|
|
السردية الاسدية (طقوس العبادة)
نصار يحيى
الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 16:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
صلاة الجنازة الجنازة ستأخذُ شكل "مهرجان خطابي" مع عنوان عريض وطويل: "خطاب الانتصار". كانت حماة تلملم مذبحتها ( شباط / فبراير 1982)، على وقع صرخات نهر العاصي المدمى، باتتْ حوافه ثكلى، يُعاندُ احتضاره، يرنو المارين بحفيفٍ من أنينٍ هامسٍ. لم تعدْ القبور تستقبلُ ضيوفها، مشغولة بطنين الأجساد العتيقة حيث العظام تتفتْت، تسترخي جدار العتم.. في دمشقَ ينزوي نهر بردى، على طنين "الانتصار" الذي سيلقي المفدى خطابه.. يذهب إلى مجلس التصفيق في وسط دمشق، كان اسمه البرلمان السوري، صار اسمه "مجلس الشعب"، ليس ببعيدٍ عن نهر بردى.. سُئلَ بردى يومها: كأني أراكَ "عصيّ الدمع"، لكنك ترقصُ على أنغام هيجانات "الشعب المنتصر" هناك في قمقمه؟ "إني أسمعُ صخبَ الطبولِ..راياتٌ ترفرف بأجنحة من دمٍ.." أخافُ أن أظهرَ حدادي على جنازة "العاصي" المكلوم هناكَ في حماة..
ألقى الأسد كلمته الشهيرة في 8 آذار/ مارس عام 82. بمناسبة ذكرى "ثورتهم البعثية"، ولكن الأهم هو إعلان الانتصار على الإخوان المسلمين في حماة.
(يتفرع عن "الانتصار" حملة اعتقالات شعواء شملت اليسار السوري المعارض (حزب العمل الشيوعي. الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي. حزب البعث الديمقراطي. وبعض الأفراد من الاتحاد الاشتراكي، ومن حزب العمال الثوري) وكل من حاول الخروج عن السرب بمشيته، أو حاولَ أن يعلنَ أن هناك آثام لم يستطع تحملها). كانتْ "الجماهير المحتشدة"، ومعها رجال القصر والأمن والحرس والشبيبة والمظلييات والمظليين، ولاتنسى أخيه بسرايا دفاعه، مع بعض "عجايز" جمعية الإمام المرتضى يتقدمهم الاستاذ جميل الاخ الاوسط.. أما "قادة الجبهة التقدمية" من بكداش وصفوان قدسي "ناحِتْ اللغة ومجدها" في التشفيط وركوب الدراجات النارية، وبقية الركب.. هؤلاء كانوا في الصفوف الخلفية من وراء الكاميرا، حاولوا الاقتراب من "السيد قائد الوطن داحي الامبريالية في عقر دارها وداره". والمفاجأة أنّ من اعترضَ طريقهم هو"رئيس المجلس" المدعو (محمود الزعبي) الذي سينتحر في أيار/ مايو 2000 قبل "معلمه" بأقل من شهر، قيلَ أن الانتحار كان من الرأس خلفاً، لأنه "بَرم يديه"، ثم وضعَ مرآة كي يرى نفسه.. يخرجُ "المفدى" على الأكتاف، يمشون به إلى جوار شارع 29 أيار الدمشقي؛ ترددَ أن صدام حسين عدوه اللدود، تحداه أن يخرج بين الناس إلى الشوارع.. كانتْ الحشود "تُسطّر" آيات الولاء والطاعة، بخنوع يعانق "الجموع" ويزدادُ "نخاً"..يَرى ويُرى..يُراقب ويَراقب.. لم تدرك تلك الجموع أنّ هناك ظلالًا ما تقض مضجعهم: أنهم يشاركون في الإثم، ستظهر تلك الظلال مع أبنائهم وأحفادهم بعد سنوات عدة (2011)، مرددة صوتاً حزيناً تكفيرا عن تلك الذنوب: "ياحماة سامحينا والله حقك علينا.."
