|
|
بخصوص إشكالية إعادة إنتاج الذات
معتز حيسو
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 00:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يحتاج بناء الذات بمستوياتها المختلفة والمتعددة إلى إرادة جماعية حرّة ومستقلة تعمل على تمكين وإنجاز قضايا متعددة منها: تقييم علاقتنا السياسية والاقتصادية الداخلية منها والخارجية من منظور وطني، مواجهة الاستبداد السياسي الذي حوّل أدوات عمله الأيديولوجية إلى فعل سيطرة أسست إلى جمود في الرؤية المجتمعية وانفصام في الشخصية السياسية، تخليص الثقافة الرائجة من هيمنة رواسب الجمود العقائدي والتخلف الماضوي الممتدة آثارهما إلى آليات تفكير واشتغال الذات الفكرية والسياسية الفردية والحزبية، وهيئات المجتمع المدني، والنظام السياسي. ومن المعلوم أن إقصاء المواطن عن المشاركة الفاعلة، وتحويل الغالبية إلى ملحقات سلطوية مجردة من الإرادة المستقلة والحرة، يشكل مدخلاً لتردّي أوضاع التفكير الإبداعي، تصدّع لغة الحوار والتواصل، تجفيف منابع الفكر السياسي،هدر الطاقات البشرية، وتبدد السيادة الوطنية. إن السياق العام للتطور يدلل على أن المجتمع غير القادر على إعادة إنتاج ثقافته من منظور التطور العالمي، وغير القادر أيضاً على تحويل الماضي/ التراث إلى مادة للدارسة التاريخية والبحث، سيبقى فاقداً للقدرة الإنتاجية الذهنية المادية والروحية. وبالرغم من كوننا جزءاً من العالم، لكننا ما زلنا خارجه ثقافياً وحضارياً وتكنولوجياً، ويتقاطع ذلك مع تحول مجتمعاتنا إلى مستهلكين لمنتجات الحضارة والتطوّر، وعالة على تاريخنا وحاضرنا، ويكشف عن ذلك انعدام فاعليتنا وتأثيرنا في سياق التطور الكوني. ولم تقف أوضاع مجتمعاتنا عند ذاك الحد، لكنها انزلقت إلى قعر الهاوية، ولذلك علاقة مباشرة بانحسار حقوق المواطنة، تغوّل الاستبداد السياسي، وتمدّد الفكر الديني السلفي الذي يرى دعاته أن المخرج من أزمتنا الراهنة يكمن في تمثّلنا طرائق معيشة أسلافنا وتفكيرهم إضافة إلى التمسك بالهوية الثقافية المتوارثة. ونشير هنا إلى أهمية فصل المقدّس عن الدولة والسياسة، التعامل مع الدين بكونه علاقة الأنا الفردية والجمعية مع الخالق، والمحافظة على حقوق المتدينين الدينية وحريتهم بتأدية شعائرهم الخاصة. أما حكامنا إضافة إلى كونهم سيطروا على المناخ العام بالقوة القهرية والإفقار، فإنهم يعملون على أن يكونوا عقلنا المفكر بالإنابة، ما يؤدي إلى مزيد من التهميش، وبالتالي ارتفاع منسوب الاضطراب المجتمعي. ومن اللافت أن معظم حكّامنا، إن لم نقل جميعهم، يستخدمون الدين لتأبيد سيطرتهم التي يتم تغليفها بالتفويض الإلهي والشرعية الإلهية. إذا حاولنا مقاربة أوضاع نخبنا الثقافية، نلحظ أنها تتعين في إطار مروحة واسعة من آليات وأنماط وأشكال التفكير المادية منها واللامادية، بعضها يُجمع على أن الدين هو المخرج. فيما بعضها الآخر يستخدم مناهج تفكير حداثية لدحض التفكير الديني ونقضه. وفي السياق المذكور غالباً ما يتحول المنهج العلماني الحداثوي التغريبي، ومذاهب وعقائد وتيارات فكرية أخرى إلى أُطر أيديولوجية متكوّرة على ذاتها. أما دعاة التوفيق بين الدين والحداثة فإنهم يعانون من إشكاليات