أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفوت فوزى - يوم آخر















المزيد.....

يوم آخر


صفوت فوزى

الحوار المتمدن-العدد: 6445 - 2019 / 12 / 23 - 17:40
المحور: الادب والفن
    


لا أحد في القرية كلها يعرف له أصلًا أو فصلًا. مقطوعٌ من شجرة، لا يزور ولا يُزار. الكبار يحكون أنهم فوجئوا به ذات صباح بعيد يخرج من بيت "فهيم". وحين سألوا، قيل لهم إنه ساكنٌ جديدٌ يدعى "عفلوك". الاسم وحده كان كفيلًا بأن يُلقي في روعِنا، نحن عيال الحارة، بمزيجٍ غريبٍ من النفورِ والرهبة والتوجُّس. لام الكبارُ "فهيم" كثيرًا. كيف يؤجِّر غرفةً في بيته لرجل أعزب وغريب؟! تضاحكوا فيما بينهم حين تذكروا أن "فهيم" نفسه غريب عن القرية.
الغرفةُ بائسةٌ تقع في الطابق الأرضيّ. ضربت الرطوبةُ نصفَها الأسفلَ فبان لحمُ الحيطان عاريًا، وسرحت الشروخُ الرفيعةُ الدقيقةُ في حوائطها الخَشِنة. في مواجهة الباب ينتصب سريرٌ معدنيٌّ قديمٌ تعلوه مرتبةٌ مهترئةٌ. يجلس الرجلُ على حافة السرير مدليًا ساقين نحيلتين مشعرتين بفانلته الحمالات متَّسخٌ بياضُها، ولباسه الدمور مربوط حول خاصرتيه بحبلٍ مجدول. في ركنٍ منزوٍ من السرير يقبع كتابٌ مخطوطٌ بغلافٍ سميك تآكلت حوافُّه، مكتوب بخط اليد بالحبر الأسود والأحمر، يحوي رموزًا وطلاسم، حروفًا مفككةً وأرقامًا تبدو أن لا رابط بينها. يقولون إنه كتابٌ للسحر والأعمال. على الحائط ثمة ورق جرائد حال لونه للاصفرار ملصوق بعجين قديم. ثمة مسامير صدئة تخترق لحم الحائط يعلّق الرجل عليها ملابسه القليلة.
ينحدر الرجل نازلًا من على السرير. ينتصب واقفًا، طويلًا، نحيلًا، شاحب الوجه، مشدود جلد وجهه على عظامه البارزة فبدا كنحت تمثال قديم. بظهره انحناءةٌ خفيفةٌ حين يمشي تعطيك انطباعًا أن وجهه ورقبته الطويلة تسبقان خطواته. شارد دائمًا، لا يتكلم كثيرًا.
عبر ممرٍّ ترابيٍّ ضيق، يخرج الرجلُ إلى الشارع. في المواجهة يمر المصرفُ القبلي بمياهه الآسنة الراكدة، فاصلًا بيوت القرية الواطئة الفقيرة عن الحقول. وإذ يعبر الجسر الضيق المصنوع من فلق النخيل، ينفسح المدى عن حقول خضراء بامتداد البصر. يمضي الرجلُ متمهلًا عاقدًا يديه خلف ظهره كغراب يحجل على الجسر الترابيّ الفاصل بين الحقول. نسمات العصر الطرية، زقزقات العصافير العائدة بعد سعي النهار إلى أعشاشها تصاحبه حتى الضفة القريبة للنهر. هناك يقعد متربعًا تحت شجرة الصفصاف الحنون. يحملق في صفحة الماء الجاري صامتًا، ذاهلًا عما حوله. يهبط المساء عليه مظللًا الكون بجناحين من زرقة، والظلمة تجتاح مساحات البراح.
لا أحد يعرف متى يعود. يتسلل في عتمة المساء عبر الممر الضيق لغرفته مخنوقة الضوء. لا يزعجه نقيق الضفادع ولا نباح كلاب ساهرة تحرس البراح وتتسمّع وقع أقدام الآيبين. يدفع حبال السأم والعزلة، وصرير الأبواب الصدئة، مرتميًا على سرير وحدته من وحشة لا نهاية لها تضرب روحه.