عودة للشعار: قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد -لم أحصل على مرجع أو مصدر، ينبأ بمن هو مخترع الشعار-(*). يتزامن معه او بعد عدة ايام تليه (استفتاء عام 85) ، صيغة جديدة من "البصمة" على البيعة: "عهد بالدم"، يذكرها مصطفى طلاس في مذكراته: "ياريت هناك أغلى..عهد بالدم يقطعه له رفاقه في السلاح والعقيدة.."[1] تنصاع اللغة مع (طلاس) نحو "العود الأبدي"، بتعزيز مفردات الركوع؛ تأتي من أحد كبار الضباط الملازمين ل"المفدى" قبل أن تغدو الرياح تسّيرها سفنهم نحو "حركتهم التصحيحية" عام 70. سوف يستطرد ويجعلُ الكلام يحاذي "الولع والهوى" مع "عظيم الامة": "بعد هذا العمى الذي ضربَ زعماء هذه الامة..لم يبقَ إلا الالتفاف حول هذه الراية العربية السورية..لها منارة تقول للناس..تعالوا إلي والحقوا بي..فأنا أقودكم إلى طريق الخلاص.."[2] مع هذا "النحت اللغوي" سنجد أن الخطاب الرسمي، وصلَ إلى اللحظة التي تمهد لتكوين الطاغية، الذي يمثله (طلاس) وبقية "الرفاق" الاصلاء والأنصار ومن ثم "المهاجرين"، الذين ينامون الليل قبل ضحى الليل، كي يسجّدوا بحمد "التاريخ والجغرافيا" كيف أنجبَ هذا "الحافظ"، وكانت أمه "ناعسة" يوم مولده، يزورها ذلك المرتدي "للقمباز الأبيض" حامل البشارة.. لاتستغربوا الحالة يومَ وفاتها عام 92: نجاح العطار وزيرة الثقافة (1976-2000) سوف ترثي ناعسة أمه "للحافظ" في قصيدة عصماء نشرتها في جريدة تشرين (23 تموز عام 92): "أمنا التي رحلتْ..فليغني كل شيء على الأرض وتحت السماء بعظمة هذا الرجل (حافظ).. ويكفي أن حافظ الأسد هو ابن ناعسة الاسد..رحمُ هذه الام صنعتْ مجدكَ.." تتابع الوزيرة في "العصماء" نحو السؤال نحو الأصل بصيغة قدسية: "وأنا أريد أن أسأل: هل كانتْ تعلم عندما كنتَ جنيناً في رحمها، ماذا ستكون في الأيام التالية؟".[3] /الباحثة التي ستكرر معي في هذا الجزء هي ليزا وادين، أمريكية زارت سورية في تسعينيات القرن الماضي وأجرت مقابلات مباشرة واعتمدت على الكثير من المراجع والمصادر قبل أن نودع "العزيز طلاس" - سأعود لزيارته- في استطرادات ونهفاته ما عدا الطبخ والنفخ و "العشق الممتنع على التصويت". نمضي بقليل من شاهدٍ أورده (فاروق الشرع وزير خارجية الأسد 1984- 2006)..حول حالة رفعت الأسد بعد عودته المؤقتة اللا مرغوبة وحضوره المؤتمر القطري الثامن (كانون الثاني عام 85)؛ بعد نفيه بأقل من سنة.: "عادَ رفعت صاغراً بطريقة الاحساس الاخ الصغير بالذنب أمام أخيه الأكبر..شاهدتُه يتقدم خاشعاً..ينحني أمام شقيقه ويقبّل يديه..وقد جعله الاسد يتم مراسم التقبيل إلى نهايتها، كطفلٍ يستجدي العطف من أبيه..".[4] نحن الان قبيل ذاك المؤتمر بلحظات، ومايهم هنا هذه الاشارة عن شخصية الاسد (الاخ الاكبر)، وكيف يتغير المسكون الداخلي للدكتاتور؛ هناك بعض المسكوتات تخرج بالتدريج، كلما سمحت وساعدت قنوات الخنوع والتقديس من الآخرين لشخصية "السيد القائد الاعلى". بطبيعة الحال تبدلت العبارات من قائد الضرورة والمسيرة، عبر السنوات الخمسة عشر الأولى (1970-1985) الى الحالة الثانية مع شعار القائد الابد، وهذا سنتعرف عليه في الخمسة عشر الاخيرة من حياته (1985-2000). هذه المرحلة سيخرج التقديس بصيغة أكثر وضوحاً، لجهة اختزال الحزب والشعب والجيش والجبهة التقدمية، بشخص هذا الذي لم تلد الامهات السوريات، لا من قبله ولن تلد لما بعده بقرون، لذلك يجب الحفاظ على ذريته كي ترث "السلطنة" فيما لو حصل له مكروه "بعيد الشر"!! وغادر هذه الدار الفانية الى دار البقاء، حيث الأولياء الصالحين والقديسين و سدنة "الأرزاق والأعناق"، حينما يحين موعد جزّها.. مصطفى طلاس يطالب الامة العربية اللحاق بالقائد، فلا عتب على النحاتين والتشكيليين والمغنيين بالزحف واللهاث، كي يحجزوا لأنفسهم "غصن" كرسي من قش مهترئ..
