أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - حسن العاصي - فلسطين في المغرب: لاجئة في القلب، مقيمة في الوعي والضمير















المزيد.....

فلسطين في المغرب: لاجئة في القلب، مقيمة في الوعي والضمير


حسن العاصي
باحث وكاتب

(Hassan Assi)


الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 16:16
المحور: القضية الفلسطينية
    


شهادة وجدانية: فلسطين ليست قضية، بل هوية


صحيح أن فلسطين تسكن قلوب الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وأنها كانت وما زالت قضية مركزية توحّد الضمير العربي في لحظات النخوة والكرامة. هناك شعوب قدّمت تضحيات جسيمة من أجل فلسطين، دماً وموقفاً ومساندة، ونقف أمامها بكل احترام وإجلال. هذا المقال لا يُنتقص من أحد، ولا يُقارن بين حبٍ وآخر، بل هو شهادة وجدانية، تنقل معايشتي الشخصية لحب المغاربة لفلسطين، كما لمسته في نظراتهم، في كلماتهم، في مواقفهم اليومية. هو توثيق لحالة وجدانية فريدة، حيث يتحول الحب إلى هوية، والتضامن إلى دفءٍ إنساني يجعل الفلسطيني يشعر في المغرب أنه ليس ضيفًا، بل من أهل البيت.
فلسطين ليست ضيفاً عابراً في وجدان المغاربة، ولا قضية موسمية تُستدعى عند اشتداد الأزمات. إنها مقيمة في الوعي، لاجئة في القلب، تسكن الضمير الجمعي كما تسكن الذاكرة التاريخية. في المغرب، لا تُختزل فلسطين في شعارات أو بيانات، بل تُحيا في تفاصيل الحياة اليومية، في أسماء الشوارع، في جداريات المدارس، وفي نبض المظاهرات التي لا تنتظر إذنًا كي ترفع صوتها.
فلسطين هنا ليست مجرد جغرافيا منكوبة أو ملف سياسي معقّد، بل هي هوية متجذرة في الوعي الشعبي، تُستحضر في لحظات الفرح كما في لحظات الغضب، وتُروى كحكاية انتماء لا كخبر عاجل. هذا المقال ليس تحليلاً سياسياً ولا سرداً تاريخياً، بل شهادة وجدانية عن كيف تحولت فلسطين في المغرب من قضية إلى وجدان، ومن نكبة إلى رمز، ومن ألم إلى التزام أخلاقي لا يشيخ.

من الرباط إلى القدس، دربٌ من الوفاء
ليس حب المغاربة لفلسطين طارئاً أو عاطفة موسمية، بل هو امتدادٌ تاريخي عميق، متجذر في الوعي الجمعي، ومغروس في تربة الهوية المغربية منذ قرون. إنه حبٌ لا يُفسَّر فقط بالانتماء العربي أو الإسلامي، بل يتجاوز ذلك ليصبح موقفاً أخلاقياً، وميثاقاً وجدانياً، وولاءً إنسانياً لا يتزعزع.
منذ العهد الأيوبي، كان للمغاربة حضورٌ دائم في القدس الشريف، حيث أُنشئت "حارة المغاربة" بجوار المسجد الأقصى، لتكون مأوى للحجاج والمرابطين القادمين من المغرب الأقصى. لم تكن تلك الحارة مجرد حي سكني، بل كانت رمزاً حياً على عمق العلاقة الروحية بين المغرب وفلسطين، وعلى أن القدس كانت دائماً جزءًا من وجدان المغاربة، كما لو كانت مدينة من مدنهم.
في عام 1948، انخرط عشرات المغاربة في صفوف جيش المتطوعين العرب، وشاركوا في معارك القدس ويافا وحيفا، واستُشهد منهم من استُشهد، تاركين بصمتهم في سجل الكرامة. وفي سبعينيات القرن الماضي، اعتُقل مغاربة ضمن صفوف الثورة الفلسطينية، ما يعكس أن الدعم المغربي لم يكن فقط بالكلمات، بل بالدم والموقف.
منذ تأسيس لجنة القدس عام 1975، أُسندت رئاستها إلى جلالة الملك الحسن الثاني، في خطوة تعكس الثقة العربية بدور المغرب المركزي في الدفاع عن القدس. وقد واصل الملك محمد السادس هذا النهج، مؤكداً في كل المحافل الدولية أن القضية الفلسطينية هي قضية عادلة لا تسقط بالتقادم.
أما الشعب المغربي، فقد عبّر عن دعمه لفلسطين في كل مناسبة، من المسيرات الشعبية إلى المبادرات الثقافية، ومن الأغاني الوطنية إلى المناهج الدراسية. في المغرب، لا يُدرّس التاريخ دون ذكر فلسطين، ولا تُقام فعالية وطنية دون رفع علمها، ولا يُحتفل بالكرامة دون استحضار نضال شعبها.
حين تُستهدف فلسطين، يخرج المغاربة إلى الشوارع، لا بدعوة من حزب أو جهة، بل بدعوة من القلب. تُرفع اللافتات، وتُهتف الشعارات، وتُبكى الدموع، وكأن الجرح الفلسطيني هو جرح مغربي. في كل مدينة، من طنجة إلى العيون، ترى الناس يهتفون باسم فلسطين، لا طلباً لمجدٍ شخصي، بل وفاءً لوعدٍ أخلاقي لا يسقط بالتقادم.