متعددة. هذا في لحظة تحولت فيها كثير من الأحزاب السياسية إلى تجمعات طائفية عشائرية عائلية... ولا يغيّر من ذلك التزام مثقفيها وسياسيها بالميلَ النيوليبرالي. فالنيوليبرالية تتناقض، كما بات معلوماً، مع المعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، وجميعهم يرزح تحت كابوس أنظمة أمنية تعمل على تجفيف منابع السياسة والثقافة المغايرة، ما أدّى إلى إغلاق أبوب الحوار العقلاني، وإلى انتعاش الذاكرة العصبوية الماضوية، وتحوّلها إلى خزائن تفيض على حاضرنا بأدوات التطرّف والقتل والتكفير والتخوين. إن محاولة قراءة الثقافة الموروثة تفترض الوقوف خارجها، وأن تُوضَع في سياق النقد العقلاني المقترن بالتطور الحضاري العالمي. لكنَّ كثيراً من نخبنا الثقافية ما زالت تمارس التكوّر على ذاتها الثقافية، فتتقاطع بذلك مع آليات تفكير سلفية ترفض المؤثرات الثقافية العابرة للأطر الوطنية التي تشكّل صنو الحداثة. علماً أننا نستخدم في حياتنا اليومية مادياً وذهنياً منتجات الحداثة الغربية، ونشير في السياق إلى نقطتين: أولاً: أن ثمة فارقاً كبير بين استهلاك منتجات الحضارة الغربية، وبين إنتاجها الذي يحتاج إلى ثورة عامة وشاملة تنطلق من نقد أوضاعنا الثقافية وآليات تفكيرنا ونقضها، وتمثّل قيم الحضارة العالمية وعقلها العلمي. ثانياً: أن ثقافة الحداثة المرتبطة بالمعايير الديمقراطية تمكننا قي سياق العلاقة مع الأخر من وعي الأنا بذاتها ولذاتها. من جانب آخر فإن عدم اعتراف غير سلطة «وطنية» بفقدان أسباب وجودها، وعدم ارتقاء بعضها الآخر إلى مستوى نظام وطني تعددي ديمقراطي يعمل على تمكين المواطنة المتساوية وبسط سلطة القانون، يساهم بتعقيد أوضاعنا الراهنة وتمكين المتعفن منها. كذلك فإنَّ التفاؤل بالعولمة الرائجة، والديمقراطية النيوليبرالية، لم يخلّفا غير اليأس والبؤس والوهم والانعزال وإعادة إحياء القبليات السياسية وغير السياسية. لكنَّ ذلك لا يعني التسليم بهيمنة الاستبداد وانتصار النيوليبرالية. فالعولمة بنسختها النيوليبرالية لم تتجاوز عتبة الصراعات الجيوبوليتيكية بين قوى كبرى تعمل على تمكين سيطرتها عالمياً. أما >>نهاية التاريخ<< فإنه لن يتوج كما يتصور البعض بانتصار النيوليبرالية، ذلك كونها تُعمق عدم المساواة والاستقطاب الاجتماعي. ما يعني ارتفاع حدة التناقض واتساعه. وذلك يدفع الشعوب المفقَّرة والنخب الثقافية والسياسية للبحث عن مخارج أخرى تستند إلى منهجية فكرية ومعرفية تُعيد التطور إلى مجاله الإنساني، وتحدّ بذات الوقت من إعادة إحياء الهويات القبلية. بات واضحاً أن عودة مفاعيل التطرف، وانتعاش المدّ القومي الشعبوي، والشوفيني المتكور على ذاته، يُشكّل ردّ فعل على ما خلّفته العولمة النيوليبرالية من تداعيات اجتماعية وطبقية داخل بلدان الشمال، وعلى طبيعة علاقتها بدول الجنوب. فأزمات النظام النيوليبرالي بات يشكل مدخلاً للفوضى والتناقض. وكلاهما يشكلان كما هو معلوم سمة النظام العالمي الجديد. وتتزامن التحولات المذكورة مع عودة غير دولة غربية لفرض سياسات حمائية، علماً أنها، وتحديداً واشنطن، حملت لواء العولمة، وما زالت تعمل وغيرها من الدول الرأسمالية الكبرى على تحطيم الحواجز