أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام محمد عبد المعطي أحمد - عصر الصورة في مصر الحديثة















المزيد.....


عصر الصورة في مصر الحديثة


حسام محمد عبد المعطي أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 6763 - 2020 / 12 / 17 - 23:59
المحور: الادب والفن
    


صدرعن سلسلة مصر النهضة التي تخرج من دار الكتب والوثائق المصرية، كتاباً جديداً للمؤرخ الجاد الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب بدمنهور جامعة الإسكندرية، ويحمل الكتاب عنوان "عصر الصورة في مصر الحديثة"، ورغم الإصدارات المهمة والعديدة للدكتور محمد رفعت والتي تتناول العديد من قضايا المجتمع المصري الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإن هذا الكتاب جاء مختلفاً تماماً عن السياق العام للدراسات السابقة التي قام بها الدكتور الإمام بل وربما عن السياق العام للمدرسة التاريخية المصرية، فلأول مرة يخرج مؤرخ مصري عن السياق العام ليطرح فكرة أثر التقدم التقني وتطور العلم علي التغيرات التي لحقت بالمجتمع المصري خلال القرن التاسع عشر، وهو توجه جدير بالاحترام العلمي.
فقد شهد هذا القرن ميلاد الثورة الصناعية الكبرى في أوربا، وسرعان ما خرجت المخترعات الحديثة لتغير من مجريات الحياة الإنسانية، وأصبحت الآلة محور مهم من تطور حياة المجتمعات البشرية منذ هذا التاريخ، ولم تكن مصر بسبب موقعها ومكانتها التاريخية بعيدة عن هذه المخترعات فقد كانت أوربا راغبة في ترويج هذه المنتجات الحديث وفتح أسواق جديدة لتوزيع هذا الإنتاج، سواء في ذلك كانت آلات السكك الحديدية أو الكهرباء أو الترام أو ماكينات الري أو آلات حفر القنوات وغيرها من المخترعات التي اكتشفت خلال هذا القرن، وكانت الصورة الضوئية واحدة من أهم الانجازات التي عرفتها أوربا خلال الثلاثينيات هذا القرن، وقد تبوأت مصر مكاناً محورياً في التاريخ العام للتصوير الشمسي، ووقعت "مصر المصورة" في قلب باكورة الإنتاج الفوتوغرافي العالمي، وأمست صورها جد مهمة لأنها توثق لتاريخ وتطور التصوير الشمسي ذاته.
وأحسب أن هذا العمل العلمي والتاريخي المهم هو نقله نوعية للكتابة التاريخية في المدرسة التاريخية المصرية، فلعقود سابقة ركزت المدرسة التاريخية المصرية علي دراسة التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكن أحداً لم يلتفت إلي أثر التطور العلمي والتقني علي التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المصري، فمثلاً دائماً ما نفسر أن الاحتلال البريطاني هو الذي ألغي نظام السخرة في حفر القنوات في مصر، دون طرح تفسير لذلك ولماذا في هذه اللحظة التاريخية؟، فقد أدي توفر آلات الحفر لتطهير وحفر القنوات إلي الاستغناء عن قوة الفلاحين البدنية لعمليات الحفر وشق القنوات، فمع نهاية حفر قناة السويس كانت هذه الآلات تتوافد علي مصر وكان استخدام الأيدي العاملة من الفلاحين في تراجع تدريجي، كما لم يسأل احد من المؤرخين المصريين حتى الآن عن أثر اختراع وابور الجاز علي تطور حياة الأسرة المصرية وطرق طهي الطعام لديها.
والحق أننا لا نزال لم ندرس جيداً أثر التغيرات العلمية الحديثة على تغيرات مجتمعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحمد للدكتور الإمام فتحه لهذا الباب الكبير لتغيير نهج الدراسات التاريخية، في وقت يتحدث فيه العدد الأكبر من المؤرخين المصريين التقليديين عن " قتل هذه الفترة التاريخية بحثاً ودراستاً"
وقد برع د. الإمام عندما استخدم المنهج التاريخي والعلمي ألاستردادي التحليلي لظاهرة الصورة وأهميتها التاريخية، وتجاوز حدود قلمه ليرسم واقع حي لكيفية اختراع الصورة في أوربا وعملية انتقال التصوير الضوئي من أوربا إلي مصر، وكيف تقبلت مصر هذه البدعة الجديدة، والصراع بين الموروث الديني والحداثة الجديدة.