كيف يرى المغاربة فلسطين؟
في المغرب، لا تُذكر فلسطين إلا وتُضاء القلوب قبل العيون. وتُضاء الأرواح كما تُضاء القناديل في ليالي رمضان. هي ليست مجرد اسم على خارطة، بل نغمة في القلب، دعاء في السجود، وحنينٌ لا يعرف المسافة. حين يتحدث المغربي عن فلسطين، لا يتحدث كما يتحدث عن بلدٍ بعيد، بل كما يتحدث عن شقيقٍ غائب، عن بيتٍ لم يزره لكنه يعرف تفاصيله، عن جرحٍ لا ينزف من جسده لكنه يشعر بألمه في كل نبضة.
فلسطين في المغرب ليست مجرد قضية سياسية أو خبر عابر في نشرات المساء، بل هي نبض حي يسري في وجدان الشعب المغربي، من جبال الأطلس إلى أزقة فاس ومراكش. حين تقول لأحدهم إنك من فلسطين، لا يستقبلك كغريب، بل كأخٍ عائد من سفرٍ طويل، كمن يحمل في هويته شرفاً يتجاوز الحدود. يبتسم لك المغربي وكأنه فاز بجائزة العمر، ويقولها بصدقٍ يزلزل القلب: "أنتم فخرنا".
هذا الحب ليس وليد لحظة، بل إرثٌ متجذر في الوعي الجمعي، يتوارثه الكبار والصغار كما تُورث القصائد والرايات. حتى الأطفال، حين يسمعون باسم فلسطين، يرفعون رؤوسهم ويقولون: "نحبكم ونحب فلسطين"، وكأنهم وُلدوا وفي قلوبهم خارطة عشقٍ لا تعرف الجغرافيا ولا السياسة، بل تعرف الحق والكرامة والانتماء.
فلسطين في المغرب ليست ضيفاً، بل ساكنٌ دائم في القلب، قضية وطنية لا تقل قداسة عن قضايا الأرض والهوية. وهذا المقال محاولة لالتقاط هذا الحب العظيم، وتوثيق كيف أصبح الفلسطيني في المغرب رمزاً للكرامة، وكيف أصبحت فلسطين مرآةً يرى فيها المغربي أجمل ما فيه: النخوة، الوفاء، والوجدان العربي الحر.
في المغرب، لا تحتاج أن تسأل عن فلسطين كي تعرف مكانتها. يكفي أن تمشي في الأسواق، أو تحضر أمسية شعرية، أو تستمع إلى أغنية شعبية، لتدرك أن فلسطين ليست مجرد قضية، بل هي جزء من النسيج اليومي، من الذاكرة الحية، من الحلم الجماعي الذي لا يشيخ.
من عبد الهادي بلخياط إلى مجموعة ناس الغيوان، ومن الشعراء الشعبيين إلى فناني الراب المعاصر، كانت فلسطين حاضرة في الأغنية المغربية كرمزٍ للكرامة والحرية. تُغنّى فلسطين كما تُغنّى الأم، والحبيبة، والوطن. تُذكر في القصائد كأنها جرحٌ شخصي، وكأن كل مغربي يحمل في قلبه مفتاحاً لبيتٍ في القدس، لم يره لكنه يؤمن بوجوده.
في حفلات الأعراس، تُرفع الأعلام الفلسطينية إلى جانب المغربية، وفي المهرجانات الثقافية، تُخصص فقرات كاملة لفلسطين، وكأنها ضيفٌ شرف لا يغيب.
في المقاهي، في المدارس، في الأسواق، في الحافلات، في الأحاديث العابرة، تجد اسم فلسطين يتسلل كنسمة، كأنها جزء من اللغة اليومية، من الذاكرة الجماعية التي لا تنسى. لا يحتاج المغربي إلى مناسبة كي يتحدث عن فلسطين، فكل يوم هو مناسبة، وكل خبر عنها هو خبرٌ شخصي، وكل شهيد فيها هو شهيدٌ من أبنائه.
وحين يلتقي المغربي بفلسطيني، لا يسأله عن اسمه أولاً، بل يقول له: "أنت من فلسطين؟ يا سلام، أنتم الرجال الحق وشرف هذه الأمة"، وكأن الهوية الفلسطينية جواز مرور إلى القلب، وكأنها وسامٌ من ذهب لا يُمنح إلا لمن عاش الكرامة تحت القصف، ولمن حمل الحلم رغم الحصار. يشعر الفلسطيني في المغرب أنه ليس ضيفًا، بل صاحب بيت، وأنه لا يحتاج إلى شرح قضيته، فالمغربي يعرفها كما يعرف قضيته هو، بل يراها امتداداً لها، يرى في فلسطين مرآةً لروحه، لكرامته، لتاريخه.
هذا الحب لا يُعلَّم في المدارس، بل يُورث في البيوت، في الأغاني، في القصص التي يرويها الجد للحفيد، في الصور التي تُعلّق على الجدران، في الكوفية التي تُرتدى في المسيرات، في الأعلام التي تُرفع في الأعراس، في الدموع التي تُذرف حين يُقصف حيٌ في غزة، وكأن القصف وقع في حيٍ من أحياء الرباط أو الدار البيضاء.
المغربي لا يحب فلسطين لأنه يجب أن يحبها، بل لأنه لا يستطيع إلا أن يحبها. لأن في حبها شيءٌ من الوفاء، من النخوة، من الرجولة، من الإيمان بأن الحق لا يموت، وأن الكرامة لا تُشترى. فلسطين في المغرب ليست قضية تضامن، بل قضية وجود، قضية وجدان، قضية حبٍ لا يُفسَّر، لأنه أعمق من التفسير، وأصدق من الكلمات.