يكتب اريك فروم -في كتابه تشريح التدميرية البشرية- ستالين: "..تظهر لدى ستالين صفة أنه يمتلك السلطة والسيطرة المطلقة، يمكنه أن يقتل أو يعذب أو يعفو وأن يكافئ..وانّ له قدرة الله على الحياة والموت..".[5] لم يذكر (فروم) كيف كانت سادية ستالين تصل بمقتضاها، "الذروة قبل الارتعاش" كما "الممارسة الجنسية"، حينما كان يستمتع بالسماع لاعترافات (رفاقه السابقين من مثلَ كامينيف و زينوفيف البلاشفة الاوائل، هذين كانا معه من اللحظة التي عُين به أمين للجنة المركزية حيث كانا مساعديه؛ التعيين تم في عهد لينين، سيقفان معه بصلابة أمام الافتراق الأول مع تروتسكي، خاصة بعد وفاة لينين في كانون الثاني عام 1924).. فكانت مكافأتهما هذه الصيغة القهرية من الذل، والتي تبدأ بإدانة الأنا لنفسها، وأنها تحالفت حتى مع الشيطان!! طالباً منهما الاعتراف بأنهما مذنبان (عام 34) لم يخيبا "أمله". ثم بعد ذلك يأمرُ بإعدامهما عام 1936، دشنّا "الافتتاح بما عرف آنذاك بـالتصفيات الستالينية، وبعض المؤرخين يذكرها التطهيرات الستالينية. (ذكر ذلك اسحق دويتشر/ ستالين سيرة سياسية) [6]. كما "دموع صدام حسين" باعدامه رفاقه في المؤتمر وعلى الملأ. وعندما يشحطوهم كان يقول ما تنسوا ترديد الشعار: أمة عربية واحدة.. أما "صاحبنا والقائد إلى الابد" فإنه سيعمل بطرق أخرى: بعد أن انتصر في حماة، واعتقل ماتبقى -على خطى الشنق- التفت الى اليسار كي يضع الجميع في "مكانٍ آمنٍ" وفي "بيوت" خاصة للموت البطيء وانتظار بعض البصيص، فإنه قد أمرَ الحدادين والنجارين و حفاري القبور، بصناعة مفاتيح خاصة محكمة الإغلاق، لن يمسها أحد سواه..وقصد بذلك انه لن يسمح "لابن مرة" أن يفكر حتى بالهمس أن يستعير المفتاح حتى ولو ليلة ليلاء..