ومن أجل معالجة هذه الإشكاليات البحثية فقد قسم المؤلف الدراسة إلي مقدمة وخمسة فصول جاءت تحت عناوين المنظومة الفوتوغرافية، والمصوراتية، والمنافع والمضار، إنتاج المعرفة الفوتوغرافية، وأخيراً مصر المصورة، وقد طرح الدكتور الإمام إشكالية الدراسة بشكل علمي ممتاز حيث طرح سؤال مهم هو لماذا كانت مصر هدفاً للمصورين منذ بداية اختراع الفوتوغرافيا؟ وماذا التقطه المصورون خصيصاً في مصر؟ وكيف قوبل التصوير في مجتمع لديه خلفية دينية ترتاب في الصور والتماثيل؟ وكيف اقتنع العباد بشرعية هذا الوافد من بلاد غير مسلمة؟ وما هي المنافع التي ستعود عليهم من جرائه؟ وهل أسهمت الفوتوغرافية في تغيير صورة مصر النمطية التي زرعها الاستشراف في العقل الجمعي الغربي؟ وهل وقع الإنتاج الفوتوغرافي أسيراً للسياسة؟ وإلى أي مدي يمكن توظيف المنتج الفوتوغرافي في التوثيق والتأريخ؟ وهكذا نجح في بلورة إشكالية هذه الدراسة بشكل واضح، مما وفر للدراسة النجاح بشكل كبير في طرح ومعالجة هذه القضايا.
وقد جسد الفصل الأول، تطور المعرفة الفوتغرافية، وكشف كيف أن هذه المعرفة كانت تراكمية فلم يرتبط اختراع التصوير الشمسي باسم شخص بعينه، بل كان نتيجة لجهود أشخاص عديدين ينتمون إلي جنسيات متباينة، وتتبع الدكتور الإمام في دأب كيف تطورت المعرفة الفتوغرافية علي مدار القرن التاسع عشر، فتتبع كيف أجري العلماء العديدين تجاربهم من اجل إنتاج الفوتغرافيا، من أمثال توماس ويدجود، والفرنسي لويس داجير الذي أخترع أول صورة للأشخاص علي لوحات نحاسية مفضضة مطلية بيود الفضة منذ العام 1839، وصارت هذه الطريقة تعرف بداجيروتيب" Dagurrotype، وفي العام 1840 تمكن المجري جوزيف بيتزفال Jozef petzval من ابتكار عدسة مقعرة لتصوير الوجوه تتميز بسرعة الأداء، كما تم اكتشاف تقنية أفضل لزيادة حساسية الشريحة، بينما أسفرت جهود وليام فوكس تالبوت عن إمكانية عمل صورة وتثبيتها بالغسيل في محلول ملح الطعام، كما أكتشف إمكانية الحصول علي صورة إيجابية من الصورة السلبية بوضع الأخيرة فوق ورق مشبع بكلوريد الفضة، وصارت هذه الطريقة تسمي تالبوتيب Talbotye, وأضحت تالبوتيب الركيزة التي انبثقت منها معظم الابتكارات التي لحقت بالتصوير الشمسي، وفي عام 1835 أنتج تالبوت أول نيجاتيف في التاريخ العام للتصوير الفوتوغرافي، وفي عام 1843 افتتح أول دار للتحميض من أجل إنتاج الصور بكميات للأغراض التجارية، ولذا، يوصف تالبوت بأنه مخترع "الطباعة الفوتوغرافية"، وأول من وضع أسس الطريقة السالبة ـ الموجبة.
