والجغرافيا ويستند إلى منهج علمي تحليلي رصين. وتشكل موسوعة شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان المكونة من أربعة أجزاء الصادرة في القاهرة 1975، أهم وأبرز مؤلفات حمدان، ولم ينال جمال حمدان حتى الآن ما يستحقه من اهتمام من قبل المثقفين، ورغم ما نال بعد وفاته بعضا من الاهتمام الذي يستحقه، إلا أن المهتمين بفكر جمال حمدان صبوا جهودهم على شرح وتوضيح عبقرياته الجغرافية، متجاهلين في ذلك ألمع ما في فكر حمدان، وهو قدرته على التفكير الاستراتيجي حيث لم تكن الجغرافيا لدية الا رؤية إستراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشرى وحضاري ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذو بعد مستقبلي أيضا. ففي كتابه الأهم شخصية مصر يُعنى جمال حمدان بـأنّ “شخصيّة مصر” ليست فقط تجمّعًا من المعطيات الجغرافية أو التاريخية، بل هي عبقريّة المكان — أي الروح التي يكتسبها الإقليم من تفاعل الأرض، والمكان، والشعب، والزمان. بمعنى آخر: مصر ليست مجرد مساحة بيئية أو تاريخية، بل منطقة ذات شخصية متفردة نشأت عبر تفاعل موقعها الجغرافي، مواردها، تاريخها، بنيتها البشرية، وإمكاناتها كما يرى حمدان أن الجغرافيا ليست علمًا نمطيًا ثابتًا، بل ظرفًا يتفاعل مع الإنسان والتاريخ. وبالتالي فإن الهوية المصرية عند حمدان تتمحور حول مفهوم عبقرية المكان، حيث يرى أن جغرافيا مصر وتاريخها المتراكم هما أساس تكوين هويتها الفريدة والمميزة. يربط حمدان الهوية بالجذور الجغرافية العميقة لدرجة جعلها حتمية، حيث تكون مصر "فرعونية بالجد، عربية بالأب"، مؤكداً على التكامل بين هذه الأصول بدلًا من الصراع بينها، هكذا يمكن فهم هوية مصر مما أسماه جمال حمدان: عبقرية المكان الذي يتعامد عليه الزمان في تعاقب قرونه وحقبه. ولذلك فهوية مصر هي ناتج تفاعل الحقب التي مرت عليها جميعا. وليست هذه الهوية بالتأكيد هي ناتج حقبة بعينها، يمكن اختزال هوية مصر فيها أو قصرها عليها وحدها في تجاهل لغيرها من الحقب التي لا تزال فاعلة، والتي يصنع مجموعها في تفاعله- رأسيا وأفقيا- هوية مصر التي لا تنفصل عن عبقرية مكانها. أما هيكل فيكتب كصحفي ومحلل سياسي متمرس، أسلوبه مباشر وموجه للرأي العام، يمزج المعلومة بالخبرة السياسية ويهدف إلى التأثير الفوري في وعي القراء وصناع القرار. لذلك فإن كتاب «شخصية مصر» لحمدان موسوعي الطابع وغني بالتفاصيل التاريخية والجغرافية، بينما تميل كتابات هيكل (كمقالاته وكتبه السياسية) إلى التركيز على سرد الأحداث الحديثة واستخلاص العبر الإستراتيجية منها فيما يخص هوية ودور مصر. الاختلاف الثاني يكمن في نطاق الزمن والاهتمام الحضاري: حمدان أولى اهتمامًا كبيرًا بالجذور القديمة لمصر (الفرعونية وما قبلها) وأوضح كيف أنها لم تختفِ تمامًا، بل تفاعلت مع المكوّن العربي الإسلامي، في حين كان هيكل أقل اهتمامًا بإبراز الفرعونية كعنصر راهن في الهوية، وربما اعتبرها إرثًا تاريخيًا عظيمًا لكنه انتهى دوره المباشر عند حدود الماضي. فعندما سُئل هيكل عن موقفه من إحياء الهوية الفرعونية، قيل إنه وصف الحضارة الفرعونية بأنها عظيمة لكنها “انتهت عند القبر ودُفنت مع ملوكها، ولا لسان لها اليوم إلا على ألسنة الأجانب” – في إشارة إلى أن اللغة المصرية القديمة اندثرت وحلت محلها العربية، وبالتالي فالحاضر متصل أكثر بالعروبة (هذه الفكرة منسوبة لهيكل وتعكس موقفه العملي من الفرعونية) ، لذلك، حمدان يُبرز تعدد طبقات الهوية عبر العصور، بينما هيكل يُبرز أولوية الطبقة الحديثة العروبية وتفاعل مصر السياسي ضمن محيطها في القرن العشرين. الاختلاف الثالث في طريقة الوصول إلى الجمهور: تأثير حمدان كان ملموسًا