عودة للعهد بالدم ومع "المايسترو" مصطفى طلاس: "وحتى نبقى جميعاً على الخط "عهد بالدم" ست وخمسون وثيقة، حبّرها القادرون على الوفاء بها، ووقعوها بدمائهم، عاهدوا بها القائد على ولائهم الأبدي له..".[7] لم يوضح من هم هؤلاء أصحاب "الست وخمسون وثيقة"؟ تركها لنا نحن القراء "وحفظة العهد" على اعتبار أنها من البدهيات بمكان، حيث لا داعي للسؤال، أو "الحيرة" من هم هؤلاء "الفدائيين الأوائل" الذين تركوا الدم ينزف، كي يتحول إلى حبر ناشف أو "مقدّد"، على ثنايا الخشوع والوقوف جاثيين.. وما يتصدر السردية "الطلاسية" مدى "النغم" نحو التسليم "للقائد الابد". بطبيعة الحالة كان طلاس" من الحواريين "اللزم للقائد"، الذي يقتدي به التابعين وحاجزي المقاعد في الصفوف المشرّع أبوابها للغبار الصادر عن "خبطة" التحية للقائد، عندما يحلمون باللقاء به، أو طيفه حتى لو مرّ بإحدى الحارات المترجلة، بين أقدام سراديب الكهوف الملأى بصخب "السيارات المفيمة" داكنة السواد.
دعونا نقف قليلاً عند مفهوم "الابد" في كتابها السيطرة الغامضة/ السياسة..، تناقش ليزا وادين الباحثة الامريكية، قَسم البيعة للأسد ، من خلاله يتم التعبير عن الولاء العلني من الجماهير، الذي يدلل بشكل مباشر على الخنوع والطاعة مقابل أن يضمن لهم ذلك الشعور بالامان. كذلك تعميم "المبايعة بالدم" الذي انطلق بعيد الانتصار على رفعت (المؤتمر القطري الثامن عام 85) ستجد هذه المفردات لها تواترها في الإعلام الرسمي. "البيعة تشير إلى فعل من خلاله يعترف أشخاص بشكل فردي أو جماعي، بسلطة قائد ذي سيادة.."[8] في المخيال الجمعي لنا كجمع نعيش في ظلال وامتداد للخلافة الإسلامية في شتى مراحلها التاريخية، بما فيها اللحظة العثمانية.. هي تعهد بالولاء والطاعة لولي الأمر، إن كان أمير تنظيم أو خليفة أو سلطان أو "أبو بكر البغدادي" في دويلته "داعش". فكيف صارت -البيعة- حالة متعارف عليها في اللغة، في نظام يزعم انه جمهوري بل ديمقراطي شعبي، ووكيل حصري (أمين عام) لحزب اسمه البعث العربي الاشتراكي.. هنا كان عنصر الدهشة للمراقب او المتفرج من خارج "السور"، إنما لم يعد هناكَ شيء مفاجئ!! دعنا نفكر هنا بقدرة الحاكم المستبد -حافظ الاسد مثالنا- أن يقلب المفاهيم وأن يحيي صيغة من "الحاكمية"، كان يزعمُ حزبه وشخصه الكريم ، أنها تنتمي لعصورٍ خلتْ، لطالما كانت "تساكن أهلَ الكهف الحزانى"!! ستتطور "قواميس" ظلال الاستبداد، بالتأسيس لفكرة التوريث، وانها من طبيعة الامور ان تصبح جمهورية وراثية؛ سيرجمكَ شخص من "الحواريين" أو التابعين: ألم يبدأ بها "الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ" والذي هو السيد الاول لحزبٍ اسمه حزب العمل الكوري "شيوعي الهوى كعنوان"!!