لم يُعرف له عمل أو مهنة ثابتة. يقعى على ناصية الشارع الكبير، واضعًا أمامه قفة ملأى بثمار الليمون. وفي أحيان أخرى يدور في الحارات حاملًا على كتفه قفص من فاكهة الموسم. يعمل مناديًا في الأسواق والحارات. يزعق بصوت جهوري خشن على العيال التائهين أو في جنازات أثرياء المنطقة.
في موسم القصب، يشتري كميةً من القصب المعطوب، يقف بها على ناصية الحارة. ينتصف الليل وتهدأ الحركة وتخف الأرجل العابرة، فيبدأ في ممارسة هوايته التي صارت لصيقةً به وصار يعُرف بها. يأتي بالبطاطا المشوية، يتناول قلبها الطري المسكَّر، يسد به الفتحات الدقيقة التي خلفها السوس في جسد الأعواد الناشفة. وحين يكتشف زبائنه غشه وخداعه، يكون جاهزا بذخيرته التي لا تنفد -والتي يُظهِرها عند اللزوم- من الألفاظ البذيئة والفاحشة. يفعل ذلك كل يوم حتى انفضَّ الناس من حوله وبارت بضاعته الرديئة.
************
الليلة حالكة السواد. القمر في المحاق. سكون رازح لا يقطعه سوى همهمات غامضة باهتة تأتي من بعيد، وحفيف أوراق الذرة في الحقول القريبة تداعبها النسمات. قلبه الليلة مثقلٌ بكلام كثير، يرزح على صدره، يخنق أنفاسه ولا يقدر على البوح. بداخله حزن مقيم. يحس بوطأة الجدران الخانقة التي يرقد في قبضتها تضغط على لحمه العاري المكشوف.
قطةٌ سوداء رابضةٌ عند الباب. تخمش الجدار وتموء. أنثى في موسم السفاد.
في أماسي الصيف البعيدة، فوق حصير مفروش، يلوذ بحضن جدته. ثديان ضامران، العينان الضيقتان كَلَّ بصرُهما، ضفيرتا شعرها الأبيض معقوصتان تحت طرحتها السوداء الشفافة، يضفيان على وجهها مسحةً من مهابةٍ وجلال. تضمه في صدرها، وبيد معروقة تمسد شعره المجعد. يتمدد في حجرها، وقطعة من سماء زرقاء مرصعة بالنجوم تبدو لعينيه من فتحة سقف الدار المعرّش بالخشب القديم وجذوع الأشجار. حَمَامَاتُ الدار تهدل في البناني المعلقة قرب السقف والجدة تنكش بعود في يدها وتحكى حَكايَاها. تحكي عن الغول والغولة وأبو رجل مسلوخة والمرأة التي تخطف العيال وتخبئهم في مخلاتها المعلقة على الظهر. هذه العجوز ماكينة حكايات؛ إذا بدأت في الحكي فلن يوقفها شيءٌ. يُغمِض عينيه متظاهرًا بالنوم كي تكفَّ عن الحكي. لكن أحلامه تمتلئ بعفاريت لها قرون حمراء وأذيال رفيعة وأظافر طويلة تنهش بها جلده. قطط سوداء مقطوعة الذيل، كلاب مسعورة، وكائنات شائهة الوجوه لا تكف عن مطاردته. يعدو ويعدو، يسقط ويقوم، يلهث، حلقه ناشف كحطبة. يقع مغشيًّا عليه.
ماتت جدته وتركت له ميراثًا لا يفنى من العفاريت والكائنات شائهة الخلقة مازالت ترمح خلفه في صحوه ومنامه.