الطفل يرسمها والمرأة تدعو لها: فلسطين كما يحياها المغاربة
في المغرب، لا يُولد الطفل على بياضٍ تام، بل يُولد وفي قلبه نغمةٌ خفيفة، كأنها من بعيد، تقول: "فلسطين". لا يعرف معناها بعد، لكنه يسمعها في البيت، في المدرسة، في الأغاني، في دعاء الأم، في حكايات الجد. يكبر الطفل المغربي وهو يرى علم فلسطين يُرفع إلى جانب علم بلاده، يسمع اسمه يُذكر في المسيرات، يرى الكوفية تُرتدى في الأعياد، ويشعر أن هناك بلداً بعيداً، لكنه قريبٌ جداً من قلبه، بلداً يُحبّه دون أن يراه، كما يُحبّ الحكايات التي تُروى قبل النوم.
الكوفية الفلسطينية ليست مجرد وشاح في المغرب، بل هي إعلان موقف. يرتديها الشباب في الجامعات، والنساء في المسيرات، وحتى الأطفال في المدارس، وكأنها راية وجدانية تقول: "نحن معكم، نحن أنتم". في بعض الأحياء، تُطرّز الكوفية على الجلابيب، وتُدمج في التصاميم العصرية، لتصبح جزءًا من الموضة التي لا تنفصل عن الموقف.
حتى في المدارس، يُطلب من الأطفال أن يرسموا علم فلسطين، وأن يكتبوا عنها، وكأنها درسٌ في الوطنية، لا في الجغرافيا فقط.
فالمغربي لا يرى فلسطين كأرضٍ بعيدة، بل كمرآة يرى فيها ذاته. يرى فيها مقاومته للاستعمار، وحنينه للعدالة، ورفضه للظلم. فلسطين تُذكّره بتاريخ بلاده، بنضاله، بكرامته، ولهذا فإن حبها ليس مجرد تضامن، بل هو حبٌ للذات، للهوية، للحق.
وحين يرسم الطفل المغربي في دفاتره، يرسم المسجد الأقصى، يرسم يداً تمسك بحجر، يرسم قلباً بين علمين. لا أحد يُجبره على ذلك، لكنه يفعل، لأن فلسطين في وجدانه كما تكون الأم في القلب، لا تحتاج إلى تفسير. يسأل الطفل: "لماذا يُحاربون فلسطين؟"، فيجيبه الكبار: "لأنها صاحبة الحق"، فيتعلم الطفل أن الحق لا يُقاس بالقوة، بل بالصبر، وأن فلسطين هي درسٌ في الكرامة، قبل أن تكون درساً في الجغرافيا.
أما المرأة المغربية، فهي لا تُحب فلسطين فقط، بل تُشبهها. في صبرها، في قوتها، في حنانها، في قدرتها على الاحتمال. حين تُشاهد أماً فلسطينية تُودّع ابنها الشهيد، تبكي كما تبكي على ابنها هي، وكأن الفقد واحد، وكأن الألم لا يعرف الحدود. في دعائها، تُخصّص لفلسطين دعوةً خاصة، وفي قلبها، تحفظ لها مكاناً لا يُزاحمها فيه أحد.
المرأة المغربية تُطرّز الكوفية على ثوبها، تُعلّق صورة القدس في مطبخها، تُعلّم أطفالها أن فلسطين ليست قضية رجال فقط، بل قضية كل من يحمل قلباً حياً. وحين تُشارك في المسيرات، تهتف باسم فلسطين كما تهتف باسم ابنها، بصوتٍ لا يعرف الخوف، وبحبٍ لا يعرف التراجع.
في المغرب، فلسطين ليست ضيفاً في وجدان الطفل أو المرأة، بل هي جزءٌ من التكوين، من التربية، من الحلم، من الحب. هي الحكاية التي لا تنتهي، والقصيدة التي لا تُنسى، والاسم الذي يُقال دائماً بخشوع، كأن فيه شيئاً من القداسة، وشيئاً من الذات.