سورية الاسد باتَ من الطبيعي والمكرر ليل نهار، المتداول على ألسنة "الحواريين والتابعين" ثم أقلام الصحف (البعث، الثورة، تشرين)، عداك عن جوقة السهر والمرح وعريفي الحفلات العامة، خاصة في مناسبتين مهمتين للترويج -حرب تشرين (6 تشرين الأول.والحركة التصحيحية 16 تشرين الثاني- كي يخرج للعلن وبكل سلاسة القول: بطل التشرينين، ليتجه نحو التمهيد للقول الفصل: سورية الأسد. يُعاود الخطاب للتأكيد أن سورية بطولها وعرضها وتاريخها، غدت ممتلكة ملكية "بيع حلال زلال" لشخصه ثم للعائلة. وكأن الشعب كله قد قدّم صكوك البيع مع "فروغ كامل" او كما يقال في الشارع السوري "طابو أخضر". إن حاولنا المقاربة بين سورية الاسد، والانظمة العربية المجاورة التي تشبهه في استبدادها، من صدام حسين إلى القذافي إلى مصر عبد الناصر، السادات وحسني مبارك. ربما كان يقال مصر الناصرية لكنها كانت حالة من التجاوز المؤقت للغة، إنما الادق كان القول الحقبة الناصرية التي حكمت مصر ، كما الحقبة الستالينية التي انتسبت للطاغية ستالين، والتي تربعت على قصر الكرملين السوفييتي، كما الحقبة النازية (هتلر/ ألمانيا). أو الفاشية (إيطاليا/ موسوليني). عندما نفكك مفهوم -سورية الاسد- لابد ان نذهب الى التاريخ القديم كما مفهوم البيعة، هنا تتصدر الصيغة العائلية للمشهد السياسي، كما كان مع العهد الأموي أو العباسي حيث الخلافة "الدولة" تنتسب إلى الأسر الحاكمة.
قوة التماثيل "الأصنام" في تعزيز السيطرة المطلقة مما لاشك فيه أن ظهور التماثيل "للسيد الاعلى" الطاغية، سيجعل من أوابد الخضوع والخشوع مسألة غير قابلة للتفكير. لم يكن الوحيد بين الطغاة الذين سبقوه أو معاصريه، من أمثال أعتى الطغاة (ستالين..صدام حسين، القذافي..). انتشرت تماثيل الأسد على كل البقاع والمدن والارياف السورية. وظهر أول تمثال على دلالة الحضور الأبدي عام 1984. بافتتاح مكتبة الأسد / الساحة الاموية في دمشق، قبل شعار قائدنا إلى الأبد ..بعام واحد. والسؤال : لماذا لم يخطر ببال وزير إعلامه السابق أحمد اسكندر أحمد هذا السبق في الاختراع والمعروف عنه أول من أسس لتقديس شخصية الاسد؛ الوزير توفي بنهاية كانون الأول عام 83. ما يلفت الانتباه هنا، قبل هذا التاريخ كان يتم التعظيم، بالاكتفاء بالصور ذات الأمتار المربعة والمكعبة، لكنها ليست من ذات مثلث متساوي الساقين.. اقتصرت التماثيل بالطبع عليه دون سواه، إنما يحصل مقتل الباسل ابنه البكر (ولي العهد) في حادث سير (21 كانون الثاني/ يناير 94)، هذا الحادث خلخل القاعدة، باعتباره الوريث المفقود كما الزمن المفقود في المخيال الادبي، بات لا مندوحة من أن يقاسمه بعض الاماكن او يسمح بوجود تمثال هنا او هناك، كذلك تسمية مشفى أو حديقة باسمه للباسل خاصة مشافي القلب الجراحي. في سياق الكلام عن وجود تمثال لرمز أو ما في الذاكرة الجمعية، حيث يحمل صفة التخليد لهذا الرمز من زاوية ان الشعوب تحتفي وتتغنى بمن صنع الأمجاد لها يوما ما، لن يقتصر على قائد سياسي، قد تشمل ايضًا فنانا عظيما او فيلسوف او عالم ما.. لكن فكرة التمثال للطاغية وكما يقال وعلى حياته، ليست إلا تعبيرا عن الغطرسة وشدة البطش.. دعونا نقترب من المستوى الرمزي لفكرة الطاغية التمثال، بما تغرف من معين القاموس اللاهوتي، باعتباره تجسيد لثنائية الناسوت المتماهي مع اللاهوت بصيغة بشرية تجعله بمتناول البشر (الجمهور)، الخاضعين والذين اعتادوا أن يسكنوا في غرف القهر والهدر، بتصرف من (سيكولوجيا الإنسان المقهور والمهدور لمصطفى حجازي).
