أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - حسام محمد عبد المعطي أحمد - بنك مصر في ذكري مرور مائة عام على تأسيسه















المزيد.....


بنك مصر في ذكري مرور مائة عام على تأسيسه


حسام محمد عبد المعطي أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 6777 - 2021 / 1 / 2 - 15:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


في ذكري مرور مائة عام على تأسيس بنك مصر لا يمكن تجاهل ذلك الصرح الاقتصادي الكبير الذي شيد في أعقاب واحدة من أعظم الثورات الوطنية المصرية في عام 1919، والحقيقة أن تأسيس البنك يشكل أهم حدث اقتصادي في تاريخ مصر الاقتصادي خلال القرن العشرين، فلم يكن تأسيس بنك مصر مجرد عمل اقتصادي محض، فقد كان نتاج تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة مرت بها مصر على مدار ما يقارب خمسون سنة سابقة، كما كان لا تأسيسه أثار اقتصادية واجتماعية عميقة ظلت تطور لتشكل ميلاد الصناعة الوطنية بشكلها الجلي، فخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر برز تدفق تيار التدخل الأجنبي العارم، وظهر التناقض الواضح بين السلطة الشرعية الأوتوقراطية (الخديو ) ورأس المال الأجنبي من ناحية، وبين القوي الاجتماعية المصرية التي أضيرت من جراء هيمنة رأس المال الأجنبي على مفاصل الاقتصاد المصري. فكانت المعارضة الوطنية المتنامية التي لعبت دوراً بارزاً في التمهيد لثورة مصرية حقيقية (الثورة العرابية) عام 1881-1882، وكانت فكرة تأسيس البنك الوطني التي برزت في تلك الأيام تمثل محاولة من جانب البورجوازية المصرية الوليدة للتخلص من نير رأس المال الأجنبي والخروج من فلكه لتحقيق الاستقلال الاقتصادي كقاعدة حصينة تقي البلاد من السيطرة السياسية الغربية.
شهدت بداية القرن العشرين نمو واضح لحركة النهضة المصرية وقد جاء ذلك في الواقع نتيجة لمجموعة من العوامل المختلفة منها ما كان داخلي وأخر خارجي ويمكننا توضيحها فيما يلي:
أولاً: انتشار الثقافة العربية ونموها بسبب انتشار الصحف، فقد تأسس عدد كبير من الجرائد خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ونشطت هذه الصحف لتلعب دور قنوات الاتصال التي تعبر عن الاتجاهات السياسية والاجتماعية والفكرية المختلفة، واستمر هذا المناخ الثقافي مزدهراً في عهد الاحتلال، وتكونت منابر ثقافية كبيرة تمثلت في مجلة الهلال ومجلة المقتطف والكتابات والترجمات التي نشرت بالصحف وطرحت الجديد في الفكر والعلم والثقافة، وخلقت اهتماماً بين نخبة المثقفين المصريين بما يدور علي الجانب الآخر في الغرب، وفتحت الباب علي مصراعيه لمناقشة قضايا التطور والتخلف، والبحث عن طريق لنهضة مصر.
ثانياً: نمو الروح القومية بسبب وجود قوات الاحتلال الأجنبي على أرض مصر، فبقيام الحرب العالمية الأولى وجدت لندن الفرصة للقضاء على تبعية مصر للدولة العثمانية وجعلها أشبه بالمستعمرة رغم إعلان حيادها في 3 أغسطس ولكن أملي على مصر أن تخرج عن هذا الحياد بعد يومين فقط، وأصبح مكسويل قائد جيش الاحتلال الآمر الناهي والمتصرف الوحيد في شئون مصر، وفرضت السلطة العسكرية الرقابة على المطبوعات وكممت الأفواه ألغيت بعض الصحف والمجلات، في الوقت الذي أصبحت فيه مصر معسكراً لجيوش بريطانية.