على أية حال، بمجرد الإعلان عن ابتكار الفوتغرافيا انبثق طوفان من التطورات التقنية والتحولات النوعية، ويلاحظ أن تقدم التصوير الشمسي في نهاية ستينيات القرن التاسع عشر بفضل السباق العلمي المحموم بين الثنائي فرنسا وإنجلترا، فخلال الثمانينيات من القرن التاسع عشر اكتشفت الأفلام الملفوفة الطويلة، كما تم تقليص حجم آلة التصوير من حجمها الصندوقي إلي أن صارت بمثابة علبة صغيرة توضع في الجيب
وأصبحت الفوتوغرافيا حرفة مربحة ورائجة، وأضحت الصور مقاس "الكارت بوستال" صيحة العصر، وصارت الصور الشمسية (الفوتوغرافية) عنواناً للشخص، وغدت الأسماء والهوايات عبارة عن صور بدلاً من الكلمات.
وثمة تداعيات جد مهمة قد تمخضت عن تقنيات أواخر القرن التاسع عشر الفوتوغرافيا، فقد ظهرت الصور التي تأخذ في ثواني معدوادت، وبذلك زالت فكرة الزمن، ولكن الأهم من ذلك كان تطور أخذ الناظر المتحركة السريعة، مما مهد لميلاد السينماتوغراف (الصور المتحركة)، كما ولد اختراع أخر من رحم التصوير الشمسي وهو التليفوتوغراف، أي إرسال الصور الشمسية بواسطة المجري الكهربائي من مكان إلي أخر، كما ظهرت إلي الوجود أشعة رونتجن تأسيساً علي الخبرة الفوتوغرافية منذ منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر التي نجحت في النفاذ إلي " أغلفة وأغطية الصناديق بل ولحم الإنسان"، مما ربط التصوير الشمسي عضوياً بالتطور الطبي، وسرعان ما دخل التصوير الملون مما أعطي الصور مصداقية أكبر.
وقد ارتبطت مصر عضوياً بالتصوير الشمسي، ليس فقط منذ بداياته الأولي، بل بالأحرى منذ محاولاته الأولية أيضاً، وفي هذا الصدد كانت مصر المصورة فوتغرافياً أكثر الدول (مع إيطاليا) التي التقطتها عدسات آلات التصوير حتى غدت صورها "الشواهد" علي ميلاد التصوير الشمسي وتطوره، ولا ريب أن هذه المحصلة كانت نتاجاً لتضافر معطيات الجغرافيا الطبيعية لمصر وظهيرها التاريخي الثري ناهيك عن التحولات الجذرية التي شهدها القرن التاسع عشر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً.

على العموم إذا كان الغرب قد وضع أساساً لاستكشاف مصر القديمة، فإنه بالأحرى قد أدخل آلة التصوير في فلك " تسييس" مصر الحديثة، وهكذا تعددت وتنوعت أسباب جلب التصوير الشمسي ومعداته إلي مصر منذ اختراع الآلة في عام 1839، فدخلت مصر دائرة التوثيق البصري بخلفياته العلمية والسياسية والتجارية، وأخذت أفواج المصورين من شتي الجنسيات تترى تباعاً علي مصر، وجدير بالملاحظة أن هذا الاختراع قد ظهر إلي النور في ذروة التنافس الاستعماري الأوربي لاسيما بين بريطانيا وفرنسا الذي انتهي إلي احتلال مصر عسكرياً في عام 1882.
بيد أن الفصل الثاني قد تتبع المصوراتية وجنسياتهم، حيث سعي الدكتور الإمام من خلاله إلي التعرف علي كيفية تمصير هذه الحرفة المهمة التي أمتهنها الأوربيون أولاً بسبب أن الاختراع كان أوربياً، ثم كيف دخل رعايا الدولة العثمانية هذا الميدان إلي جوار الأوربيين، ثم تتبع كيف دخل المصريون ميدان التصوير الشمس سواء في ذلك من الرجل أو النساء.