أمام رأس المال المعولم العابر للحدود والجنسيات. إن ما يمرّ به النظام العالمي من تحولات نكوصية ينعكس علينا نحن العرب بأشكال جداً كارثية. فنحن لم نغادر حتى اللحظة ماضينا، ونعمل على التكيف مع الحداثة بعقول وآليات تفكير طفولية، ما يجعلنا نعيد إنتاج تبعيتنا، وأيضاً هوياتنا القبْلية، ونتوهم أنها تُشكل مصدر قوتنا وتعبيراً عن بنيتا. ما يدفعنا للتأكيد على أن تجاوز أوضاعنا، والمشاركة بالحضارة الكونية إنسانياً، يحتاج إلى تغيير يجمع بين الأخلاق والفلسفة والعلم والسياسية. وإذا كانت الثورة الرقمية تُعَدّ الأهم في اللحظة الراهنة، إلا أنه يجري استثمار أدواتها لإعادة إنتاج العقل وتوضيبه وتنميطه لتمكين معادلة مفادها: عقل بشري معولم يعمل وفق آليات نمطية متجانسة في سياق ضوابط وميول تتحكم بها جهات مهيمنة. نشير أخيراً إلى أنه تجري إعادة تشكيل العالم المادي والروحي في لحظة تتسم باختلال النظام العالمي، صحوة القبْليات بتجلياتها المختلفة، تصدع الفكر الديمقراطي الليبرالي، ارتفاع البطالة طرداً بازدياد التطور التقني، توظيف منتجات الثورة التكنولوجية لمفاقمة احتكار أدوات القوة والسيطرة والهيمنة، وتعميق ارتهان دول الجنوب لشمال العالم. فهل ننجح كعرب في تجاوز أوضاعنا الراهنة، وتحقيق نهضتنا المنشودة؟ كيف ومتى؟ الإجابة دونها ركام من التحدّيات والغموض؟ علماً أن تصالحنا مع ذاتنا وانفتاحنا على الآخر يفتحان نوافذ التغيير وأبوابه. * كاتب وباحث سوري
#معتز_حيسو (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدخل إلى خطاب المظلومية
-
بخصوص ثقافة العنف
-
عود على بدء سؤال الهوية من جديد
-
عود على بدء سؤال الهوية من جديد
-
مقدمات أولية للحوار عن إشكاليات الأيديولوجيات الكبرى
-
قراءة أولية في وثيقة الإعلان الدستوري
-
بخصوص الوطنية والمواطنة
-
قراءة في مستقبل الاقتصاد السوري
-
المدخل إلى التعايش المجتمعي
-
من تحديات العمل السياسي والمدني في اللحظة الراهنة
-
معاً نبني سوريا حرة موحدة ديمقراطياً
-
الدولة هوية
-
عن إشكاليات إعادة إنتاج الذات العربية
-
عن إشكالية إعادة تصنيع العقل البشري عولمياً
-
سوسيولوجيا الهشاشة والفقر: سوريا أنموذجاً
-
المثقفون الرُّحّل
-
المثقفون الرُحّل
-
الدستور وقضايا التغيير في سوريا
-
مَن أنتم؟ هل كان القذافي محقا؟
-
التحوّلات الدولية وعلاقتها بمستقبل سوريا السياسي
المزيد.....
-
السعودية.. فيديو تأثر صالح الفوزان خلال فتاوى وأحاديث له تثي
...
-
الأردن.. جملة قالها شخص لولي العهد لحظة مروره بجانبه تثير تف
...
-
ماذا تعرف عن مشروع سموتريتش لدفن ما تبقى من فلسطين؟
-
وفاة ملكة تايلاند الأم سيريكيت عن عمر 93 عاما
-
-سم في الشوكولاتة والمربى-.. رئيس الإكوادور يكشف لـCNN عن تع
...
-
مادورو يتهم الولايات المتحدة بـ-فبركة حرب- بعد تحريك أكبر حا
...
-
مبعوث بوتين: أميركا وروسيا وأوكرانيا تقترب من حل دبلوماسي
-
توتر الكاريبي.. واشنطن تنشر حاملة طائرات قرب فنزويلا
-
تقرير.. البيت الأبيض يضغط لإلغاء عقوبات سوريا -الأشد قسوة-
-
بريطانيا.. سجن شبان بتهمة إحراق معدات مخصصة لأوكرانيا
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|