معتز حيسو
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 02:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تشكل الثقافة أسلوب حياة وإرثاً مشتركاً من الذكريات والعادات المتوارثة. بهذا المستوى تشكّل مقدمات العنف أحد تجليات الوعي القائم على تجاهل الأخر وإنكاره وصولاً إلى التعدّي على كيانه المستقل المحمول على إرادة حرة. ويمكننا تعريف العنف بأنه كل ممارسة مادية أو معنوية تهدف إلى كبح حرية التعبير، والنيل من قيمة الفرد والحط من شأنه أو مصادرة حريته السياسية والمدنية. أما أنماط العنف فتُمثّل أشكال السيطرة المرئية وغير المرئية، ويتم الإفصاح عن بعض منها في إطار المعتقدات والمواقف الثقافية والسياسية، والممارسة الاجتماعية الناتجة عن سوء التكيف.
تتشكل أنماط العنف من نسيج خطاب ثقافي يتأثر بالمعتقدات والمؤسسات والخطاب الرمزي ويؤثر بها في سياق سيطرة هرمية تنعكس على وعي الفرد وأشكال علاقته بالآخر. ويُوظَّف مفهوم العنف الفطري الذي يعتبره كثير من الزعماء والمفكرين بأنه أحد أشكال التطور الاجتماعي القائم على صراع الوجود للسيطرة السياسية التي تقونن العنف السلطوي وتبرره اجتماعياً.
العنف في تجلياته الفردية تعبيرٌ عن العلاقات المسيطرة في البنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي السائد. وعليه تُشكّل الثقافة الفردية بعضاً من تجليات الثقافة الاجتماعية العامة، التي يتحدد بناءً عليها مستوى وشكل ثقافة الفرد وأشكال ممارسته الملموسة، من دون أن يعني ذلك إلغاء التمايزات الفردية ضمن البنية الاجتماعية. لذا فإن البحث في أسباب تنامي ظاهرة العنف يستوجب تحديد ودراسة العوامل المساهمة في تشكّلها وتفعيلها. فالبنية الاجتماعية تتجلى في سياق نمط ثقافي مهيمن بأشكال ثقافية متعددة، وذلك يعود إلى ترابط وتداخل وتشارط سيرورة العلاقات الاجتماعية الإنتاجية وغير الإنتاجية. أمّا التكوين الثقافي للبنية الاجتماعية فيتحدَّد في سياق تطور موضوعي يميل إلى الانفتاح. أما انحسار وجود وتأثير الهويات الثقافية المحلية فإنه يتجلى في سياق تشكّل هوية ثقافية كونية يكون فيها للقوى المهيمنة الدور المحدِّد.
إن الأيديولوجيات الكبرى في سياق هيمنتها على السلطة تمارس آليات من التهميش والقمع والإقصاء بحق الأقليات السياسية، الثقافية، الإثنية والمذهبية، ويتم ذلك في سياق الترابط بين منظومة عقائدية أحادية وسلطات سياسية شمولية تشتغل على فرض مفاهيمها الأيديولوجية، وقوننة العنف السلطوي وشرعنته كونه بالنسبة إلى تلك السلطات يُعد مدخلاً للمحافظة على «الاستقرار الاجتماعي». ما يؤدي لتمكين ظواهر الانغلاق على الذات وتضخم الشعور بالمظلومية، والتمسك بالانتماءات دون الوطنية.
من جانب آخر، يتزامن تفاقم دور العقائد الأحادية المدّعية امتلاك الحقيقة المطلقة، والرافضة للتباين والاختلاف على مستوى الاجتماعي العام ضمن ذات المنظومة، مع تغييب دور المؤسسات الثقافية العلمانية والديمقراطية. ومن البداهة بمكان أن يؤدي ذلك إلى انتشار مفاهيم التكفير والتخوين، وأشكال من التماهي مع ممارسات السلطة القهرية، وممارسة العنف الفكري والجسدي لإزالة الآخر معرفياً ووجودياً، ما يؤدي إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية العمودية والأفقية، وإلى تصدع وتفكك المكونات الاجتماعية، وتحوَّل التنوع الاجتماعي من مصدر للغنى والإبداع إلى أحد أسباب صراعات دون وطنية تهدد السلم الاجتماعي.
