صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 8041 - 2024 / 7 / 17 - 00:47
المحور:
الادب والفن
تمضى الحارة ضيقة ملتوية ، يحدها صفان من واجهات جهمة صموتة ، أبوابها غائرة الأعتاب . مداخل البيوت غارقة فى العتمة والسكة موحلة زلقة . درجتان حجريتان نحُل لحمهما وامتلأ بالثقوب الناغلة . تهبطهما بتؤدة وعلى مهل ، معصوبة الرأس بمنديل بهت سواده، تتراقص ضفيرتان رفيعتان فوق كتفيها . تستند علي مصراع الباب الخشبى العتيق ، بهت طلاؤه وعلته غبرة القِدم وأنفاس البناء العتيق . انغرز أسفله فى الطين والتراب . يواجهها المدخل المعتم بحوائطه الطافحة برائحة العطن . تساقط ملاطه فبان لحم الحيطان أحمر عاريا . يأتيها صوت ضجيج الحارة الضيقة وصخب العيال ، نتف من حوارات الجارات ، مواء مشتاق لقطة شبقة ، أنثى فى موسم السفاد ، يدفعها نداء الطبيعة الملح للبحث عن شريك اللحظة فى عتمة المساء الذى يهبط الآن .
تصعد الدرجات الحجرية القديمة ، ينهد ثدياها تحت قماش ثوبها الرقيق ، مستغرقة فى صمت ، تنفض بيديها عن عجيزتها خيوطا غير مرئية ، فيما كان الشيخ " عتمان " يعتلى مئذنة الجامع الكبير ، تهبط تسابيحه وأدعيته من السماء العالية ، تجول فى الحارات والأزقة المعتمة ، تداعب النوافذ المغلقة ، يهتز لها قلبها فى وجل واضطراب . رجع أصداء التراتيل حزين . تغلفها كآبة المساء المقبل .
ينفتح الباب عن دفء البيت وعتامته ورائحته . دخلت المطبخ ، أشعلت الموقد ، وضعت فوقه كنكة البن . صنعت قهوتها المضبوطة بالعناية الواجبة ، وبانصراف أفرغتها فى الفنجان . ترتشف القهوة على مهل وفى تلذذ واضح . فرغت قهوتها وما فارقها الملل والرتابة والضجر .أمام المرآة تقف ، فكت ضفائرها ، مشطت شعرها الأسود الطويل ، تركته ينسدل على ظهرها . تتأمل وجهها بتمعن . نز عرق بارد من جبهتها ، ساقيها ارتجفتا ، تكثفت مسحة من الحزن فى عينيها . بأنامل مرتعشة تلمس الخدين لمسا هينا ، تتأمل الخطوط الوليدة تحت العينين فى حسرة بادية . على افريز النافذة ترتاح القلة القناوية عليها غطاء من النحاس الأصفر ، وعلى جسمها بلولة ندية . أسبلت جفنيها على رغبة توحشت من الحرمان ، وسحت من العينين قطرتا دمع . تود أن تحلّق ، أن ينبت لها جناحان ، تطير على طرف قدميها . شفتاها جمرتان توهجت نارهما ، وأطلت منهما غواية . عبر النافذة كانت البيوت الصغيرة ، الواطئة ، الشائخة تقف جنبا إلى جنب فى الضياء الكابى . من خلفها يهبط قرص الشمس فى الأفق البعيد ، تختلط حمرته بزرقة السماء فتلون الجهة الغربية باللون القرمزى والأزرق الخفيف ، وهى تتأمل حلول صمت المغربية فى الحارات الملتوية والأزقة . تراقب أفواج العصافير تئوب إلى أعشاشها فى هدأة المساء ، والعصفورة التى تنتظرإلفها الغائب ، فإذا جاء طارت بعيدا وتظاهرت بأنها مذعورة . يملؤها فيض من العذوبة والحنان .
متعبة ، تلقف أنفاسها بصعوبة ، وكأنها تركض منذ أيام . لاتنام بعمق ، ولا يتوقف رأسها عن التفكير . على شفتيها شبح ابتسامة باهتة ، تحدّق فى قطرات الضوء الساجية ، تتسمّع وقع أنفاس الحياة المقبلة من الشقوق والجدران الباهتة .
تكر سنوات عمرى أمام ناظرى كشريط سينمائئ ، استجلى مشاهد الحياة التى مرت بى, لحظات السعادة الشحيحة . أبقى فى صمتى أتأمّل المغربية القادمة علّها تأتى بأنفاس الحياة ، وأنا أعد نفسى لمساءٍ حسن ، ونشوة رائعة تسرى فى جسدى ، وشوق عارم لفرحة ضنينة .
خلعت ملابسها ، فاكهة ناضجة ، جسد ندى . تتحسس جسدها الريان ، تستطلع انحناءاته وتضاريسه ، تتطلع فى المرآة ، قشعريرة تأخذ بعظامها ، وهى تحدق فى المرآة . يدور فى داخلها حوار : ألم أزل أنثى شهية يطلبها الرجال ؟ جسدها الرشيق مرسوم بعناية . هنا الامتلاء وبعده النحافة . تمشى متعاجبة تتثنى ، حركة الكتفين تساوق حركة الردفين ، والرأس ميزان . تتراقص على نغمة مرحة فى غلالات المساء . يطول جسدها ويشمخ ، ينثنى ويتأود ،وذراعاها تتوتران وتلينان مع دفق المشاعر . رقة أسيانة عميقة السواد فى عينيها ، والشوق فى ارتجاف باهت على الشفتين . طراوة المساء تريحها ، فيترقرق فى عينيها حنان دافق ويكتسى الوجه بسحب من الهم ، وخطان من دموع على خديها .