في استراحة مع الباحثة الامريكية ليزا وادين، سنجد فكرة مهمة عن نمط الحكم الاسدي والاليات الدفاعية لدى الجمهور الخاضع للسيطرة. تستعمل عبارة كما لو؟ تقصد هنا بالتعبير المتداول في أدبياتنا بمذهب التقيّة؛ هي لم تستخدم المفردة. ان الجمهور الحشد على نوعين من الطاعة: 1- الطاعة الخارجية المبنية على قناعة غير حقيقية، خارجية السلوك لكنها تصبح مألوفة ومكررة، تظهر شيء و تبطن آخر. بمعنى كما لو ان ذلك حقيقي وليس مفتعل، تأتي بمثال بمباراة لكرة القدم "حينما يغضب الجمهور من الحكَم يلقون عليه قارورات مياه احتجاجًا، ينظر الحَكم نحو الجهة التي ألقتْ الزجاجات ، يصرخ المشجعون: بالروح بالدم نفديك يا حافظ..يعمل الشعار كدرع يحميهم من العقاب.." [9]
قد يعترض هنا متصفح للاليات الدفاعية التي يتوارثها "الحشد" الجمعي، حتى لو بدا وكأنه يمثّل على أجهزة السلطة. يمكن الاستفادة هنا من غوستاف لوبون في أفكاره المتعلقة بسيكولوجية الحشد والسياسة أيضا: "الجمهور يتخذ معنى محدد من وجهة النظر النفسية..تنطمس الشخصية الواعية للفرد..تتشكل روح جماعية عابرة ومؤقتة ، لكنها تتمتع بخصائص محددة..عندها تصبح الجماعة جمهورًا نفسيًا..تشكل كينونة واحدة، تخضع لقانون الحدة العقلية للجماهير..[10] هنا تزول الفروق بين من هو مقتنع بالمخلّص الدكتاتور، وبين من "يركب الموجة" لغاية الأمان الشخصي والمصلحة المباشرة.
2- الطاعة المبنية على قناعة داخلية عميقة وأصيلة. هنا سوف أكتب من "عندياتي" بالتعليق على هذا النمط الثاني: لطالما هناك حاجة نفسية تدغدغ اللاشعور الجمعي بالبحث عن "المخلّص" خاصة إن شعرت الجماعة بخطر يهدد وجوها، مستمدة ذلك من مظلومية تاريخية، جعلتْ منها جماعة مهمشة، تعيش على حواف المدن، تسكن بين "حواكير" الجبال الوعرة. سنجد أنفسنا مضطرين، للبحث عن "الشقاق" السوري بين الجماعات العصبية الحاضنة و المحتضنة من قبل السلطة الحاكمة. لنبسّط أكثر عندما انتصر الأسد على الإخوان المسلمين في معركته الاخيرة في حماة، استرخت "العصبية الطائفية" التي كانت ترى الحركة الاخوانية تعبير عن صراع طائفي، تقوده التيارات المتشددة في سبيل العودة بالطائفة الى ماكانت عليه قبل استلام الأسد على السلطة. هنا "الانتصار" ارتبط برمز السلطة (الاسد)، التي ستنهال عليه حالات القداسة، تستلهم العبارة الموروث الجمعي، للالتفاف والتوحد أمام شخصه، كما هو حال "المهدية المنتظرة" عند الكثيرين، تلتحم شخصية "القائد" بالغائب المتخيل، دون الحاجة للبحث عن "الفقدان" الذي يغيب في جب عميق.