فلسطين في الذاكرة البصرية والثقافية المغربي
في المغرب، لا تُختزل فلسطين في خطابٍ سياسي أو شعارٍ عابر، بل تتجلى في الذاكرة البصرية والثقافية كحضورٍ دائم، كظلٍ لا يفارق الضوء، وكأنها جزءٌ من المشهد المغربي نفسه. في الجداريات التي تزين جدران المدن، ترى علم فلسطين مرفرفاً إلى جانب العلم المغربي، مرسوماً بألوانٍ حارة، كأن الرسام لا يرسم علماً، بل يرسم قلباً نابضاً. في الأزقة، على جدران المدارس، في ساحات الجامعات، تُكتب كلمات مثل "الحرية لفلسطين"، لا كزينة، بل كقسمٍ يومي يتلوه المكان على من يمرّ.
في المعارض الفنية، تجد لوحات تحمل وجوهاً فلسطينية، عيوناً تنظر نحو الأفق، أطفالاً يحملون الحجارة، نساءً يرفعن الكوفية، وكأن الفنان المغربي لا يرسم فلسطين فقط، بل يرسم نفسه فيها، يرسم وجعه، حلمه، مقاومته. لوحة "فلسطين صباح الحرية" للفنان الفلسطيني عماد أبو اشتية، مثلاً، عُرضت في المغرب كأنها صلاة بصرية، تُقرأ بالعين وتُحس بالقلب.
وفي المسرح، لا تغيب فلسطين عن النصوص، عن الحوارات، عن الصراع الدرامي. المسرحيون المغاربة، من نجيب طلال إلى آخرين، يكتبون عن فلسطين لا كقضية خارجية، بل كمرآة داخلية، كأنها سؤالٌ عن الذات، عن الكرامة، عن معنى أن تكون إنساناً في عالمٍ يخذل الحق.
أما في الشعر، ففلسطين هي القصيدة التي لا تنتهي. الشاعر المغربي محمد بلمو كتب قصيدة بعنوان "عارضة أشلاء أحمر شفاهها دمي"، لا ليصف فلسطين فقط، بل ليصرخ من خلالها، ليقول إن الوجع الفلسطيني هو وجعٌ مغربي أيضاً، وإن الدم الذي يُسال هناك، يُحسّ هنا.
حتى في السينما، وإن كانت الإنتاجات قليلة، فإن فلسطين تُذكر دائماً، تُستحضر في الحوارات، في الخلفيات، في الرموز. وفي مواقع التواصل، تتحول فلسطين إلى موجة وجدانية، حيث يتوقف كثير من المثقفين عن نشر أي شيء سوى صورها، أخبارها، وجعها، وكأنهم يقولون: "لا شيء يستحق أن يُقال الآن سوى فلسطين".
في المغرب، فلسطين ليست ضيفاً على الثقافة، بل هي من أهل البيت. تُكتب، تُرسم، تُغنّى، تُهتف، وتُحسّ. هي الحكاية التي لا تُنسى، والرمز الذي لا يُمحى، والمرآة التي يرى فيها المغربي أجمل ما فيه: الوفاء، النخوة، والكرامة.

