صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 8331 - 2025 / 5 / 3 - 22:58
المحور:
الادب والفن
أعود من المدرسة . ننتظر قليلا حتى يعود أبى من عمله وباقى الاخوة من مدارسهم . نجتمع حول الطبلية . تتنازل هى عن قطعة اللحم ، بدعوى الشبع ، كى تتركها لنا . ننتهى من الغذاء ، فتخرج لى " كيس العسلية " أو " كيس البونبونى " المخبأ تحت الوسادة ، أو جزرة مسكّرة . وفى ليالى الشتاء الباردة ، يلتئم جمعنا تحت الأغطية الثقيلة . تغلق النوافذ وتوارب الباب قليلا . تشعل وابور الجاز . مع وشيشه المنتظم ، ورائحته النفاذة ، يتسرب الدفء ، وتبدأ الحكايات ، ولحظات السعادة التى تظل ذخرا فى الذاكرة لا ينضب أبدا . إحك لنا ياأم ، والزمان زمان شتاء حيث الليل طويل ، والمكان بيتنا الحجرتان وعفشة مياه وصالة ، والأحوال ، حال من ينتظرون عشاء تأخر كثيرا .
فى تلك الليلة ، حين قبّلتها فى جبينها ، وأنا اتطلع إلى الصور والآيات المعلقة على الحائط ، كانت عيناها مغمضتان ، لكنهما ينظران إلىّ بنظرة مليئة بالرضا والحنان . ظلت بعدها بأيام ، تدق على بابى بهدوء ، تتسلل بخفة إلى حيث أرقد ، تمنحنى قبلة دافئة ، وتغادر . ظلت كسور اليد ، والقدمين تداهمها ، من حين لآخر ، حتى أنها أصبحت مادة للتندر فيما بيننا . تعشق الصعب ، وتعتنق الدأب بلا تذمر . تحاول أن تخفى داخل جلبابها البيتى الواسع بطنها المنتفخ بداء الطحال . فى المطبخ الضيق ، نتحلق حولها أنا وإخوتى ، بينما هى تحمّر قطع الدجاج فى السمن ، حتى يحمر وتتحرق أطرافه وتتصاعد رائحته شهية محببة إلى أنوفنا ، فنأكلها ساخنة حارة فى عز برد الشتاء ، نتخاطف القطع الساخنة من بعضنا ونحن نتبادل الضحك . كانت تحب الطبخ ، وتصنع أصنافا من الأطعمة ، لا يباريها ، أى من كان ، فى صناعتها . تفوح منه رائحة نفسها فى الطبخ ، وكنت – فى طفولتى – أحمل الأطباق إلى الجيران ، فيشيعوننى بالدعوات ، لها ولى .
كانت الأيام تحمل لى متعا صغيرة . الذهاب إلى المدرسة مع بنات خالتى مشيا على الأقدام ، شراء ساندوتش الفول من عم " ماضى " فى دكانه الصغير القابع على ناصية الشارع ، الدوم ونبوت الغفير من الحاجة " فوزية " أمام باب المدرسة . ولم يخل الأمر من آلام صغيرة أيضا ، فالأستاذ " مصطفى " مدرس الحساب كان رعبا مقيما لنا جميعا . يضع القلم الرصاص المضلع مابين الأصابع ، ويضغط بشدة ، أو ينهال على ظهر الأكف الصغيرة المرتعشة ، بسن المسطرة . وفى العصارى ، أخفى " البلى " واحجار " الكبّة " فى العلبة الصفيح الصغيرة ، أضعها بحرص خلف زلعة الجبن القديم فى ركن الشرفة الضيقة التى تستدير كأفعى ، وتطل على الحارة الضيقة التى تضج بالعيال وصخبهم .
الذكريات السعيدة خفيفة ، لاتطيل المكوث فى بيوت الذاكرة ، عادة . لم تكن تلك السيدة النائمة طوال الوقت تشبه أمى . حتى حين كنت أضع رأسى على صدرها ، لألعب دور طفلتها ، فتربت على شعرى ، كنت لا أطيل مكوثى فى حضنها . كان شعورى بأن مكوثى على صدرها قد يؤلمها ، يفزعنى كثيرا ، فأنسحب بلطف ، متذرعة بأننى لم أعد طفلة ، أو أن لدىّ مايجب عمله . لم استطع أبدا أن أنزع يد الخوف ، وهى تقبض بغلظة وقسوة على قلبى . أطيل التأمل فى التفاصيل المتدثرة جيدا فى دفء أكمام جلبابها ، وأنا أمنى النفس : إن هو إلا نفَس بطئ يخرج واهنا قليلا ، بعض التقلصات أسفل الشفة السفلى . لكنها هادئة ، ابتسامتها ناضرة .
أجلستها على الكرسى ، نزعت سروالها ، وجذبت قميص نومها لأعلى , وقلت لها : على راحتك خالص ، ماتتكسفيش ياأمى ، أنا اللى حأنضف . لكنها سقطت منى على الأرض ، فاضطررت لأن استدعى احدى الجارات ، أتت مسرعة ، وعاونتنى فى حملها . تمتمت ببضع كلمات ، وقالت وهى تغادر : ربنا يشفيكى ياأم عادل . حتى وإن كنا صغارا ، حتى وإن كنا لانعرف معنى الموت ، ندرك على نحو خفى أنه يقبع هناك دائما ، مختبئا فى مكان ما ، يتلمس الفرصة ، ليخطف أرواح من نحبهم .