ثالثاً: الهيمنة الاقتصادية البريطانية على الاقتصاد المصري، فقد شكل الاحتلال البريطاني منذ احتلاله مصر المصالح الانجليزية في كل جوانب الاقتصاد المصري، وطغت المصالح الأجنبية على مصالح الاقتصاد الوطني، وتغلغل النفوذ الاقتصادي الأجنبي الماثل في البنوك والشركات والمتاجر والمصانع الأجنبية عامة، وكانت بريطانيا قد حققت باحتلالها لمصر هدفاً كانت تسعي إليه منذ بداية القرن التاسع عشر، وهو ضمان مورد دائم مستقر للمادة الأولية التي تحتاجها صناعات القطن الانجليزية، فقد ارتفعت صادرات مصر إليها باستمرار لتصل إلى 93 % من إجمالي الصادرات منذ عام 1910، كذلك قفزت الواردات البريطانية لتمثل 63% من إجمالي الواردات بعد سنوات قليلة من الاحتلال 1885/ 1889. وإذا كان ما أطلقت عليه سلطة الاحتلال الإصلاح النقدي في مصر كان بهدف القضاء على فوضى العملات الأجنبية المتداولة في السوق المصرية في عام 1885 فقد كان بهدف دعم انتشار استخدام الجنية الاسترليني على حساب العملات الأجنبية، ثم ضم مصر في النهاية إلى منطقة الإسترليني عام1916، وبذلك تمكنت بريطانيا من إدارة الاقتصاد المصري بأكمله لصالحها. فقد استطاعت انجلترا بضم مصر الى منطقة الإسترليني أن تحصل على جميع احتياجاتها من السوق المصري مقابل تقديم سندات الحكومة البريطانية.
وقد بلغت الديون البريطانية لمصر بعد الحرب العالمية الأولى حوالي 100 مليون جنيه إسترليني، وقد عانت مصر كثيراً في سبيل استعادة أو استخدام تلك الأموال فقد تعرضت ديون مصر لدى انجلترا الى التجميد ثم إلى التخفيض نتيجة تخفيض قيمة الجنية الإسترليني في عام 1920 عندما خفض بحوالي 10 %. كما استفادت انجلترا من الهيكل الإنتاجي الذي شوهته، والذي يعتمد على الزراعة كمصدر وحيد للدخل، كما قصرت السوق المصرية على المنتجات البريطانية، ثم تمكنت الإدارة البريطانية من القضاء على أية محاولات لإنشاء صناعة جديدة بتحديد حد أقصى لضرائب الواردات لا تزيد عن 8% من القيمة ، بغض النظر عما إذا كانت تلك الواردات مواد أولية أو سلع وسيطة أو سلع نهائية، استثمارية كانت أو استهلاكية .ويظهر عداء السلطات البريطانية للصناعة الوطنية واضحا جليا من خلال المندوب السامي البريطاني لورد كرومر، لذا ليس من الغريب أن تكون واردات مصر من السلع النهائية حوالي 80% من إجمالي الواردات وأن تتجاوز واردات مصر من المنتجات القطنية 23% خلال العام 1920.
وكانت أكبر مظهر الهيمنة البريطانية هو منح امتياز إصدار أوراق البنكنوت المصرية إلى بنك أنشأه أجانب وهو البنك الأهلي المصري، الذي صار له صفحة سوداء في تاريخ مصر الاقتصادية منذ نشأته حتى تأميمه، فمع أندلع الحرب أخذ البنك في طبع مزيد من الأوراق النقدية لتغطية نفقات القوات البريطانية، وبدلاً من أن تتصدي الحكومة لذلك فقد دعمت مركز البنك الأهلي وقامت بتثبيت سعر الأوراق النقدية التي يصدرها البنك وجعل سعرها سعرا إلزاميا ثم زاد البنك من إصدار أوراقه النقدية البنكنوت كي يغطي الطلب المتزايد على هذه الأوراق، وفي نفس الوقت سمح للبنك بأن يرسل إلى لندن معظم رصيده الذهبي، ثم أعفى بعد ذلك من الغطاء الذهبي لأوراق النقد واستبدل بها سندات الخزانة البريطانية وذلك في أكتوبر سنة 1916، وبذلك ارتبطت العملة المصرية بالعملة البريطانية ارتباطا تاما، وسار الاقتصاد المصري خاضعا كل الخضوع للاقتصاد البريطاني، ومن ثم حدث تضخم مالي وانخفضت القيمة الشرائية للوحدة النقدية وتحمل الشعب هذا العبء، وبذلك أصبح نظام العملة المصرية ينتمي إلى نظام الإسترليني وتحول عن قاعدة الصرف بالذهب، واستفادت بريطانيا من هذا الوضع فاشترت المحصولات المصرية ،وسددت نفقات جيوشها، وجنت مصر خسائر كبيرة جراء ذلك، وهكذا قضي على السوق المالية المصرية.