فلسطين في الضمير السياسي المغربي
في الضمير السياسي المغربي، فلسطين ليست مجرد بند في جدول أعمال، بل هي ثابتٌ من ثوابت الدولة، ومبدأٌ لا يخضع للمساومة أو التبديل. منذ استقلال المغرب، ظل الموقف الرسمي والشعبي من القضية الفلسطينية متماسكاً، واضحاً، ومشحوناً بالإيمان بأن فلسطين ليست قضية خارجية، بل قضية وطنية، أخلاقية، وإنسانية.
السياسي المغربي، سواء كان في الحكم أو في المعارضة، حين يتحدث عن فلسطين، لا يتحدث بلغة الدبلوماسية الباردة، بل بلغة وجدانية، كأنها جزء من الهوية الوطنية. في خطب الملوك، في بيانات الأحزاب، في مداخلات البرلمان، تتكرر عبارة "القضية الفلسطينية هي قضية الأمة"، وكأنها قسمٌ يُتلى، لا مجرد تصريح.
جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، ثم جلالة الملك محمد السادس، حملا راية الدفاع عن القدس من خلال رئاسة لجنة القدس، وهي لجنة عربية إسلامية تأسست لتكون صوتاً للمدينة المقدسة في المحافل الدولية. لم تكن هذه الرئاسة رمزية، بل كانت فعلاً سياسياً مستمراً، يتجلى في الدعم المالي، في المواقف الدبلوماسية، وفي التصريحات التي تؤكد أن القدس خطٌ أحمر، وأن فلسطين لا تُنسى.
وفي المحافل الدولية، كان المغرب دائماً من الدول التي تصوت لصالح الحق الفلسطيني، سواء في الأمم المتحدة أو في منظمة التعاون الإسلامي أو في القمم العربية. حتى حين تتعقد المواقف، يبقى الخط المغربي واضحاً: دعم حل الدولتين، رفض الاستيطان، الدفاع عن القدس، ومساندة الشعب الفلسطيني في نضاله المشروع.
أما الأحزاب السياسية، من اليسار إلى الإسلاميين، فتكاد تتفق جميعاً على مركزية القضية الفلسطينية. في برامجها، في مهرجاناتها، في شعاراتها، تجد فلسطين حاضرة، لا كمجرد ورقة ضغط، بل كقضية وجدانية. حتى في الحملات الانتخابية، تُرفع صور القدس، وتُردد شعارات التضامن، وكأن فلسطين هي جزء من الحلم المغربي، من المشروع الوطني، من الضمير الجمعي.
وفي لحظات الأزمات، حين تُقصف غزة أو تُدنّس القدس، يتحول الشارع المغربي إلى ساحة سياسية، حيث تختفي الفروق بين الأحزاب، وتتوحد الأصوات في مسيرات مليونية، تُرفع فيها الأعلام، وتُحرق فيها صور الاحتلال، وتُقال فيها كلمات لا تُنسى: "فلسطين في القلب، والقدس لنا".
الضمير السياسي المغربي لا يرى فلسطين كعبء، بل كشرف. لا يراها كملفٍ خارجي، بل كمرآةٍ للكرامة الوطنية. ولهذا، فإن فلسطين في المغرب ليست فقط قضية تضامن، بل قضية وجود، قضية مبدأ، قضية لا تُنسى مهما تغيرت الظروف.









