صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 00:13
المحور:
الادب والفن
كان المطر قد توقف بالخارج ، مخلفا بركاً صغيرة من ماء عكر وطين . سكنت الحركة ، انسحبت كلاب الشوارع وخفتت أصواتها . أضيئت مصابيح الشارع الرئيسى تحوم حولها حشود من هوام الليل . العائدون فى عتمة المساء يسيرون ببطء حذر ، يتجنبون الطين الزلق ، يستندون إلى حوائط البيوت ، فيما يهبط الليل غائما موحشا .
من النافذة المفتوحة ، بدت الحارة خالية ، معتمة . الشجرة الكثيفة الأغصان ينسكب عليها ضوء القمر ، بدت مأهولة ، وساكنة . أحكمت اغلاق النوافذ فسرى دفء خفيف . صمت مشوب بأزيز خفيف لا أعرف مصدره .
أجلس أمام المكتب القديم . من درج مفتوح تطالعنى صورة باهتة بالابيض والأسود . الصورة فى بيتنا القديم . هنا كانت حياة وونس عطوف وقلوب طيبة . عمرى كله مطبوع هنا ، على الحوائط والأبواب القديمة . آثارقد مىّ لاتزال مطبوعة على أرضيته . فى الزوايا والأركان يرقد الحنين ، وتطل الذكريات برأسها . بابتسامته الطيبة الوضيئة طالعنى وجه أبى . كان وجهه المتغضن يعكس ذلك الحزن الداخلى الذى ورثته عنه ، والذى يرتسم على ملامحى . على يمينه العم " نسيم " بطوله الفارع النحيل وجلبابه البلدى ذى الأكمام الواسعة وطاقيته البيضاء تخفى صلعته .
من نافذة المطبخ المطلة على الحارة يبرز وجهه النحيف الأليف . يحنى هامته الفارعة حتى يواجه النافذة التى اقتربت من الأرض قبل أن يطلق نداءه المعهود : وايافوزى . وعندما يتأكد من وجوده يدخل من الباب مرحا متفائلا : حِلْيت يافوزى .. جوزنا البنات والعيال كبروا ... كفاية كده .
نفترش الحصير المتهدل الأطراف الذى نحل نسيجه الناعم ، مجتمعين حول طبلية الغداء . يداهمنا صوت صراخ ملهوف . نُهرع كلنا لمصدر الصوت . كان العم " نسيم " ممددا على الكنبة وقد غادرنا إلى عالم أرحب . الذين كانوا معه فى لحظاته الأخيرة قالوا أنهم رأوه يشير بأصابعه نحو السقف ويخبرهم أنه يرى أطفالا صغارا بملابس بيضاء يمرحون ويضحكون وسط عناقيد العنب . كان وجهه يفيض بالرضا والطيبة وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة .
أتذكر ، بكيتَ كثيرا ياأبى فى وداعه . كنت تردد والدموع متحجرة فى عينيك : أربعون عاما لم نفترق ، كان الصاحب والرفيق فلماذا يتركنى الآن ويغادر ؟
من أعلى يسار الصورة يلوح العم " داود " بيده وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه وحبات من الأسى تظلل عينيه .
البيوت الضيقة الفقيرة تنبض جدرانها بالصهد . رجال محزونون هدهم التعب والشقاء ، ونساء هزيلات تدلت منهن أثداء ضامرة . وحده العم " داود " كان يمتلك حسا ساخرا يواجه به أعتى المشاكل . هذا رجل صادَق الموت منذ زمن بعيد . ما إن يولد له ولد حتى يقال : إبن عم داود مات . يذهب الرجال به إلى المدافن ، ويعودون ليجدوا امرأته وقد وضعت طعاما على الأرض وجلست تأكل فى فراغ بال . كنا نتعجب من أحوالها . كانت قد صادقت الموت هى الأخرى من كثرة الأبناء الذين أنجبتهم وشيعتهم إلى القبر .
حينها ، أجد مبررا لنفسى . اتسلل إلى الحارة . نتجمع أنا والصبية الصغار ، رفقائى ، نلعب لعبة النحلة الخشبية ذات القطان .
كانت الشمس تغمر الشوارع بالضياء ، ورجل عجوز جوال يعزف لحنا حزينا على ربابة قديمة ، حين انتهت الصلاة على جثمانه المسجى أمام الهيكل . مبخرة نحاسية تتصاعد منها أنفاس البخور تملأ المكان ، وصوت الكاهن يتردد فى المكان : اولئك يارب الذين أخذت نفوسهم ، نيحهم فى فردوس النعيم ، أنعم عليهم بمسرتك ياالله . فى صندوق خشبى أبيض ، خرج جثمان العم " داود " محمولا على أعناق الرجال .