وقد هيمن المصورين الأجانب علي سوق التصوير الشمسي المصري تماماً لما ينيف علي نصف قرن منذ اختراع الآلة وإدخالها إلي مصر في العام 1839، وعلي مدار عشرين عاماً أو أكثر زاحم المصورون من رعايا الدولة العثمانية ( أروام، أرمن، شوام، يهود ...الخ) أقرانهم الأجانب. فعند عشية نهاية القرن التاسع عشر، تراوح عد المصورين في مصر بين 250 و300 مصورً ينتمون إلي جنسيات متباينة علي النحو التالي 40% فرنسيون، و20.8% رعايا عثمانيون، و17.6 إنجليزً، و6% ألمان ونمساويون، 4.4% إيطاليون، 4% أمريكيون،4% يونانيون، 3.2% جنسيات مختلفة، وأخيراً وبعد مرور سبعين عاماً علي دخول التصوير الشمسي مصر، لاح التيار المصري، عن بعد وعلي استحياء في الأفق الفوتغرافي بظهور ثلة من أهالي البلاد وبالأخص المشتغلين بالتصوير الشمسي في مصر، ومن ثم وضع حجر الأساس لتفعيل الدور المصري في عملية التصوير الشمسي.
والواقع فإن الطريق لم يكن ممهداً أمام المصورين للتوغل بشكل كبير في السوق المصري واستقطاب الجمهور المسلم لاستخدام هذه " البدعة الجديدة"، إذ أن ثمة صدام شائك نشب بين المجتمع المسلم بمبادئه المتوارثة وبين التصوير الشمسي الوافد من أوربا المستعمرة، ولذا استلزم التوفيق بين الوافد التقني والموروث الديني جهداً كبيراً من أجل الولوج إلي داخل العقل الجمعي المصري.
وقد تناول الفصل الثالث تلك الإشكالية بوضوح، حيث أبرز الدكتور الإمام ذلك الصراع الكبير بين المفكرين المسلمين حول هل التصوير الشمسي حلال أم حرام؟، وتناول الحجج التي ساقها كل فريق في موقفه.
وعلي الرغم من المعارضة الكبيرة التي وجدتها الصورة، فإنه استناداً إلي أن الإسلام دين حكمة ورفع عن آله الحرج والعسر، وانطلاقاً من قاعدة " المنافع والمضار" وتأسيساً علي القواعد الشرعية بأن المحرم لذاته يباح عند الضرورة وأن المحرم لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين وبأن للوسائل أحكام الغايات والمقاصد " فإذا كانت الصور تتوقف عليها بعض أحكام شرعية أو معالجة طبيعية أو كشف مسائل علمية كان اتخاذها مباحاً وأما إذا كانت تتخذ للتعظيم والعبادة والتبرك ونحو ذلك فهي حرام قطعاً معذب صانعها ومعذب متخذها، وإذا كان من الصور ما يتوقف عليه بعض الأحكام الشرعية ويوضح المسائل العلمية والمدنية كان تعلم فن التصوير فرضاً كفائيناً، وبذلك فقد احل التصوير ورغم ذلك فيجب أن نشير إلي أن أنصار التصوير حذروا من استخدام التصوير فيما يتعارض مع مبادئ الدين خصوصاً "رسوم الأنبياء وتمثيل الحضرة الإلهية والملائكة..."، وحذروا من استخدامه سياسياً في إيقاظ الفتنة وفي تصوير المنكرات مثلما يقع بين الرجل والمرأة مما يخل بالآداب العامة، بيد أن التحذير الأشد والأكثر جدلاً فيما بعد كان بخصوص تصوير المرأة المسلمة، المقرر لها الحجاب شرعاً، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في المجتمع.
والواقع أن الفوائد التي أخذت تظهر للتصوير الشمسي جعلت الأفكار حول تحريمه تتراجع وبخاصة في مجال الطب، بعد أن أصبح في الإمكان التقاط الصور للأعضاء المصابة بالأمراض، وفحصها، كما استفاد الفلك بصورة كبيرة من التصوير الشمسي، حيث التقطت الصور للأجرام السماوية، كما أصبح في الإمكان تصوير قيعان البحار والمحيطات وغيرها.
وقد روجت السلطة السياسية للمنتج الجديد بغية ضبط المجتمع والسيطرة علي أفراده بشكل أكبر، فبدلاً من استخدام الرسام لرسم صور للمجرمين بناء علي أوصافه من الناس، قامت الداخلية بتصوير المجرمين في كل السجون المصرية، وبالتالي فقد أصبح من السهل التعرف علي هؤلاء في حالة قيامهم بأية جريمة، وبشكل تدريجي سوف تدخل الدولة الصورة في طلباتها الرئيسة للعمل في مؤسساتها المختلفة. كما أن دخول التصوير الجوي الميدان والتقاط صور الجيوش والمعارك العسكرية كل ذلك جعل للتصوير فوائد كبيرة يصعب علي الإنسان العاقل تركها، من أجل ذلك فقد أباح العلماء استخدام الصورة.