حين يصبح الحب موقفاً
في المغرب، لا يُحب الناس فلسطين لأنهم مأمورون بذلك، بل لأنهم لا يعرفون كيف لا يحبونها. لأن في اسمها شيءٌ من النخوة، من الجرح، من الحلم، من الذات. فلسطين ليست قضية تُناقش، بل وجدانٌ يُعاش، نبضٌ يُحسّ، ومرآةٌ يرى فيها المغربي أجمل ما فيه: الوفاء، الكرامة، والقدرة على الحب رغم البُعد، رغم الألم، رغم الخذلان.
هذا الحب لا يُقاس بعدد المسيرات، ولا بعدد الأعلام المرفوعة، بل يُقاس بصدق النظرة حين يُقال "أنتم فخر الأمة"، وبدمعةٍ تنزل حين يُقصف حيٌ في غزة، وبطفلٍ يرسم القدس دون أن يراها، لكنه يعرفها كما يعرف بيته. يُقاس بأمٍ مغربية تُعلّم ابنها أن فلسطين ليست بلداً بعيداً، بل شقيقاً يجب أن يُحمل في القلب، ويُدافع عنه بالكلمة، بالدعاء، بالموقف.
حين تقول لمغربي إنك فلسطيني، لا يراك كغريب، بل كأخٍ عائد من المعركة، كمن يحمل في عينيه قصةً يعرفها جيداً، حتى لو لم يعشها. يقول لك: "أنتم الرجال"، وكأنك تحمل وساماً من ذهب، لا يُمنح إلا لمن صمد، لمن قاوم، لمن أحب رغم الألم.
في المغرب، فلسطين ليست ضيفاً على التاريخ، بل شريكٌ في الحلم. ليست عبئاً على الضمير، بل نورٌ له. ولهذا، فإن حب المغاربة لفلسطين ليس عاطفةً عابرة، بل موقفٌ أخلاقي، وجداني، إنساني، لا يتغير مهما تغيرت السياسات، ولا يذبل مهما اشتدت العواصف.
فلسطين في المغرب هي القصيدة التي لا تنتهي، والراية التي لا تُطوى، والاسم الذي يُقال دائماً بخشوع، كأن فيه شيئاً من القداسة، وشيئاً من الذات. وحين يسألك مغربي: "من أين أنت؟"، وتقول له: "من فلسطين"، لا يراك فقط، بل يرى فيك كل ما يؤمن به، كل ما يحلم به، كل ما يحبّه.
وهكذا، يبقى الحب المغربي لفلسطين درساً في الوفاء، في الإنسانية، في أن القلب يعرف الطريق حتى حين تضيع الخرائط. ويبقى الفلسطيني في المغرب، لا غريباً، بل أخاً، لا ضيفاً، بل صاحب بيت، لا قضيةً، بل وجداناً حياً لا يموت.



