عباس عبيد
أكاديمي وباحث.
(Abbas Obeid)
الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 22:16
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
لا سبيل لإبقاء فضيحة ما طيِّ الكتمان إلى الأبد. حتى ريتشارد نيكسون، يوم كان رئيساً للدولة الأقوى في العالم عجز عن تغطية الروائح العفنة لووترغيت. فمن هم على شاكلة بوب ودورد، وكارل برنستين، وليس انتهاء بجوليان أسانج، وإدوارد سنودن يمكنهم قلب الطاولة في أية لحظة. عندها، سيخلط المتورطون الأوراق، سيتوسلون ببلاغة ثعلبية من فوق منصة مؤتمر صحفي علني، لتبرير ما فشلوا في إبقائه سراً. رؤساء نادي برشلونة يفعلون الأمر ذاته كلما أثيرت قضية نيغريرا، تلك التي في حال ثبوتها ستكون إحدى أكبر الفضائح في تاريخ كرة القدم.
كانت الصحافة الإسبانية قد كشفت قبل ثلاثة أعوام عن ما صار يُعرف بفضيحة نيغريرا، وقد تورط فيها النادي الكتلوني طيلة سبعة عشر عاماً مثلت العصر الذهبي لمنجزاته "2001 – 2018". فساد مالي، وأساليب احتيال، وسجلات تجارية مزيفة. كل ذلك للتأثير في قرارات حكام مباريات الدوري، عبر التنسيق مع خوسيه ماريا نيغريرا، وكان يشغل وقتها منصب نائب رئيس لجنة الحكام الإسبانية.
منذ اللحظة الأولى سارعت إدارة نادي برشلونة لنفي التهمة. لكنها اعترفت بدفع ما يزيد على السبعة ملايين يورو لشركة تابعة لنيغريرا، مقابل ما وصفته ب"تقارير، ونصائح فنية" تشرح لهم سلوك حكام المباريات التي يخوضها النادي. ومهما يكن من أمر فبرشلونة لا يزال بريئاً حتى تثبت إدانته، ومن الصعب على القضاء تجريم المتهمين في حالات مشابهة، في ظل غياب/ تغييب الأدلة. ولعل من غير المستبعد أن يجد خوان لابورتا، رئيس النادي المحنك، والسياسي الذي درس المحاماة طريقة ما ليواجه القضاة، ويدفع التهمة. لكن سيصعب عليه إقناع الرأي العام بأن تلك الملايين دفعت مقابل "نصائح تحكيمية" فقط. منصبه الكبير صار مهدداً، وسمعة ناديه تضررت، ومعها سمعة الدوري الإسباني، وقد يصل الحال إلى أن يصدر القضاء عقوبات مؤلمة بحق المتورطين، وبحق النادي المؤسَّس في العام 1899.
المفارقة أن خطاب الرؤساء الرياضيين يذكرنا على الفور بالخطاب الموارب لزعماء السياسة، هروب إلى الأمام، وهجمة سريعة تلقي الكرة في ملعب الخصم. شيء أشبه بمحاولة زعيم أميركي جمهوري يجد نفسه في مأزق فيوجه سهامه نحو الديموقراطيين. هكذا، أسس خوان لابورتا دفاعه على سردية مكررة تستدعي عدواً خارجياً، فاتهم غريمه التقليدي نادي ريال مدريد بكونه الفريق المفضل تاريخياً لحكام الرياضة، وحكام السلطة "الدكتاتور فرانكو" على السواء. أما ناديه فهو البطل الضحية الأكثر مهارة ونزاهة في تاريخ اللعبة، وهي النغمة التي استعادها الرئيسان السابقان لنادي برشلونة: ساندرو روسيل، وجوزيب ماريا بارتوميو في الأسبوع الماضي، حين مثلا أمام القضاء.
أصر ساندرو روسيل على أنَّ نادي ريال مدريد لم يتقبل نجاحات برشلونة، وأنه هو المسؤول عن تضخيم قضية نيغريرا، وأضاف أن ناديه لم يكن بحاجة لأية معاملة تفضيلية من قبل الحكام بوجود ليونيل ميسي، وأفضل نجوم كرة القدم العالميين. لكن المسكوت عنه في خطاب روسيل هو سبب حاجة الفريق "الأفضل في العالم" لأن يزج نفسه في تعاملات مشبوهة، تنبعث منها رائحة فساد من نوع ما! حتى لو لم تكن هناك جريمة فعليِّة لشراء الحكام، فسيبقى الكثير مما يثير الريبة. كيف نفسر أن نادي برشلونة تعامل تجارياً مع شركة يملكها نائب رئيس لجنة الحكام دوناً عن غيرها، مع علمه بوجود تضارب في المصالح، وأن أكثر من رئيس للنادي وافق على استمرار المدفوعات سبعة عشر عاماً، وأن يتزامن إيقافها مع العام الذي فقد فيه نيغريرا منصبه المؤثر؟ والغريب، فوق ذلك، أن الزهايمر لم يصب نغريرا إلا مع بدء المحاكمة!