الشمس وقد كساها الغبار ، والطريق إلى المقابر يبدو ممتدا بعيدا ، والحزن يكسو الوجوه ، حزن قديم لافح ، يمتد عبر الأزقة والحوارى التى تضج بحركة الحياة . يتسلل الصوت واهنا ، ثم مايلبث أن يعلو رويدا رويدا . صوت يبدو أنه آت من زمن بعيد ، صوت تراتيل تنبعث من عمق سحيق ، تستدعى الذين رحلوا من مئات السنين ، وتودع العم " داود " فى رحلته الأخيرة فى جنازة مهيبة لم تشهدها شوارع قريتنا من قبل .
وكأنه كان مقدرا لك أن تطمئن على رفاقك وأحبابك فى رحلة سفرهم الأخيرة ، حتى تلحق بهم فى طريق الأرض كلها . عز عليك فراقهم ، وكنت تعلم أنهم لن يعودوا فآثرت أنت أن تذهب إليهم .
حين رأيته يبكى – ذات مساء بعيد – وهو يطيل النظر إلى الجسد المسجى أمامه ، أكبرت الحزن والدموع ، وأكبرت أبى . وكنت أسمع أمى – فى النهارات البعيدة – تطلق ندبا حزينا لاأفهمه . وكنت أسألها : لماذا تبكين فى الليل وفى النهار ، فتتطلع
إلىّ صامتة ولا تجيب .
يستقر فى قلبى بكاء أمى ونهنهتها . ينفتح الباب على اتساعه أمام كل الاسئلة التى كنت أحاول تجنبها دائما ، ما الموت ؟ ولماذا يحدث ؟ ما الحياة ؟ وما قيمتها عقب فقد الأحباء ؟ ما الحزن ؟ ولماذا ينبغى أن نقاوم سطوته ونفوذه ؟ أسئلة حيرتنى كثيرا ولم اجد لها اجابة قط .
اضواء مبهرة تغمر المكان ، فتحيل ليل القرية إلى نهار صاخب ، وأنا أتطلع بشغف فى كل ماحولى قابضا على طرف جلبابك . دقاق الوشم بماكينته الصغيرة التى لا تكف عن الأزيز . أزيزها مازال يرن فى أذنى ، والوشم ظاهر فى رسغى ياأبى . فوق مسرح صغير أقيم على عجل ، تتمايل الراقصة الشابة بملابسها البراقة فى الضوء الساطع ، فيهتز نهداها البارزان ، وعجيزتها الهائلة . خلفها ، ممسكا بمكبر الصوت ، يزعق الرجل المفتول العضلات : ب 9 مليم التذكرة والمفلّس يرجع ورا . نتراجع للخلف قليلا ونكمل المسير . أتوقف طويلا أمام بائع الحمص والسمسمية والملبن ، استحلب ريقى وأمضى .
مر قطار العمر سريعا ياأبى . طفلك الصغير أصبح جدا أنهكته الأيام . يشكو من من وجع الظهر وآلام المفاصل ، يبحث عن بقعة ظل فى زمن ضنين . لكننى مازلت أقبض على أهداب الحلم العصى كما ربيتنى صغيرا ، وكلى أمل أن ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة بشرف . ما يخيفنى الآن هو الأيام ، ليست غرفة الفئران ، ولا الظلام ، ولا الخفاش الهائل الجناحين الذى يرتسم ظله على الحائط فى ضوء المصباح تحركه ريح الشتاء ، ولا مواء القط الأسود مقطوع الذيل فى جوف الليل . أجرى كثيرا ولا أصل أبدا ، كمن يصعد الدرج ، وكلما أوشك على الوصول للقمة ، أضيف له ضعف ما صعد من درجات ، رحلة لهاث غير منطقية وغير عادلة ولا أقوى على الخروج منها . أستيقظ كل صباح لأواجه المعاناة ، لاشئ سهل أو مجانى . أصبحت لا أملك الطاقة ولا القدرة التى تكفى لمواجهة كل التحديات والعبث الذى يحيط بى من كل جانب . أحمل كثيرا من الهشاشة وآلام الرحلة . تفلت من يدى كل التفاصيل ، أرخى يدى من الدنيا وما عليها ضعفا وتعبا .
فى صحراء قاحلة موحشة لا زرع فيها ولا ماء ، أعدو بكل ما فىّ من قوة خلف قطار يوشك أن يغادر محطته . بالكاد أصل لاهثا متقطع الأنفاس والقطار بدأ التحرك . أمسك بطرف الباب . تزل قدماى وأهوى . يدان حانيتان تتلقفان جسدى المنهك الذى يوشك أن يتهاوى . عينان تشعان حنانا ووجه يقطر عذوبة وطيبة . يغمرنى حضنه الدافئ العطوف ، يهدئ من روعى . أفتح عينىّ على اتساعهما محملقا فى الوجه الطيب . كان وجه أبى .
------------------------------
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