ضمن الأوساط الأكاديمية والثقافية وعلى المدى البعيد؛ كتاباته قد تُدرّس في الجامعات وتستلهم منها الأجيال الجديدة فهمًا عميقًا لتاريخ مصر وهويتها. أما هيكل فوصل صوته مباشرة إلى ملايين القراء والمشاهدين من خلال الصحافة والتلفزيون، وكان تأثيره آنيًا وواسعًا في تشكيل الرأي العام وتوجيه الإدراك الشعبي لمسائل الهوية والوطنية في خضم أحداث جارية. ورغم هذه الفوارق، تظل الرؤيتان متكاملتين أكثر منهما متعارضتين: رؤية حمدان توفر الأساس النظري والتاريخي لهوية مصر، ورؤية هيكل تقدم التطبيق السياسي الواقعي لهذا الأساس في سياق عصرهم. إسهام حمدان وهيكل في تشكيل الوعي بهوية مصر: - كان لكل من جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل دور بارز في بلورة وعي المصريين بهويتهم الوطنية والقومية خلال القرن العشرين. جمال حمدان، عبر مؤلفاته وأبحاثه، أعاد اكتشاف “عبقرية المكان” المصري لجمهور القراء والنخبة المثقفة. كتابه «شخصية مصر» بجهوده التأصيلية العميقة أصبح مرجعًا لا غنى عنه لفهم تركيبة الهوية المصرية تاريخيًا وجغرافيًا. وقد تأثر به العديد من الباحثين وصُنّاع الفكر في مصر والعالم العربي. حتى في الوقت الحاضر، لا يزال صدى أفكار حمدان مسموعًا؛ فقد اختير شخصية العام في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2020 تقديرًا لإسهاماته، وأشاد الرئيس المصري الحالي ببعض تنبؤاته وبدراساته وعلى رأسها كتاب «شخصية مصر، هذا يدل على أن أطروحات حمدان حول الهوية رسخت في الخطاب الثقافي الرسمي والشعبي على حد سواء. لقد زرع في الأذهان معادلة مفادها أن المصري يمكنه أن يعتز بماضيه الفرعوني وقوميته العربية في آن واحد دون تعارض، بل إن هذه التوليفة الفريدة هي مصدر قوة وتميّز لمصر. أما محمد حسنين هيكل، فكان تأثيره ملموسًا إعلاميًا وجماهيريًا. فبفضل منصبه رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام لسنوات طويلة، ومستشارًا مقربًا لقيادات الدولة في عهد ناصر، استطاع أن يوجه دفة الخطاب العام نحو تبنّي هوية قومية عربية واضحة. مقالاته السياسية وتحليلاته في ستينيات القرن الماضي ساهمت في تعبئة الشعب المصري وإقناعه بأن قضايا الأمة العربية هي قضايا مصرية أيضًا. وقد تجسّد هذا الوعي لدى المواطن العادي في مشاعر الفخر عند الحديث عن عروبة مصر ودورها الريادي بين “أشقائها” العرب، وفي الاستعداد للتضحية دفاعًا عن قضايا عربية مشتركة مثل فلسطين. حتى بعد ابتعاده عن موقع القرار إثر خلافه مع السادات في السبعينيات، استمر هيكل عبر كتبه وحواراته التلفزيونية في تثقيف الأجيال الجديدة بسياق مصر العربي. خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهر هيكل في سلسلة من البرامج الحوارية التلفزيونية (مثل برنامج «مع هيكل» عام 2010–2011) ليسرد للمشاهدين تاريخ مصر الحديث وعلاقته بمحيطه، محاولًا بذلك ربط الماضي بالحاضر وتعزيز الوعي السياسي والتاريخي لدى الشباب. لقد كان ينظر إليه كـ «ذاكرة الأمة» الحية، وكانت تحليلاته تُشكّل وعيًا جمعيًا بماهية الشخصية المصرية وموقعها من العالم. وبالرغم من بعض الجدل الذي أحاط بمواقفه السياسية أواخر حياته، فإن إرثه الفكري ترك بصمة واضحة: من الإيمان بوحدة المصير العربي إلى فهم تعقيدات الهوية المصرية في عصر العولمة. باختصار، أسهم حمدان وهيكل، كلٌ بطريقته، في تربية الوعي الوطني والقومي لدى المصريين. جمع حمدان بين دفتي كتبه خلاصة عبقرية المكان المصري عبر العصور، بينما قدم هيكل على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز رواية مصر الحديثة المرتبطة بأمّتها العربية. وكانت المحصلة تعزيز شعور المصريين بهويتهم المركبة؛ هوية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ المصري القديم، وتزدهر بأوراقها في فضاء العروبة والإسلام في العصر الحديث. وقد وفّر فكرهما سندًا نظريًا ومعنويًا للأجيال التي خاضت معارك البناء والتحرر والوحدة طوال القرن العشرين. تشكل هوية مصر عند حمدان وهيكل وجهين متكاملين لصورة واحدة. فكلاهما انطلق من قناعة بأن هوية مصر متعددة الأبعاد وتتشكل عبر تراكم تاريخي طويل، لكنها في جوهرها الراهن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بانتماء مصر العربي. استخدم حمدان أدوات الجغرافيا والتاريخ والثقافة ليثبت أن شخصية مصر ولدت من رحم بيئتها الفريدة وتاريخها العريق، فلم تقطع مع أي مرحلة من مراحلها الحضارية، بل استوعبتها جميعًا في تركيبتها. أما هيكل فاستند إلى الواقع السياسي والتجربة المعاصرة ليبرهن أن مصر الحديثة لا يمكن أن تعزل نفسها عن الأمة العربية دون أن تخسر ذاتها ومكانتها وبينما شدد الأول على عبقرية المكان، ركز الثاني على عبقرية الدور الذي يجب أن تضطلع به مصر في محيطها. وقد التقت رؤيتاهما عند نقطة أن مصر “فرعونية الأصل، عربية الجوهر” إن صح التعبير – فرعونية الحضارة الضاربة في عمق التاريخ، عربية الثقافة واللسان والانتماء في حاضرها ومستقبلها. إن مقارنة كهذه تظهر لنا كيف ساهمت الخلفية الأكاديمية لحمدان والخبرة الصحفية لهيكل في صياغة طرحين متمايزين شكليًا، لكنهما متناغمان ضمنيًا. لقد أضاء حمدان الأسس والجذور، ووضع هيكل البناء والمعالم فوق هذه الأسس. ولا يزال المصريون حتى اليوم ينهلون من إرث الاثنين معًا لفهم ذاتهم الوطنية: يستذكرون مقولات حمدان حول عبقرية مصر، ويتداولون تحليلات هيكل لدور مصر العربي وموقعها الدولي. وفي ظل ما تواجهه الهوية المصرية من تحديات في القرن الحادي والعشرين – سواء من عولمة ثقافية أو تجاذبات إقليمية – يبقى فكر حمدان وهيكل مرجعًا يلهم صانعي السياسات والمثقفين للتوفيق بين تعددية مكونات الهوية ووحدتها. فمصر التي وصفها حمدان يومًا بأنها “مفتاح العالم العربي، وأصرّ هيكل أنها قلب العروبة النابض، ستظل تستمد قوتها من وعي أبنائها بهويتهم المركبة الغنية. بهذا المعنى، تمثل رؤيتا حمدان وهيكل درسين متكاملين: الأول في أهمية فهم جذور الهوية، والثاني في ضرورة استشراف دورها ومستقبلها. ومن خلالهما نتبين أن هوية مصر ليست مجرد شأن نظري أو تاريخي، بل هي بوصلة عمل للمستقبل، تكفل لمصر أن تبقى أم الدنيا وحاضنة حضارتها، وعضوًا فاعلًا في أسرتها العربية في آن واحد.
#حسام_محمد_عبد_المعطي_أحمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إسماعيل وتغيير نظام وراثة حكم في مصر
-
ثقافة مهندسي الري في مصر في القرن التاسع عشر
-
بنك مصر في ذكري مرور مائة عام على تأسيسه
-
عصر الصورة في مصر الحديثة
-
المبعوثين المصريون إلي فرنسا خلال عصر محمد علي باشا
المزيد.....
-
المخرج طارق صالح - حبّ مصر الذي تحوّل إلى سينما بثمن باهظ
-
-إنّما يُجنى الهدى من صُحبة الخِلّ الأمين-.. الصداقة الافترا
...
-
مؤسس -هاغينغ فيس-: نحن في فقاعة النماذج اللغوية لا الذكاء ال
...
-
مسرحية -عيشة ومش عيشة-: قراءة أنثروبولوجية في اليومي الاجتما
...
-
محمد إقبال: الشاعر والمفكر الهندي الذي غنت له أم كلثوم
-
مصر: رصد حالات مصابة بالحمى القلاعية بين الماشية.. و-الزراعة
...
-
موسم الدرعية يطلق برنامج -هَل القصور- في حيّ الطريف
-
المدينة والضوء الداخلي: تأملات في شعر مروان ياسين الدليمي
-
مكان لا يشبهنا كثيراً
-
لقطات تكشف عن مشاهد القتال في فيلم -خالد بن الوليد- المرتقب
...
المزيد.....
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|