من هو نيغريرا؟
لم يسبق أن سمع به أحد قبل الكشف عن خيوط الفضيحة. بل لم يعبأ به أكثر المهتمين حتى بعد اشتهارها. نيغريرا صار اسماً لفضيحة لا لإنسان. أدانه صحفيون، وصناع محتوى، ومعنيون بالشأن الرياضي، حتى قبل أن تعقد المحكمة أولى جلساتها. تماماً مثلما أدانوا نادي برشلونة. غير أن النادي الذي تورط معه بصفقات مشبوهة مؤسسة كبرى لها أنصار، وموارد مالية ضخمة، وتاريخ كبير، أما هو فلا. صحيح أن له حكاية، لكنها حكاية عادية، وفصلها الأخير مثير للاشمئزاز.
نيغريرا – سواء أثبُتَتْ عليه التهمة أم لا - مجرد هامش لفضيحة النادي الكتلوني. صورته اليوم أشبه بحارس البنك المتواطئ، يستلم ظرفاً مليئاً بالنقود، مقابل أن يدل اللصوص على أسهل طريقة للتسلل، وفتح الخزائن. دوره ينتهي عندما يقبض أجور خدماته الكريهة، ثم ينصرف، ليلوذ بالصمت إلى الأبد. وفي حال انكشفت الفضيحة، أو هدد هو بإعلانها ليبتز البطل فلن يتذكره الناس إلا بوصفه "كومبارس". الناس معنيون بتتبع أخبار البطل النجم لا غير، صعوده وتألقه، صراعاته واهتماماته، لكن أكثر ما يستثيرهم هو الكشف عن زلة تسقطه من عليائه، عن فضيحة تورط بها، وبقيت سراً إلى حين، بعبارة أخرى، ما يعنيهم هو بيل كلينتون لا مونيكا لوينسكي، ودونالد ترامب وليس أي واحدة من بين أكثر من سبع وعشرين امرأة اتهمنه بالتحرش الجنسي.
تسليع كرة القدم
تبقى الفضيحة واحدة، في السياسة أم الرياضة. الفارق فقط أن عالم السياسة غارق منذ الأزل بموبقات لا حصر لها. بينما ساد الأمل لعهود طويلة بقدرات الرياضة على أن تكون أداة نموذجية لنشر القيم الفضلى بين شرائح الأطفال والشباب. لهذا السبب ضمنت لنفسها مكانة مستحقة بين مناهج التعليم. كرة القدم، تحديداً، بشعبيتها الجارفة، ومع التغير السريع في حياة المجتمعات راهن عليها كثيرون لتعزيز الأخلاقيات، والقيم، وقضايا إنسانية جوهرية مثل التعددية الثقافية، والمساواة بين الجنسين، ونبذ العنصرية. وهي بمجملها أهداف تتطلب تنمية ثقافة اللعب النظيف، وتعزيز روح العدالة، والنزاهة، واحترام الفرق المنافسة، وجماهير اللعبة.
في الجانب الآخر، ذلك الذي لا يحظى باهتمام مئات الملايين من محبي كرة القدم كان ثمة توجه يتعاظم بقوة مفرطة لجعلها نشاطاً تجارياً بمليارات الدولارات. فقد التقط جشع الرأسماليين روائح المال الكثير في حاجة تلك الجماهير للحظات من المتعة والترفيه، وتفريغ همومهم اليومية. وبقرب المال الكثير دائماً ما تظهر تحديات أخلاقية جديدة، فساد، وعنف، وتزوير، وتعاطي منشطات ممنوعة، وتبييض أموال، وتلاعب بالنتائج. مما يؤسف له أن قضية نيغريرا ليست سوى آخر حلقة في سلسلة فضائح كبرى، فمن ينسى "الكالتشيوبولي" فضيحة الدوري الإيطالي في العام 2006، و"الكوريوبوليس" فضيحة كرة القدم اليونانية في 2011. أما العام ٢٠١٥ فسيكشف لنا كيف أن أعلى هيئة مسؤولة عن اللعبة في العالم هي الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" قد استشرى فيها الفساد طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، وقد بلغ مقدار الرشوة، والعمولات غير القانونية التي تلقاها بعض المسؤولين التنفيذيين في الفيفا ١٥٠ مليون دولار!