على السطوح ، فى دفء الشمس الصباحية ، بعد أن تحممنى بالليفة والصابون ، تسرّح شعرى ، وتعقده فى ضفيرة طويلة أو " ذيل حصان " ، ثم أراها وهى تمسك برأسها ، تشد عليه " تربيعتها " لتقاوم الصداع الذى يكاد يفتك بها ، كما كانت تقول
شئ كالاختناق ، كالاحتضار ، ينتابنى كلما نظرت إليها راقدة فى سريرها . قديستى المستباحة ، كيف صرتِ ؟ كيف صرنا ؟ تتقطر الدموع فى ركنىّ عينىّ . أرجف رجفات سريعة خاطفة وأنا أنظر إلى الباب الخشبى القديم ، مفتوحا فى عتمة المساء ، أشهق بعمق ، أملأ صدرى الذى أوشك أن ينضب ، أعب من من هواء الليل البارد . فى سماء الليل الرمادية ، واضطراب ريح أول المساء ، يأتينى هديل الحمام رتيبا ، ملحا ، يتردد فى السموات المفتوحة ، يخفت قليلا ويبتعد . تتراءى أجنحة الحدادى التى لم تأو بعد إلى أكنانها ، مبسوطة الريش ، مهددة ، ولها سطوة ، تحت سماء تسطع زرقتها ، بين أكوام السحب التى تتقلب وتنساب ، بسرعة وصمت ، على السطوح الواطئة الناتئة الأطراف . طعم التراب الكاسد ، والعجز أمام انطفاء الحياة التى تذبل وتركد هامدة فى الأغطية واللفائف ، ودعوات لهفى صاعدة من القلب ، ارحمها يارب ، ارحمنا ، كيرياليسون ، يارب ارحم ، يارب ارحم ، دستة شمع نذر علىّ ياست ياعذراء ، ياأم النور .
فى ليل طفولتى ، كنت استيقظ فزعة أصرخ من حلم ، فأرى وجهها ، هو نفسه ، وديعا ساجيا ، فى نور مصباح الجاز ، تمسح العرق عن جبهتى بيدها . فى أصابعها حنان ملهوف ، وشفتاها تتمرغان فى صفحة وجهى المرتجف ، نور يأتينى فى الظلمة ، باهرا كالنجدة ، فأنام ودفء صدرها يطرد الأشباح عنى .
كيف يمكن أن أتركها ؟ وهل يطاوعنى قلبى ، فى دمى هى ، مجدولة بنسيج لحمى وعظامى ، التراب الذى تمشى عليه عالق فى حنايا روحى وقلبى . وجهى لايعرف له راحة إلا على فخذيها ، وتحت ثدييها . هناك ، وهناك فقط ، تسقط عنى مخاوفى وعذاباتى واحباطاتى ، وأجد راحتى وأمنى " .
تتوقف عن الكلام وتغرق فى نوبات الصمت والتحديق الطويلة. تدير وجهها إلىّ، وقد سقطت الطرحة عن وجهها المجهد ، وندى من العرق الخفيف ، يتفصد قطرات دقيقة ، فى الضوء الشاحب ، يكشف عن منابت شعرها الأثيث على الجبهة المدورة السمراء ، وينهمر شعرها حرا ، أمواجا وفيرة سوداء ، على ملاءة السرير النظيفة . أحس قلبى يتقبض من حنان لايقاوم ، والأنفاس تنحبس فى حلقى ، وعيناى ، على الرغم منى ، تغرورقان .
لاشئ سوى الانتظار ، لم أنتظر طويلا . لم تمض أيام حتى بدأت فى الهذيان ، هذيان لا يتوقف ، لاتهدأ ، تهمس وتتحدث طوال الوقت ، تنادى أشخاص لاوجود لهم ، تصرخ ، فأهرع إليها ، آخذها فى حضنى محاولة تهدئتها وجسدها يرتعش ، تصمت وتهدأ ثم ماتلبث أن تعاود الرجفة والهذيان . بعدها بأسبوع ، غابت لشهرين أو ثلاثة ، صارت محض جسد ممدد أمامى ، وأنا أجلس أمامها ، اترقب يد الموت ، وهى تمتد لتلتقطه .
نمت بعمق حتى الصباح ، لم أكمل ساعتين متصلتين من النوم طيلة الشهور الماضية ، أنتفض مذعورة لأطمئن عليها ما إن أغفو . فى تلك الليلة غبت أنا أيضا ، وصحوت فى الصباح ، حاولت النهوض ، لكن سحابة سوداء كانت تتحرك فى الغرفة كلها ، سحابة كأنها دوامات متلاحقة . بدت الغرفة مزدحمة ، كأن كائنات غير مرئية تملأها ، لكننى نهضت فى النهاية ، بعد أن هدأ كل شئ . كان رأسها مائلا ، وفمها مزموما كعازف ناى ، عيناها مغمضتين ، ووجهها هادئا لا أثر فيه لتلك التقلصات التى انتابته مؤخرا ، هادئة تماما . نظرت إليها بهدوء ورجفة ، قبّلت جبينها ، وضعت رأسى على صدرها ، وعرفت أنها ماتت . انكفأت على الأرض واستغرقت فى بكاء مر كأنه لن يتوقف أبدا .
بعد هذا العمر ، أكثر من طلب المغفرة والرحمة لها ولكل الذين أحببتهم وصعدوا إلى ملكوت السموات ، هناك حيث لامرض ولاحزن ولافراق ، و فى ليالى الشتاء القارسة البرودة ، اتطلع إلى سريرها الفارغ ، والجرح لم يزل طريا ، وأظافر الحزن لاتكف عن النبش فيه . يأكلنى الحنين للقياها . أُخرج شالها الصوفى ، أتدثر به ، أتنسم رائحتها ، فيغمرنى الدفء .
_______________________
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