كانت كل هذه العوامل دافعاً إلى البحث عن آليات التحرر الاقتصادي من الهيمنة الاقتصادية البريطانية، وكانت فكرة تأسيس بنك وطني يكون آلية ذلك التحرر، وقد قدمت في هذا الإطار أفكار عديدة لتأسيس بنك وطني بداية من أفكار أمين شميل، ثم حسن الشمسي، كما أنها عادت إلي الظهور من جديد خلال الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها البلاد في عام 1907، فتعالت الأصوات بتأسيس بنك وطني لإنقاذ البلاد من سيطرة رأس المال الأجنبي، وطرحت فكرة تأسيس مصرف وطني مجدداً عندما بدأ "عمر لطفي بك" عضو الحزب الوطني ووكيل كلية الحقوق في إلقاء محاضرات في نادي المدارس العليا ابتداء من اليوم الأول في نوفمبر 1908 عن نظام التعاون والتسليف في ألمانيا وإيطاليا، لكن الفكرة عانت من الخلاف بين التيارات التقدمية، ، وظلت الفكرة تتردد على صفحات الجرائد من حين إلي أخر حتى تبلورت في النهاية في تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر المصري الذي عقد في 29 أبريل 1911، والذي أكد على أن إصلاح الحالة الاقتصادية في مصر يقتضي التخلص من سيطرت البيوت المالية الأجنبية على السوق وتحكمها في المصريين، وأن ذلك لا يتحقق إلا بتأسيس " بنك مصري". ولم يكن محمد طلعت حرب بعيداً عن تلك الرؤية فقد كان من بين الذين كتبوا بالصحف منذ عام 1907 مطالباً بإقامة " بنك مصري وطني"، وكانت مشاركته في المؤتمر وبروز شخصيته وأفكاره دافعاً لقادة المؤتمر في اتخاذ قرار إيفاده إلى أوروبا لدراسة نظم البنوك بها، ووضع مشروع لبنك مصري على أساس علمي يتفق مع الظروف الاقتصادية للبلاد. وخلال عام 1913 نشر محمد طلعت حرب كتابه " علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة" (قام دكتور رؤوف عباس حامد، بإعادة نشر هذا الكتاب، دار الكتب، 2002).