يعود المواءُ الشبقيُّ يضربُ جوفَ الليل الخالي. محاذرًا يفتح الباب. قفزة واحدة وكانت على سريره. فشلت كلُّ محاولات إخراجِها. أغلق الباب يائسًا وجلس على حافة السرير يلهث. يدٌ طريةٌ ناعمةٌ تلمس ظهرَه. مفزوعا ينتفض، يحاول الصراخ. فمها على فمه وعيناها الخضراوان البرَّاقتان تحملقان باتساعهما في عينيه المرعوبتين، ويدها تجوس في منابت العصب. بلّل ظهرَه عرقٌ باردٌ، يتندَّى جبينُه. تخور قواه. خدرٌ لذيذٌ يجتاح بدنَه. ينزلق خفيفًا أثيريًّا في مياه جارية. مياه كثيرة تحيط به -هو الذي لا يعرف العوم- وامرأة بضة جميلة تمسك بيده في تحنان، تقوده عبر ممراتٍ برَّاقةٍ مبهجةٍ. عرامة شوق للحياة لا ينطفئ تنهض في داخله، وهي تحيط كتفيه بذراعها في حنو. ثدياها ناهضان، ندية الوجه ضاحكة، يجوس في رقة شفتيها وبهجة ملاسة وجهها. تمور نفسُه وتضطرب. تنتصب في أعماقه ألف صرخة شوق وفرح. تعتمل داخله نداءاتٌ بدائيةٌ محرقةٌ طال كتمانُها وبهجةٌ مكبوتةٌ كاد أن ينساها. رغباتٌ لاعجةٌ تستبد به. في صدره جفاف لا ترويه أنهار العالم.
لهفة الالتقاء الذي لا يقاوَم بين جسدين مترعين بالرغبة. قبلة اعتصار عذبة وشهية لا نهاية لعذوبتها. عنفوان الامتزاج الحميم الذي يهدم كلَّ السدود والموانع المصنوعة ملبِّيًا نداء الحياة. التحقق الذي طال انتظاره. تندفع كل الأنهار إلى البحر، والبحر ليس بملآن.
ها هو الآن يعرف لأول مرة في حياته -بين ذراعيها البضَّتين الممتلئتين بالحنو- طعمَ أن يكون إنسانًا حيًّا. أن يشعر بذلك التحقق النادر الذي يجده في حضنها. يحتبس شذاها داخل أنسجته، يغيب في نشوة محلقة.
أطفال يشبهون الملائكة يلهون في دعةٍ مع أسماك ملوَّنةٍ بديعة. موسيقى رائعة تنبعث من مكانٍ خفيٍّ تملأ روحه، تهبه سكينةً وطمأنينةً. اختفت الحوائطُ الشائهةُ الكئيبةُ، والحاراتُ الضيقةُ القذرة. تتراخى قبضةُ الجدران الجهمة الخانقة التي تأكل من روحه، وينفسح المدى متسعًا يشعُّ زرقةً بهيةً.
الوسادة التي كانت حين يرفعها يتساقط قطنها المغبّر من الثقوب، هي الآن نظيفةٌ جديدةٌ تبرق. سريرُه مرتَّبٌ ونظيفٌ. مائدةٌ بديعةٌ تتوسط المكان، رُصَّت عليها أطايبُ المأكولات، أصنافٌ لا يعرف لها اسمًا. فاكهة في مواسمها وأخرى في غير مواسمها، ندية طازجة شهية. يأكل ما يشتهي ويفضل عنه الخبز. الجوع الذي عرفه كثيرًا يودعه غير مأسوف عليه. امتلأت حافظتُه بالنقود وفاضت. ينفق منها بسخاء وتظل منتفخةً عامرةً. لم يعد يحمل هَمَّ كيف يدبر مصاريف يومه. الفقر -ذلك الصديق الألصق من الأخ- آنَ له أن يرحل إلى غير رجعةٍ. يفتح ذراعيه مستقبِلًا عالمًا جديدًا مليئًا بكل ما تشتهيه نفسه.
طرقٌ خفيفٌ على الباب، يتجاهله، يزداد الطرق عنفًا. فتح الباب. لا أحد. لا شيء سوى الصمت المستكين الذي يستبد بالمكان. هواء الصبح ينسكب نديًّا والشمس الطفلة تحبو في حجر السماء، والنهار بدأ.
كان عليه أن يستعد لمواجهة يوم آخر.
_________________



#صفوت_فوزى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أم الغريب
- تخطى العتبة
- الآن أبصر
- قشر البطاطا
- الغريب
- عزف منفرد
- أول الفقد أول الوجع
- همس الحيطان
- فى حضرة الغياب
- امرأة
- عبور الممر الضيق
- رجع الصدى
- لو تصُدقى
- الصوت والصدى
- ليلة شتا
- الغنا
- يامه جوزينى
- الخروج
- الكلمة
- بعاد


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفوت فوزى - يوم آخر