إن قيمة نادي برشلونة تبلغ في سوق المال اليوم أكثر من خمسة مليارات ونصف المليار دولار، تالياً لناديي ريال مدريد، ومانشستر يونايتد الإنكليزي. هذا يعني أن للصراع في عالم كرة القدم وجوهاً أخرى تتعدى المستطيل الأخضر، حيث حساب المصالح والأرباح لرؤساء الأندية، أولئك الذين ينشدون من وراء الفوز بالبطولات إدخال مئات الملايين من الدولارات لخزائنهم التي لا تعرف الشبع. لقد صارت كرة القدم صناعة بامتياز، وغدا كل شيء فيها قابلاً للتسليع والاستثمار، لبيع بضاعة رائجة في سوق الترفيه، يبدأ ذلك ببيع اللاعبين أنفسهم، ولا ينتهي عند بيع تذاكر المباريات، وحقوق بثها لشركات كبرى، تعيد بيعها لقنوات مشفرة، وعوائد إعلانات، وعقود رعاية، وصحف، وقنوات فضائية خاصة، وصور نجوم، وأكاديميات كروية، ومتاجر مستلزمات رياضية لا حصر لها، ومكاتب مراهنات...إلخ. وفي دهاليز البازار العالمي لكرة القدم ثمة من هو على استعداد ليبيعك كل ما ترغب به، حكماً يضمن لك الفوز في مباريات حاسمة، حق تنظيم بطولة كأس العالم، أو حتى تاريخاً ملحمياً. لكن ما لا يمكن لأحد أن يحصل عليه بتلك السهولة، ما ليس بمقدور أقوى دكتاتور أن يؤمنه لنفسه هو القدرة على أن يقتنع، وأن يقنع الآخرين بأن ما اشتراه بماله الجزيل هو مجد حقيقي، وليس فضيحة.
نيغريرا العربي
كم نيغريرا لدينا في العالم العربي؟ كم فضيحة رياضية طويت صفحاتها في غياهب النسيان؟ فأشباه بوب ودوورد و كارل برنستين لا مكان لهم في هذا الجزء من العالم. كان الرؤساء والملوك العرب قد فهموا - مثل غيرهم - ما تملكه كرة القدم من قوة هائلة، فوظفوها لتلهية الجموع، وتكديس الأموال، وجعلوا منها بوابة للتوريث، عتبة أولى يتسلل منها أبناؤهم إلى المناصب العليا للسلطة ببراءة مخادعة، فأفسدوا السلطة والرياضة معاً. في بلد مثل العراق من تراه يعبأ بفساد "لعبة"، ما دامت أجهزة الدولة المركزية غارقة منذ عقود في فساد شيطاني؟ لقد قضى الموت على كثير من نجوم عالم كرة القدم العراقيين الكبار، لاعبين ومدربين وإداريين وإعلاميين. كانوا شهوداً على عبث صبياني لا سابقة له في حقبة الدكتاتورية. مع ذلك، لم يدون أحد منهم شهادته، حتى بعد العام ٢٠٠٣، وهو العام الذي سيؤذن بتكاثر صحف، ومجلات، فضلاً عن فضائيات نبتت كالفطر، في كل واحدة منها برنامج رياضي أشبه بصراع الديكة، مُعدُّوه ومُقدمِّوه فضيحة بحد ذاتهم، يتوسلون بخطاب شعبوي رخيص ومخجل، وعراك، وسباب فضائحي، يتناوبون عليه مع ضيوف لا صلة تجمعهم بالرياضة من قريب أو بعيد. لم يتوقف أحد من صحفيي الصدفة عند سعي الأحزاب لِزجِّ رجال بلا كفاءة في المناصب العليا للأندية الجماهيرية، واتحاد اللعبة، لم يسأل أحد عن شهاداتهم المزورة، عن شفافية الانتخابات التي أوصلتهم للمناصب، عن ما يظهر أحياناً من تزوير لأعمار لاعبي الفئات العمرية، وعن الهزائم المتواصلة للمنتخب العراقي، وفي إحداها تحدث لاعبان شهيران بغضب ومرارة، ذكرا أن المدرب طلب منهم أن لا يتحمسوا لتسجيل الأهداف، لأن نتيجة المباراة ستنتهي بالتعادل، فكانت الخسارة، وخروج المنتخب من البطولة. جاء حديثهما بعد صافرة نهاية المباراة بدقائق. لاحقاً، آثر أحدهما السلامة، فتراجع عن تصريحاته، أما الثاني، وقد بقي مصراً على رأيه، فقد حُرِمَ من ارتداء قميص المنتخب مرة ثانية، برغم موهبته الكبيرة.
أفكر في شغف العراقيين، وولعهم الكبير بكرة القدم، بأولئك الفتية الذين قضوا قبل عقد من السنين بتفجيرين إرهابيين في مقهيين يحملان اسم ريال مدريد، الأول غير بعيد عن بيتي في بغداد، والثاني في قضاء بلد. خرجوا من بيوتهم حالمين بقضاء ساعة من البهجة، يتابعون فيها مباريات الدوري الإسباني. سيكون ضرباً من سخرية القدر أن يدفع صبية في مقتبل العمر أرواحهم البريئة ثمناً لمشاهدة مباراة كروية دفع أحد طرفيها ثمن فوز مغمس بالرشوة. كان من بينهم أخوان لم يبلغا العشرين من العمر، وسرعان ما لحقت بهما الأم المفجوعة بعد ثلاثة أيام، وكأنها انتظرت إكمال العزاء. رحلوا فجأة، ولم يسمعوا باسم نيغريرا، نغريرا السياسة، نغريرا الرياضة، والمال، والثقافة، والفن، ذاك الذي نرقبه يومياً، يمرح في زوايا عالمنا العجيب، فندير ظهورنا، ثم نمضي سراعاً!
#عباس_عبيد (هاشتاغ)
Abbas_Obeid#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