وقد حال نشوب الحرب العالمية الأولي، وإعلان الحماية البريطانية على مصر في عام 1914 من سفر طلعت حرب، كما عرقل من إمكانية تحقيق المشروع، غير أنه كان للحرب أثر أخر، وهو حدوث رواج نقدي لم تشهده البلاد من قبل بسبب الإنفاق البريطاني الحربي في الداخل المصري، وتزايد الطلب على البضائع والمنتجات المحلية، وبالتالي فقد نشطت حركة الصناعة الوطنية من أجل تلبية احتياجات القوات البريطانية في مصر، واحتياجات البلاد بسبب توقف حركة التجارة الخارجية نتيجة لحصار الشواطئ المصرية ما أحدث نقصاً فادحاً في السلع. كما أبقت بريطانيا أسعار القطن منخفضة بشكل مصطنع حتى عام 1918 وهو ما أثار عداء منتجي وتجار القطن السلعة الوحيدة التي كانت تهيمن على إنتاج البلاد، وقد نبهت تلك الأوضاع الاقتصادية في مصر الأذهان إلى ضرورة النظر في مستقبل الاقتصاد المصري بعد الحرب، فتكونت لجنة " لجنة التجارة والصناعة" عام 1917 لدراسة المشكلات التي تواجه الاقتصاد المصري، وكانت أهم التوصيات التي اوصت بها اللجنة في نهاية تقريرها هو إنشاء مصرف وطني، لتقديم التسهيلات الائتمانية للمشروعات الصناعية. لكن الحرب العالمية الأولى التي أعلنت في 4 أغسطس سنة 1914 أدت إلى تأجيل فكرة المصرف لأكثر من 8 سنوات، وعادت من جديد الدعوة لإنشاء المصرف بعد قيام ثورة 1919.
فقد جعلت ثورة 1919 من توصيات لجنة التجارة والصناعة مطلباً وطنياً ملحاً ومنحت طلعت حرب دعماً سياسيّاً غير مشروط لتأسيس البنك، وكانت مساندة رجال الثورة للمشروع الوطني الكبير سبباً حاسماً في ميلاده قوياً. فكان تأسيس بنك مصر تعبيراً صادقاً عن آمال الشعب المصري الذي ثار عام 1919، وعنوناً بمدي فاعلية الرأسمالية المصرية في مرحلة التحرر الوطني، وقد لعب محمد طلعت حرب الدور الأول في تأسيس " بنك مصر" من منطلق إيمانه بأن الاستقلال السياسي لا يتحقق إلا بإرساء دعائم الاستقلال الاقتصادي، فانتهز فرصة علو المد الوطني خلال الثورة، فجدد الدعوة إلى إنشاء البنك.
أما عن شخصية محمد طلعت حرب فقد ولد في قصر الشوق بحي الجمالية بالقاهرة في 25من نوفمبر 1876 لأسرة تنسب إلي منيا القمح بالشرقية جاءت من أصول بدوية، كانت – على ما يبدو –ميسورة الحال، عقب إتمامه تعليمه الثانوي بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة، التحق طلعت حرب بمدرسة الحقوق الخديوية في أغسطس 1885 فتعلم الفرنسية جيداً، فضلاً عن القانون المدني الفرنسي الذي كان أساس الدراسات القانونية في مصر، وعلى الرغم من أصوله الاجتماعية التي دفعته للتناقض مع الثقافة الغربية، إلا أنه خلال تعليمه كان مضطراً أن يكون ضليعاً في هذه الثقافة، فقد كان معظم أساتذته من الفرنسيين.
وعلى هذا الأساس أصبح طلعت حرب عضواً في نخبة وطنية مصرية عصرية آخذة في النمو، ومتأثرة بكل من النزعة التقليدية للحياة الريفية المصرية والقيم الثقافية الغربية، فبسبب الاحتلال الاستعماري البريطاني وهيمنة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد، وكذلك تأثير الثقافة الغربية على التعليم، كان على طلعت حرب وأبناء جيله في الطبقة الوسطي الصاعدة أن يكوّنوا لأنفسهم رؤية واسعة تسمح بدمج عناصر الثقافة التقليدية، وقادرة على تحدي الاحتلال المسلح بثقافة متفوقة.
تأثر طلعت حرب بمناخ المقاومة السياسية السائدة في مدرسة الحقوق التي اكتسبت طابعاً مُسيّساً خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، بسبب الهيمنة البريطانية على مصر، وبفضل والأساتذة الفرنسيين الذين اعتبروا أنفسهم حلفاء طبيعيين للحركة الوطنية المصرية الناشئة، ولم تكن فرنسا وبريطانيا قد توصلتا حينئذٍ إلى اتفاق حول تحديد البلدان محل نفوذ وسيطرة أي منهما بعد.