وحمل الفصل الرابع عنوان إنتاج المعرفة الفوتوغرافية، حيث تناول أثر الصورة علي المطبوعات سواء في ذلك المجلات أو الكتب المصورة، وقد أظهر الدكتور الإمام كيف أحدث التصوير الشمسي قفزة كبيرة في عالمي الطباعة والصحافة بعد أن صار وسيلة اتصال قوية وأداة تعبير مرئية ومؤثرة، فقد غدت الصورة همزة الوصل ولمعرفة بين البشر أجمع، فعن طريقها يري المصري السيامي والأمريكي ويشاهد ديارهما وهو مستقر في مكانه بمصر.
لقد أحدث التصوير الشمسي نقله نوعيه كبيرة في الإقبال على الكتب والمجلات في مصر بخاصة بعد نشر كتاب جوستاف لوبونGustave Le bon "حضارة العرب" الذي ضمنه العديد من الصور التي تمثل تطور الفنون والحرف العربية، حيث كان التصوير الشمسي أداة لوبون التي لا غني عنها، وباتت الصورة أفضل ما يعبر عن المعني المقصود.
وبالطبع كان الأدب والرواية والقصة من أفضل المجالات التي أقبل روضها علي إدخال الفوتوغرافيا في أعمالهم، لكن أثر الصورة كان كبيراً جداً علي كتب الأطفال، فابتداءً من عام 1910تسلل التجديد عن طريق الصورة كتب الأطفال في مصر علي أيدي كامل كيلاني، ومحمد حمدي وعلي عمر بك، حيث جعلت الصورة الكتاب "تحفة يرغب الأطفال في اقتنائها" ، وحتى في علوم كانت قديماً تتسم بالجمود والغموض مثل الجغرافيا، ولكنها بعد ظهور الصورة أصبحت أشبه بقصة لذيذة.
بيد أن التأثير الأوسع انتشار والأكثر تأثير للصورة كان في الصحافة، فكانت بحق قمة الميادين التي تأثرت بالتصوير، فوضعت بعض الصحف كلمة المصور أو المصورة في عنوانها الرئيسي، بهدف توظيف هذه التقنية الحديثة في الإثارة والإبهار مثل اللطائف المصورة، والنيل المصور، ومجلة الروايات المصورة، كما وضعت صحف أخري تحت عنوان المجلة والدورية عبارة " تصدر كل شهر مصورة"، كما أثري الصحافة أيضاً اختراع التليفوتوغرافيا وزاد من جاذبيتها وتأثيرها، هكذا صارت الأخبار والحوادث المصورة تتصدر الدوريات، وأحياناً تصبح الموضوع الرئيسي وتصير الكلمة مجرد تعليق فقط، ورغم هذه العلاقة العضوية القوية بين التصوير الشمسي والصحافة، فإن الأخيرة لم تجعل المصور الصحفي جزءاً أصيلاً في النسيج الصحفي حتى الربع الأول من القرن العشرين، فلم تمتلك أغلب الصحف مصورين محترفين، ولكنها كانت تراسل المصورين وتطلب إليهم أن يرسلوا صور لهم في مقابل جوائز مالية، وقد تزايد أهمية الصورة بشكل أكبر مع بداية الحرب العالمية الأولي، عندما سمحت السلطات العسكرية البريطانية للصحف أن ترسل مندوبيها إلي ميدان القتال في شبه جزيرة سيناء، مما جعل الدوريات التي تنشر صور لهذه القوات تحظي بالإقبال الأوسع بين الجماهير.