#حسن_العاصي (هاشتاغ)       Hassan_Assi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدبلوماسية الفلسطينية من رياض المالكي إلى فارسين شاهين: الو ...
- قمة بلا ضمير: حين يُغسل الدم الفلسطيني بالتصفيق.. ويُكتب مصي ...
- نوبل للسلام: بين الضحية والسردية الغربية
- محرقة القرن: غزة جرح في ضمير العالم.. الدم الذي لا يُرى
- الناجون في غزة: حين تصبح النجاة شكلاً آخر للموت
- إعلان انطلاق مجلة تفكيك للدراسات الأنثروبولوجية والثقافية وق ...
- الاستعمار الاستيطاني والصراع غير المتكافئ: فلسطين نموذجاً
- أزمة الهويات الأوروبية
- بين الاعترافات العالمية والواقع المحلي: السلطة الفلسطينية في ...
- صدور كتاب خرائط اليرموك في قلبي: حين تتحول الذاكرة إلى خريطة ...
- بين الحياد والانحياز: قراءة في التصويت الأممي.. فلسطين في مر ...
- خرائط الحيرة الفلسطينية: أربع مفترقات وطنية.. قراءة في أزمة ...
- إسرائيل تضرب في قلب الخليج... والأنظمة تُراكم التنديد.. تحول ...
- مخيم اليرموك ذاكرة لا تُغادر… حين كانت الأزقة تحفظ أسماءنا
- السلطة الفلسطينية في مأزق الوظيفة: دعوة لحلها واستعادة المشر ...
- الخطاب الإعلامي العربي: كيف يُعاد تشكيل فلسطين في زمن التطبي ...
- سلام بلا أرض، وشرعية بلا سيادة: فشل الاعتدال الفلسطيني
- نقد من الداخل أم تطبيع من الخارج؟ قراءة في لقاءات المثقفين ا ...
- ما وراء الفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين
- الذاكرة العربية والقضية الفلسطينية: تفكيك المواقف وتحرير الس ...


المزيد.....




- كريستين بيل تشعل فتيل جدلٍ حاد بسبب تهنئتها لزوجها في عيد زو ...
- ترامب: إسرائيل ستخسر كل دعم أمريكا في هذه الحالة.. وسأزور غز ...
- ما هو مرض الدفتيريا الذي ظهر في الجزائر بعد اختفائه بعقود؟
- رياح شديدة تضرب نيوزيلندا للمرة 2 خلال أسبوع
- أندية قتال فاشية في مرمى الاستخبارات.. تقرير يرصد تمدّد حركة ...
- إيران محذّرة من الهجوم على منشآتها: تكرار التجربة لن يؤدي إل ...
- أول صلاة مشتركة تجمع ملكًا إنجليزيًا وبابا كاثوليكيًا منذ خم ...
- جدل بعد تصريحات فانس حول تصويت الكنيست لضم إسرائيل للضفة الغ ...
- الانتخابات الرئاسية بساحل العاج: أحياء العاصمة أبيدجان بين د ...
- رغم سريان وقف إطلاق النار.. إسرائيل تشن غارات على البقاع وال ...


المزيد.....

- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني / سعيد مضيه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - حسن العاصي - فلسطين في المغرب: لاجئة في القلب، مقيمة في الوعي والضمير