وكان من بين جيل طلعت حرب في مدرسة الحقوق مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان من بين معلميه عمر لطفي، مؤسس الحركة التعاونية التي دعمت بنك مصر بقوة خلال بدايات تأسيسه، وكذلك حفني ناصف؛ اللغوي الشهير والمثقف الديني المرموق، ومن هنا كان منبع التزام حرب بالوطنية المعادية للهيمنة الاستعمارية على مصر.
وبعد تخرجه من مدرسة الحقوق في عام 1888 ألتحق محمد طلعت حرب بخدمة إدارة الدمين التي ظل يعمل بها حتى عام 1905 عندما ترك خدمة الحكومة عندما ترك خدمة الحكومة، وفضل أن يشتغل بإدارة أعمال بعض كبار الملاك الزراعيين وبعض الشركات التجارية، فكان بذلك نسيجا وحدة بين أبناء جيله من خريجي المدراس العليا الذين كانوا يفضلون التقلب في وظائف الحكومة، وفي سبتمبر 1909 أسس مع بعض الممولين المصريين شركة صغيرة حملت اسم ط بنك التضامن المالي"، ثم تغير أسمها في يناير 1910ليصبح الشركة التجارية للائتمان". وقد تمتع طلعت حرب بدرجة عالية من الوعي السياسي الوطني تجلت في قولته الشهيرة " لكي يتم الاستقلال السياسي فإنه من الضروري أن تتوفر للوطن إمكانات التحرر الاقتصادي".
لعب محمد طلعت حرب الدور الأول في تأسيس " بنك مصر" من منطلق إيمانه بان الاستقلال السياسي لا يتحقق إلا بإرساء دعائم الاستقلال الاقتصادي، فانتهز فرصة علو المد الوطني لثورة 1919، فجدد الدعوة إلي إنشاء بنك مصر، ونحج في أقنع مائة وستة وعشرين من المصريين بالاكتتاب لإنشاء المصرف، وفي مثل هذا اليوم 13 أبريل 1920 منذ مائة عام نشرت جريدة الوقائع المصرية قرار تأسيس بنك مصر، وقد بلغ ما تم الاكتتاب به لتأسيس البنك ثمانون ألف جنيه، تمثل عشرين ألف سهم، أي أن ثمن السهم كان أربعة جنيهات فقط، وقد تم افتتاح البنك بشكل رسمي في 7مايو 1920، وألقي طلعت حرب خطبة مطولة بمناسبة بداية عمل البنك أوضح فيها أهداف البنك وخطته، حيث أكد على أن البنك يهدف إلي: "إنه سيشجع المشروعات الاقتصادية المختلفة التي تعود عليه وعلى البلاد بالربح العظيم، ويساعد على إيجاد الشركات المالية والتجارية والصناعية والزراعية وشركات النقل بالبر والبحر وشركات التأمين بأنواعها، كما يعمل على أن يكون لمصر صوت مسموع في شئونها المالية، ويدافع عن مصالحها كما تدافع البنوك عن مصالح بلادها". وقد تولي أحمد مدحت يكن باشا منصب رئيس مجلس إدارة البنك، وتولي محمد طلعت حرب بك نائب للرئيس والعضو المنتدب، وكان العضو المنتدب هو المدير الفعلي للبنك.

وكانت وسيلة بنك مصر ثابتة في تجميع المدخرات هي إنشاء المشروعات الاقتصادية في صورة شركات مساهمة مصرية، مع الهبوط بقيمة السهم إلي أقل حد ممكن لجذب صغار المستثمرين، فبينما بلغ متوسط قيمة السهم إلي أقل حد ممكن لجذب صغار المستثمرين، فبينما بلغ متوسط قيمة السهم في الشركات الأجنبية حوالي عشرة جنيهات، كان متوسط قيمة السهم في الشركات التي انشأها بنك مصر أربعة جنيهات فقط. ويرتبط بإنشاء المشروعات الاقتصادية اتجاه " بنك مصر" إلى إصلاح الخلل الذي أصاب التوازن الاقتصادي في البلاد، فكان الاهتمام بالتصنيع يهدف إلى تحقيق النمو للصادرات تستخدم في شراء السلع الرأسمالية، بدلاً من تبديدها في شراء المواد المصنوعة والكمالية، وفضلاً عن ذلك ساعدت هذه المشروعات في تكوين رأس المال المصري عن طريق احتجاز أرباح التصنيع داخل البلاد وفي أيدي المصريين بدلاً من تسربها إلى أيدي الأجانب أو خارج البلاد.