ورغم عدم تأصيل ظاهرة المصور الصحفي في صلب عملية الإنتاج الصحفي بشكل رسمي، فإن الصحافة في مصر كانت أكبر وأول منبع للمعرفة الفتوغرافية، حيث لعبت جريدة "المقتطف" فمنذ إنشائها عام 1876، لا يخلو عدد من أعدادها لا من خبر صغير عن التصوير الشمسي في باب أخبار واكتشافات واختراعات، ولا من مقال مطول في باب الصناعة، وإلي جانب المقتطف قامت دوريات أخري مثل "الفتي" و"سمير الشبان"، بدور مهم في نشر مقالات مطولة عن صناعة التصوير الشمسي.
غير أن بداية القرن العشرين هي التي شهدت عملية تمصير الفوتوغرافيا، وكان لأسماء مثل حسن أفندي شحاتة، وحسن أفندي راسم، وصليب أفندي إلياس، دور مهم في هذا المجال، حيث كان الأول صاحب أول مؤلف عن "التصوير الشمسي الحديث"، حيث طبع في مطبعة المعارف عام 1910، وسرعان ما أخذت المؤلفات تتزايد بعد ذلك، بل وتنشأ مدارس لتعليم التصوير الشمسي، ومع اندلع الحرب العالمية الأولي، رحلت قوات الاحتلال البريطاني من مصر كل المصورين الألمان والنمساويين، مما ساعد علي ولوج المصورين المصريين لسوق الفوتغرافية، كما ساعد علي ذلك اندلاع ثورة الشعب المصري في عام 1919 التي كرست ذروة التوهج الوطني في مصر وتمخضت عن استقلالها ولو صورياً عام 1922، وفي ظل هذه التحولات السياسية والفكرية، أخذ المصريون يقتحمون سوق التصوير الشمسي حتى أنهم شكلوا مثلاً نسبة 33.3% من المصورين القاهريين بنهاية الربع الأول من القرن العشرين.
وإذا كان عام 1924 قد جسد سياسياً الطموحات المصرية في وزارة الشعب بكل خلفياتها ورهاناتها فبالمثل فوتغرافياً تجمعت الخيوط لتجعل من هذا العام علامة فارقة في تاريخ التصوير الشمسي في مصر، إذ شهد هذا العام اصطباغ التصوير الشمسي بالطابع المصري وتكريس الهوية القومية فظهر زخم معرفي كبير عبر الصحف والكتب التي تتناول كيفية تعليم فن التصوير الشمسي، وظهرت دولت رياض شحاتة كأول امرأة تحترف التصوير الشمسي، وانتشار الجمعيات الفوتغرافية في المدارس المختلفة داخل القطر المصري، التوسع في إنشاء الجمعيات الفوتغرافية علي مستويات شعبية مثل جمعية المسلة الفنية لغواة التصوير، النشاط الكبير للجمعيات الرائدة في مجال الفوتغرافية التي استقطبت هواة التصويرمن شتي المجالات المختلفة، فمثلاً ضمت الرابطة الفنية البنهاوية إلي صفوفها أحمد أفندي إبراهيم حجازي " كان من كبار أعيان الصاغة" الذي يدين له تاريخ التصوير الشمسي المصري بالفضل، إذ أنه مؤسس ومدير أول مجلة متخصصة في التصوير الشمسي.
بيد أن الفصل الخامس والأخير قد حاول الإجابة علي ما الذي التقطه المصورون في مصر؟ وكيف التقطوه؟ ولماذا؟
والواقع أن مصر المصورة كانت بالنسبة للمصورين أولاً وقبل كل شيء بلاد الآثار، فكانت الآثار المصرية بمثابة القطب الأكبر الجاذب للمصورين وآلاتهم حتى أن القائمين علي هذه الصناعة قد طوروا من تقنياتها لتلبي الاحتياجات اللازمة لإنجاز منتج فوتوغرافي رفيع المستوي، فوظف المصورين الآثار المصرية كأدوات فوتغرافية للترويج لإنتاجهم، وأصبحت الآثار المصرية المصورة " صيحة العصر" التي جذبت إليها أنظار الشباب عبر العالم، وقد تباري المصورون فيما بينهم لتقديم أفضل اللقطات المصورة عن الآثار المصرية، ففي عام 1862 نشر مصور ألماني ألبومين عن "آثار مصر القديمة وحكام مصر"، وفي عام 1865نشر أحد المصورين الفرنسيين ألبوماً ضخماً باسم " آثار مصرية ضم 160 صورة، ووصل الولع بالآثار المصرية إلي جعل المصورين يغيرون من نشاطهم التصويري إلي مزاولة المصريات والبحث عن الآثار بعد احتكاكهم المباشر بالآثار.