سلطة القهر بما هي "تراقب وتعاقب" بالتصرف من ميشيل فوكو. تتراءى للمواطن المقهور حتى في أحلامه؛ ربما يستحضر بعض عبارات المرور كي لايضع نفسه موضع اتهام. تروي الباحثة (ليزا وادين) عن زيارة جرت عام 1989، قام بها ضابط كبير للحرس الجمهوري.. كانت المفاجأة غير المتوقعة من قبل العساكر، بطلبه منهم: "أن يقصّوا عليه أحلامهم التي رأوها الليلة السابقة". تقدم مجند أول: "لقد رأيتُ صورة القائد في السماء..نصبنا سلالم من نار لتقبيلها..". مجند آخر: "رأيتُ القائد ممسكًا الشمس بيديه، ثم ضغطها وسحقها حتى تهاوت.."[11] الباحثة تورد هذا النمط من "الدغدغة" مابين الضابط والجنود، كحالة من الامتثال امام حب وتعاظم تقديس القائد (الأسد) يتداخل ذلك مع التملص من هذا الجنرال ممثل السلطة، من أن يكونا بمكان ما قد يخرجوا عن ولاء الطاعة. في البدء يلفت انتباهنا ذكر السنة (89). بمعنى أن شخصية الأسد بدأت ترسو على شاطئ المخيلة الجمعية بصفتها أمرا طبيعيا، وبات القبول الجمعي يتقبل اللحظة الاسدية، بصفتها تنتمي لشخص له صفات خارقة وغير بشرية. ودعنا نفترض انّ المجندين قد اخترعا "كذبة حلمية"، لكنها بحد ذاتها تحاكي مدلولا عامًا ينتشر، عن صفات القائد. فكيف حلمهما قد اشترك بصفات القداسة عنه: السماء، الشمس.. لم يختَر حلمهما كلمات إنه من البشر والى البشر يعود.. تخطر على البال -الباحثة أوردته بشكل ما- السؤال الذي طرح على أحد فراعنة مصر: لماذا أصبحتَ إله الشمس؟ لأني لم أجد من يردعني. وأنا أقرأ هذه الجزئية عن حلمي الجنديين، تذكرتُ كتاب وضاح شرارة اللبناني (دولة حزب الله، لبنان مجتمعًا اسلاميًا): يورد الكاتب عن جهاديين في حزب الله، من خلال رسائلهم المودعة في أرشيف الحزب، إنها استقت معظمها من الحلم كمادة رئيسية..الحالم يرى نفسه في ملاقاة إمام الزمان المغيب (المهدي المنتظر) أو ملاقاة ولي الفقيه (الخميني)..(**) بمقارنة بسيطة بين الصيغتين -عساكر الأسد وجهادي حزب الله- سنجد أن الحالة السورية حصلتْ "كما لو" أنهما فعليًا جرى معهما ذاك الحلم بلقاء "الحبيب القائد". هنا يختلج الخوف من أن يغدو العسكري "مهدور" الاسم والاقامة فيما لو تجرأ حتى بحلمه من أن يتجاهل "حامي الحمى المفدى".. في حين حلم جهاديي حزب الله، باتَ من السياق العام للإقدام على "عمليات انتحارية" على أمل لقاء الامام المغيب، كعبور الحالة المشهدية الكربلائية. هنا تغدو العقيدة الجهادية أكثر حفرًا لدى أنصارها؛ التعبئة الدائمة حيث المناسبة بظهر أختها من مثل عاشوراء واللطم، وموجات "المناسبات" للتكفير عن ذنبٍ، يوم كربلاء تلك المأتمية الدائمة بأيام وليالي لا تنتهي!! سيجد القارئ الأكثر حفرًا أنه في مكان ما ستلتقي التقديس للأسد بصفته "القائد الابد" مع الحالة المتخيلة لدى الجهادي في حزب الله. ذاك اللقاء هو من حالة "الخطف" للواقع المرئي، والصعود به إلى عالم المعصومية، وذات الصلة بالصيغة القدسية.