وكانت أول شركة قام بنك مصر بتأسيسها هي "مطبعة مصر" برأسمال قدره 5 آلاف جنيه، وتدرج رأسمالها إلى أن أصبح 50 ألف جنيه، ثم شركة مصر للغزل والنسيج"في أغسطس 1927 بالمحلة الكبرى وبدأت برأسمال قدره 300 ألف جنيه، ومع منتصف الثلاثينيات اتسع نشاط شركة “مصر للغزل والنسيج” لتصبح أكبر شركة من نوعها في الشرق الأوسط، ووصل رأسمالها إلى مليون جنيه في عام 1936، وهو ما يوضح نجاح الشركات التي قام البنك بتأسيسها بشكل كبير.
أسس البنك فروعاً في جميع أنحاء البلاد بلغ عددها 33 فرعاً عام 1939(عندما اجبر طلعت حرب على التخلي عن قيادة البنك) وحتى عام 1930 كانت ودائع البنك 201 ألف جنية قفزت إلى ما يقرب 17.5 مليون جنية عام 1938، ولا شك أن هذا التطور الهائل في الودائع في وقت تميز فيه الاقتصاد الوطني بكثرة الأزمات التي انتابته يؤكد بصورة قاطعة نجاح البنك في تجميع المدخرات الوطنية.
وخلال تسعة عشر عاماً من رئاسة طلعت حرب لبنك مصر، نجح البنك في تأسيس تسعة عشر شركة صناعية أي بمعدل شركة في كل عام، وقد أصبحت هذه الشركات عماد الصناعة المصرية، حيث شملت هذه الشركات مجالات حلج وتسويق الأقطان، الغزل والنسيج، المستحضرات الطبية، السياحة، والملاحة البحرية، والتأمين، والاسمنت المسلح والتجارة الداخلية حيث تم تأسيس شركة بيع المصنوعات المصرية من أجل دعم تسويق المنتجات الوطنية، لقد كان لهذه المشروعات الصناعية التي أقامها البنك أكبر الأثر في تكوين الثروة القومية، وفي التمهيد لتحوله من اقتصاد المحصول الواحد الزراعي إلي الاقتصاد الصناعي والإنتاج المتنوع. ومنذ ترك محمد طلعت حرب منصب رئاسة البنك في عام 1939 وحتى تأميم البنك في عام 1959، لم يأسس البنك إلا ثلاثة شركات وهي مصر للحرير الصناعي بالاشتراك مع رأس المال البريطاني، شركة مصر للألبان والأغذية في عام 1956، ومصر لصناعة الكيماويات في عام 1959.

وكان بنك مصر رائداً في أدخل مصر إلي العديد من المجالات الصناعية الجديدة، فكان تأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما (ستوديو مصر) أثر كبير في تطور مجال تطور الفن المصري، وكان دخول المرأة المجال الفني قد شكل منعطف جديد في تاريخ مصر فكانت المشاركات النسائية في أفلام أم كلثوم وأسمهان وفاطمة اليوسف. كما كان تأسيس أول شركة في مجال الطيران في مصر في عام 1932، بداية لدخول مصر عصر الطيران، خاصة بعد أن أقامت الشركة مدرسة الطيران، قد أدي ذلك وقد التحقت بها الآنسة عصمت فؤاد بتشجيع عمها الذي توسط لها عند طلعت حرب، كذلك التحقت لطيفة النادي والتي استطاعت الحصول على رخصة الطيران في عام 1933 لتصبح أول فتاة مصرية عربية أفريقية تحصل على هذه الرخصة، وثاني امرأة في العالم تقود طائرة منفردة، والتي قام طلعت حرب فيما بعد بتكريمها.