إن اقتران الوعي الأحادي بسلطات سياسية أحادية شمولية، يشكّل مدخلاً إلى إعادة إنتاج الوعي السائد والموروث وتحويله إلى أدوات وظيفية لتبرير ممارساتها التسلطية. وهذا يساهم بدوره في انتشار مظاهر التسليم والخضوع والتقيّة والمداهنة والمراوغة والفساد. وجميعها تُعبِّر عن أشكال من التكيف السلبي مع السلطة القهرية. وقد ساهم تبرير العنف السلطوي وأدلجته في انتشار أشكال كثيرة من ثقافة العنف، وجميعها إضافة إلى العنف الديني تعمل على إخضاع الآخر ودفعه للتكور على ذاته للوصول إلى استغراقه في بنية أيديولوجية أحادية.
في السياق نشير إلى أن من مخاطر تلك التحولات أنها تُشكّل بعضاً من ذاكرة جمعية تستند إلى أشكال من الثقافة الأحادية المتوارثة والمكتسبة بآن. ويمكننا القول أن غياب الوعي الديمقراطي عن تعبيرات الوعي السائد أو تغييبه يقترن بهيمنة سلطة أحادية وأيديولوجيات شمولية على المناخ المعرفي والثقافي والسياسي، وآليات إنتاج الثقافة وأشكال الوعي الموروث. نضيف إلى ذلك اشتغال السلطة المسيطرة على توظيف بعض من رموز الفكر الديني في الدفاع عنها تأبيداً لسيطرتها وتبريراً لممارساتها وآليات اشتغالها. وكان ذلك من أسباب تنامي تأثير التيارات المعرفية العقائدية والأصولية السلفية بشكل خاص، وفي نشوء أشكال ثقافية وسياسية متماهية مع ثقافة السلطة المسيطرة التي تعود جذورها إلى الأبوية السلطانية.
أمّا تجدد ظواهر التطرف السلفي الجهادي، فمن أسبابه اشتغال مراكز أبحاث مرتبطة وظيفياً بمراكز صناعة القرار العالمي على إبعاد التناقض والاستقطاب الاجتماعي عن جذره السياسي والاقتصادي، وتقديمه كتناقض حضاري. لذلك فإن تحديد الأسباب الكامنة وراء انتشار العنف المحمول على الحركات المتطرفة، إضافة إلى ما يتم التركيز عليه. يحتاج إلى تحديد وضبط أشكال العلاقات الإنتاجية القائمة على تغريب العامل عن وسائل الإنتاج وعن إنتاجه، والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ومن الواضح أن القوى المهيمنة تشارك من خلال تعميق علاقة التبعية والارتهان الكولونيالي في زيادة حدة التناقضات الاجتماعية، ومعدلات الاستقطاب والإفقار والتخلف. في ذات السياق، فإن اشتغال رأسماليات المركز على تصدير أزماتها إلى البلدان الطرفية، وربطها بحركة الاقتصاد الرأسمالي المأزوم كان من أسباب إعاقة التطور وإغلاق آفاقه. ونشير إلى إن ذلك يقترن بتجفيف منابع المناخ الديمقراطي التي يتجلى بعضاً منها بالعمل على تقويض ثقافة الحوار والفكر النقدي، حقوق المواطنة المتساوية، الحريات المدنية والسياسية، وسيادة القانون الذي يجب أن يتساوى أمامه المواطنون كافة. ما يؤدي لتفاقم منسوب التناقض المجتمعي الذي يساهم في انتشار ثقافة الخوف والتكيّف السلبي، وأشكال من التطرف المنفتح على العنف، ولذلك علاقة مباشرة بالدعم الدولي للعنف المحمول على قوى التطرف، وتمكينها للأسباب الذاتية والموضوعية لجذور ظواهر التطرف واستخدامها وظيفياً. وهذا يدلل على أن محاربة القوى الدولية الشكلي للإرهاب يخفي تناقضات وأهدافاً تخالف أهدافها وسياساتها المعلنة.
* كاتب وباحث سوري
#معتز_حيسو (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