بتفكير اسطوري ينأى عن الواقع. ربما يحيلنا ذلك إلى حالة "الهذيان" المتداخل بين حلم يقظة المستبطن للاستلاب الفردي (الأنا)، بدرجة عالية من العبودية، لجهة "السيد الأعلى" أو من يرتدي بعض "ثيابه" المركونة على خشبة "العرش". يتبع _____________________________________________________ (*) رُفع الشعار في المؤتمر القطري الثامن ، كانون الثاني عام 85 وأشرت في الجزء الثاني من هذه السلسلة ، ان حنا بطاطو قد ذكره في كتابه: فلاحو سورية. الذكاء الاصطناعي يقول: أن علي دوبا (رئيس شعبة المخابرات العسكرية) هو صاحب فكرة الشعار. [1] مذكرات مصطفى طلاس (مرآة حياتي الجزء الرابع) ص رقم 398 نسخة الكترونية.. [2] نفس المرجع والصفحة [3] صفحة رقم 142. من كتاب السيطرة الغامضة / السياسة، الخطاب والرموز في سورية المعاصرة..الصادر عام 1999. ترجمة نجيب الغضبان / الطبعة الاولى 2010 ..نسخة الكترونية. [4] كتاب الرواية المفقودة جزء اول / فاروق الشرع ص رقم 115 [5] ايريك فروم / كتاب التشريحية التدميرية / نسخة الكترونية ص رقم 32 الجزء الثاني. [6] ستالين سيرة سياسية / اسحق دويتشر صفحة رقم 372..385 نسخة الكترونية. [7] مصطفى طلاس / مرآة حياتي الجزء الرابع ص رقم 399 نسخة الكترونية. [8] كتاب السيطرة الغامضة / السياسة / الخطاب والرموز في سورية المعاصرة / ليزا وادين..ص رقم 116. نسخة إلكترونية. [9] نفس المرجع صفحة رقم 153 [10] سيكولوجية الجماهير/ غوستاف لوبون /ترجمة هاشم صالح..صفحة رقم 53 نسخة الكترونية [11] السيطرة الغامضة..ليزا وادين. ص رقم 179 (**) اقتباس من مقال لي بعنوان المأتمية الحسينية عام 2007
#نصار_يحيى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأسيس منظومة الأبد/ البصمة الاسدية الخاصة
-
المثقف الداعية والمثقف التحريضي
-
هل كان النظام الأسدي نظاماً طائفياً؟
-
-الشيخ والمريد -
-
المرياع
-
شرقي سلمية نصب/ مجموعة قصصية/ ريان علوش
-
رواية في المطار أخيراً / للكاتبة السورية لجينة نبهان
-
مسرحية الاغتصاب للكاتب السوري سعد الله ونوس
-
مسرحية الذباب / الندم/ جان بول سارتر
-
-ماذا وراء هذه الجدران-.. قراءة في رواية راتب شعبو
-
حوار منمنمات بين أطياف -شرّاقة- سعاد قطناني
-
كتاب توقاً إلى الحياة/ أوراق سجين. عباس عباس
-
رواية أحقاد رجل مرهوب الجانب / الكاتب منصور منصور
-
انقسام الروح/ وائل السواح
-
على أوتار الطوفان يعزف غسان الجباعي، أنشودة مدينة ثكلى، صدأت
...
-
دردشات مع روايتين: نيغاتيف، روزا ياسين حسن/ خمس دقائق وحسب،
...
-
قراءة على رواية الشرنقة/ حسيبة عبد الرحمن
-
من الصعب / بدر زكريا
-
تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1
...
-
رحلة تحت ضوء الغسق إلى قصر شمعايا/ رواية علي الكردي
المزيد.....
-
إطلاق سراح هانيبال القذافي بعد 10 سنوات من السجن في لبنان
-
العراق يرد على تصريحات إيرانية رسمية -مستفزة- بشأن الانتخابا
...
-
عباس في الإليزيه غداً.. ملفات غزة من خطة السلام إلى الأمن وا
...
-
محمد ثروث حسن: عالم مصري يبتكر ضوءا لا يخترق
-
شتاينماير يناشد تبون العفو عن بوعلام صنصال لأسباب إنسانية
-
الحنين يعود بميسي إلى برشلونة .. زيارة كامب نو تثير التكهنات
...
-
القضاء الفرنسي يأمر بالإفراج عن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي
...
-
كيف بدت الصور الأولى لإعصار فونغ وونغ الذي ضرب الفلبين؟
-
انطلاق حملة التلقيح التعويضية للأطفال في قطاع غزة
-
ساركوزي يغادر السجن بعد أمر محكمة فرنسية بإخلاء سبيله
المزيد.....
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
المزيد.....
|