فلا عجب أن نجد رأس المال الأجنبي المتحكم في الاقتصاد المصري، والذي يحظى بمساندة المستعمرين البريطانيين لا يشعر بالارتياح تجاه بنك مصر، فانتهز فرصة أزمة 1939 التي صاحبت إعلان الحرب العالمية الثانية، واِشتداد الطلب على الودائع، وأوحي إلي الحكومة بالضغط على " بنك مصر" ثمنا لدعمه مالياً، ففرضت على البنك شروطاً عديدة من بينها استقالة محمد طلعت حرب، والكف عن الاستثمار في المشروعات الصناعة، ولم يجد البنك مفراً من التسليم بمطالب الحكومة (ممثلة في البنك الأهلي المصري الخاضع لسيطرة الإنجليز)، واستقال طلعت حرب، وتوقف البنك عن تأسيس المشروعات الصناعية الجديدة.
وخلال الأسابيع القليلة التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية بدأت بوادر أزمة في بنك مصر، حيث تكالب عشرات الألوف من المودعين على سحب أموالهم وودائعهم من البنك، بل إن الغريب في الأمر هو مسارعة صندوق توفير البريد الحكومي إلى سحب كافة ودائعه من بنك مصر وحده، بالرغم من أن ودائعه في البنك الأهلي كانت أكبر كثيراً مما موجود في بنك مصر. ذهب طلعت حرب لمقابلة وزير المالية المصري حسين سري يحثه على إيقاف سحب ودائع صندوق التوفير الحكومي، لكنه الوزير رفض الطلب -بإيعاز من علي ماهر الناقم على طلعت حرب بسبب منحه مصطفى النحاس قرضا بعد أن أنقصت الحكومة معاشه- وطلب إليه أن يتنحى عن إدارة البنك مقابل إنقاذ البنك من أزمته.
وبالفعل قدم طلعت حرب استقالته التي فوجئ بها الرأي العام المصري، وآثر الإبقاء على تاريخه عن إدارة البنك الذي أنشأه ورأسه. ويؤكد سكرتيره الشخصي أن العبارة الوحيدة التي خرجت من فمه وهو يغالب دموعه كانت: "لقد مت ولم أدفن!!"، ونقل بعض المقربين منه قوله عندما ترك بنك مصر: "الحمد لله.. فليبق بنك مصر، وليذهب ألف طلعت حرب".، ليتولى حافظ عفيفي رئاسة البنك، وليصبح حسين سري رئيساً للوزراء.
ولكن من بين الأخطاء التي أقدم عليها طلعت حرب هو اختيار معظم أعضاء مجلس الإدارة من الساسة ورجال الأعمال ذوي النفوذ، ممن تتصل مصالحهم بالشركة، في وقت تميزت فيه الحياة السياسية المصرية بالتكتلات والانقسامات بشكل متزايد، ولم يكن المناخ السياسي مناخاً صحياً للاقتصاد، وهو الأمر الذي أدركه طلعت حرب منذ تأسيس بنك مصر، فابتعد عن السياسية قائلاً: - " نحن لا نذيع سراً إذا قلنا إن سبب نجاح بنك مصر كان في الابتعاد عن زحام السياسة الحزبية"، ولكنه كان يلجأ إلي زرع عضو واحد –وليس أغلبية الأعضاء- عند تأسيسها ممن يتمتعون بنفوذ في القصر الملكي لكي يخدم مصالح الشركة إذا تعثرت المفاوضات مع الحكومة، كما حدث في مسألة فرض حماية جمركية على منتجات شركة المحلة للغزل والنسيج ضد سياسة الإغراق اليابانية.