وإذا كانت الآثار هي الملف الأكثر زخماً، فقد كانت المرأة الشرقية في بلد محافظ مثل مصر هي الملف الأكثر حساسية، إذ أن المرأة الشرقية كانت تخشي أن تلتقطها عدسة آلة التصوير، ولذا، كانت البورتريهات النسائية من الصعوبة بمكان، وقد التقطت أول صورة خاصة بالحريم في مصر في عام 1839 عندما تمكن أحد المصورين الفرنسيين من تصوير "باب قصر حريم الوالي محمد علي"، وعند نهاية القرن التاسع عشر، حاول المصورون من أصحاب المحال جذب المرأة عن طريق الإعلان عن وجود آنسات مخصص لهن أماكن لتصوير " الهوانم والخواتين في ذاك المكان المحتجب"، وفي العام 1922 شهدت مصر معركة صحفية ذات أبعاد فكرية وسياسية بسبب نشر صورة "فخر مصر وأم المصريين السيدة صفية زغلول" حيث تم نشر صورة صفية زغلول في العديد من الصحف المصرية، حيث شنت صحيفة الكشكول حملة شنعاء ضد صفية زغلول ثم ضد هدي شعراوي، ورغم أن هذه المعركة تكرس الصراع بين الحجابيين والسفوريين، فقد اتخذها أعداء سعد زغلول مخلب قط ضده، فإن ثمة أصوات تعالت وسط هذا الصراع منادية بعدم الزج بالدين في كل شيء.
على العموم فخلال الربع الأول من القرن العشرين، نجحت المرأة في توظيف الصورة في صراعها من أجل التحرر بشكل فعال، فعندما قررت هدي شعراوي وسيزا نبراوي خلع الحجاب قامتا بدعوة الصحافة لنشر صورتيهما علي نطاق واسع، كما لجأ بعض النساء إلي إقامة صداقات مع ممثلي الصحافة اعترافاً منهن بقدرة الخيرة علي نشر الصور.
وإذا كان مثول المرأة أمام آلات التصوير يعد من أبرز ملامح الربع الأول من القرن العشرين، فإن التصوير الشمسي منذ اختراعه كان يدور في زمن هيمنت فيه نزعات كشفية واستعمارية علي العقل الجمعي الأوربي، ومن ثم اصطبغ برؤية أوربا للبشر والأماكن والأشياء وقام بدور مساعد في احتلالها للبلاد المستهدفة بالاستعمار، فقد كانت الصور والخرائط بمثابة أدوات استثمرتها الإدارة البريطانية في احتلالها للعديد من البلدان وعلي رأسها مصر في العام 1882، وكذلك في حربها بجبهة الشام أثناء الحرب العالمية الأولي، ومهما يكن من أمر، فقد اطلع الأوربي علي الأخر المصري، وعلي مصر الأخرى الواقعة من خلال الرؤية البصرية الصادق التي التقطتها عدسات آلات التصوير لتكون بمثابة بصمات حية تسجل وتوثق وتؤرخ لمصر: الأشخاص والأماكن والأشياء والظواهر.
والواقع إن هذا المؤلف الفريد في بابه يستحق الكثير من الثناء، ففي اعتقادي أن هذا المؤلف يعيد طرح رؤية دراسة تاريخ مصر الحديث والمعاصر، من جوانب مختلفة، فلا يمكننا تجاهل دور التقنية والعلم في إنتاج تاريخنا ونظل نركز على مصطفي كامل، وسعد زغلول، والأحزاب، وأخيراً ألف مبروك للدكتور محمد رفعت الإمام علي هذا الإصدار المهم وإلى الأمام دائماً.



#حسام_محمد_عبد_المعطي_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المبعوثين المصريون إلي فرنسا خلال عصر محمد علي باشا


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام محمد عبد المعطي أحمد - عصر الصورة في مصر الحديثة