تتناوبنى المخاوف والظنون ، تحاصرنى وأنا أشخص ببصرى إلى الأفق البعيد على أرى ضوءا فى آخر النفق ، فلا أجد إلا الوساوس والهواجس . آه لوتعلم كم تشعر المرأة فى وحدتها بالبرد ، برد موجع وموحش ، لا يسكت وجعه البكاء ، ولا يداوى جرحه الصراخ ، وأنا أدفن رأسى فى الوسادة حيث لا كتف هناك لأبكى عليها ، والكون فراغ ، والريح تعوى من حولى . كان كل شيء زاخرا بالعطر ، حافل بالأغنيات ، محفوف برائحة الخبز الطازج . من زيف الروائح ، وعبث سرا فى الألوان . ماكان خمرا بالأمس ، أصبح اليوم خلا .
وقفت تستحم ، تغسل عن جسدها أعواما من الوجع القديم ، وصوت المغنى الأسمر عميقا يجيئها ، يربت على قلبها المتعب ، يهدهد أحزانها فى عتمة المساء . تخرج عارية لتتيح لجسدها أن يتنفس ، أن يحيا لحظاته البدائية والأولية ، أن يمارس حريته . يفاجأها عطر جسدها المعتق ، تداهمها سكرة الحواس ، والشمس تلملم بريقها المذاب بنظرة مذابة على البيوت الهاجعة .
من خصاص النافذة ، تتسرب بقع من الضوء الشفيف . يعاودنى احساس القلق الذى لازمنى منذ الصباح دون سبب واضح . كان يهاجمنى على فترات ، وفى كل مرة يكون أكثر ضراوة من السابقة .
استلقت على سريرها الجافى شاخصة ببصرها إلى السقف تتدثر برداءها الخفيف نهبا للمخاوف والظنون . تحاول أن تغتسل من الملالة والسأم ، من كر الأيام التى بلا طعم ولا لون ولا رائحة . من عتامة الروح ، وكآبة الحجرات المغلقة على الوحدة والصمت ، وعلى البعد ، الحقول ترقد شاحبة ، منطفئة تحت شمس ممتقعة واهنة .
قامت ، أخرجت من الخزانة قميص نومها الأحمر الشفاف ، شاهد أيام عزها ، ورفيق أفراحها وليالى سعادتها .
من عمق بير السلم تأتينى أنفاسه ، أعرفها جيدا ، أشم رائحته الأليفة ، صرير المفتاح فى الباب ، أتظاهر بالنوم . سعلاته الصغيرة الخجولة مثل كمان أنهكه العازف فى ألحان عصية تصل إلى مسامعى . تنسكب كلماته فى روحى مثل شراب مسكر . يلتصق جسده بى ، ويديه تبحثان عن كنوزى المستورة التى خبئتها له . أدخل يده فى طوق قميصها . انحسر القميص عن فخذيها ، ناعمتين مترعتين رواءً ونضارة . استفزت رجولته ، وأيقظ أنوثتها المعطلة من سنين . تتأوه مبهورة مهتاجة ، وهو يلهث لهاثا عاليا . يصحو الجسد المشتاق ، يفوح عطره ويسافر مع نسيم الليل . يوسدنى بذراعيه ويبقى ساهرا يرعانى . كانت الريح تكنس الأوراق المبعثرة فى الحارة الضيقة وتهز شواشى النخلة البعيدة . رجفة تشمل جسدى ، وتحدث فى روحى سرورا وانبساطا . فى الليل أعطيته نعومة جسدى وعطش روحى . يضرب الخوف قلبى التائق لريق الرجولة الغائبة من زمن بعيد ، غياب شديد الوطء على القلب المنهك بعذابات الأمس واليوم . فى سكون الحارة التى لا تهدأ وعفارها ووسخها كان شعرى ينسكب كمساء خجلان ، ونشوة تغمرنى حتى تبلغ جذور شعرى ، تتناوبنا شهقات دامعة ، وضحكات لها ذيول . كانت النشوة تملأ كيانى : لأن هذا الرجل موجود فى العالم ولأننى استطيع –الآن – أن أتشرب صوته وأتنفس حضوره . العينين السوداوين اللتين لا يسبر غورهما ، والشفتين الطازجتين ، والجبين الصافى البهى . كل الأشياء الآن كانت طوع بنانى . نركض فى شوارع وساحات لا تحصى وكأن جنونا يدفعنا .
أسراب من الوطاويط تتجمع فى الأفق ، تتكوم فوق بعضها بعضا ، راقصة تنشر أجنحتها السوداء فى الليل القاتم ، فيما تتطاول رءوسها المدببة البغيضة فى سماء الغرفة . تموجات دائرية لها صوت حاد يجرح الأذن . تزداد أعدادهم ويعلو طنينهم ، من أى جب عميق ينبعثون . ذعرت ، هبت من نومها على صوت طرقات عنيفة على الباب . قامت مسرعة مخطوفة الأنفاس ، ارتدت ملابسها على عجل ، فتحت الباب ، كانوا أربعة ، رءوسهم مدلاة لأسفل يحملون على أكتافهم صندوقا خشبيا قالوا أن بداخله جثمان زوجها الغائب ، العائد بعد غربة سنين طويلة فى العراق .
_________________
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