وكان أول ما فعله عفيفي هو الإطاحة بكل المديرين الذين عملوا مع طلعت حرب، وتحويل البنك من مؤسسة وطنية تتولى توفير رؤوس الأموال للمشروعات الصناعية والزراعية والتجارية إلى مؤسسة مالية تهدف لجني أكبر قدر من الأرباح، مع تصفية الشركات الخاسرة بدلاً من دعمها، وإتاحة فرصة أكبر للإثراء على حساب البنك من قبل المتنازعين على مناصب مجالس الإدارات.

وبعد استقالته من " بنك مصر" اعتكف محمد طلعت حرب، فلم يكن له دور في الحياة العامة، فقد مات كمدا في 21أغسطس 1941 أثناء زيارته لأحد أصدقائه في بلدة "العنانية" بالقرب من دمياط، وجاءت وفاته بعد عامين من تركه العمل في قيادة بنك مصر الذي خلفه فيها ".
والحقيقة أنه عندما قامت ثورة 1952 كان "مجمع شركات بنك مصر" ينتصب كعملاق وسط القطاع الخاص، بينما تتشعب فروعه في كل مكان، وكان لا يزال يدير بنك مصر، رأس هذه المجموعة، الثلاثي محمد رشدي، ومحمد العتال، وأحمد فؤاد الدين الذين عينهم مجلس قيادة الثورة عام 1952، وقد ارتفع رأسماله الذي كان مليون جنيه عام 1950 إلى مليوني جنيه عام 1960، وارتفع الاحتياطي فيه من 4.225.000 جنيه إلى 7.614.000 جنيه، وكذلك الودائع من 54.643.000 جنيه إلى 96.008.000 جنيه، كما ارتفعت أرباحه الصافية من 788.000 جنيه إلى 1.135.000 جنيه، وأنتجت مصانع نسيج "مجمع مصر" عام 1958 أكثر من ربع مجموع الإنتاج المصري من النسيج، وكان "المجمع" يملك 20% من أسهم الشركة المصرية الجديدة للحديد والصلب في حلوان، ويشرف على شركة البترول التعاونية (رأسمالها 10 مليون جنيه) التي كانت تحتكر توزيع المنتجات النفطية في كل البلاد، كما كان يساهم جزئياً في ملكية عدة شركات في "مجمع عبود باشا"، وخاصةً تلك التي تصنع المنتجات الكيماوية والأسمدة، وقد شكلت الشركات الصناعية الواحد وعشرون التي أنشأها بنك مصر بين 1922 و1957 مجمعاً مهيباً يسيطر على جزء كبير من الاقتصاد المصري، لكنها شكلت أيضاً "مشتلاً" حقيقياً لتخريج المديرين والإداريين الكبار الأكفاء في المجالات المالية والمصرفية والصناعية، إذ أن البنك كان يركز على فاعلية المؤسسة، وعلى كلً من التدريب النظري والتطبيقي بدلاً من الصفات الخاصة لرجال الأعمال.
على العموم فليس ثمة شك في أن تجربة تأسيس بنك مصر سوف تظل عالقة في أذهان كل مصري يؤمن بأن بلاده قادرة على التغير والتحول من بلد زراعي إلي بلد صناعي يصدر فائض إنتاجه الصناعي إلى العالم، فقد كان مؤسسي بنك مصر يأملون من تأسيسه أن يقوم بدور الممول للصناعة الوطنية المصرية، وأن يعمل كمركز لمجموعة عملاقة من الشركات، كلها يحمل اسم مصر، ليصبح البنك بمثابة القوة المحركة لوجود قطاع صناعي حديث في الاقتصاد المصري. رحم الله محمد طلعت حرب أبو الاقتصاد المصري الحديث.



#حسام_محمد_عبد_المعطي_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عصر الصورة في مصر الحديثة
- المبعوثين المصريون إلي فرنسا خلال عصر محمد علي باشا


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - حسام محمد عبد المعطي أحمد - بنك مصر في ذكري مرور مائة عام على تأسيسه