|
قراءة في قصيدة -يا حاجّ- لناصر مؤنس: رحلة كشف صوفية من الحرف الى الروح
السعدية حدو
قارئة مهتمة بنقد نقد تحليل الخطاب
(Saadia Haddou)
الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 23:34
المحور:
الادب والفن
تقديم: لا يمكن قراءة قصيدة "يا حاجّ" لناصر مؤنس كنص شعري وصفي و لكن كخريطة طريق روحية ودليل عملي لـ "حج جمالي"- يعيد الشاعر هنا صياغة مفهوم "الحج" ليحرره من سياقه الشعائري المباشر ويطلقه في فضاء الإبداع الإنساني كمسار وجودي للخلاص- في هذا المسار يصبح الفنان هو السالك ومشغله الفني هو محرابه وعملية الخلق هي طقسه الأسمى-إنها رؤية تعتبر الفن بكل تفاصيله المادية والحسية و سبيلًا صالحًا وموازيًا للدين للوصول إلى حالة من الامتلاء الروحي والاتحاد بسر الوجود. تمثل المداخل الأولية للقصيدة مفاتيح أساسية توجه فهمنا وتكشف عن نوايا الشاعر العميقة- إن اللازمة المتكررة "يَا حَاجُّ، يَا حَاجُّ، يَا حَاجَّ..." ليست مجرد عنوان بل هي فعل استدعاء ذو إيقاع شعائري يشبه التلبية أو الذكر الصوفي هذا التكرار يضع القارئ مباشرة في فضاء روحي الأهم من ذلك أنه يوسع وجهة الحج من مكان جغرافي محدد إلى غاية مطلقة ولامتناهية "الْحُقُولِ النَّائِيَةِ" هذه الحقول هي رمز لمناطق الروح والإبداع والمعرفة الباطنية التي لا يصلها إلا من عقد العزم على السير في دروب غير مطروقة- إن معرفة هوية ناصر مؤنس كفنان تشكيلي وخبير في فن الخط (الكاليجرافي) ليست معلومة ثانوية-بل هي شفرة أساسية لفك رموز النص- القصيدة لا تتحدث عن الفن التشكيلي من الخارج بل تمارسه لغويًا- فالصور الحسية الدقيقة مثل "الْأَصَابِعُ الْمُسَوَّدَةُ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْقَصَبَةِ" و"النَّشْوَةُ الَّتِي مَشَتْ فِي الْخَطِّ وَاسْتَرَاحَتْ فِي أُفُقِ اللَّوْنِ" لا تأتي من شاعر فحسب- بل من عين فنان تشكيلي يرى الكلمة كشكل-ويرى الكتابة كفعل مادي ومرئي له أثره على الجسد والروح. بناءً على هذه العتبات يتأسس مسار القراءة الأولي: نحن بصدد قصيدة ترسم معالم "حج جمالي" حيث يصبح الإبداع الفني هو رحلة السلوك الروحي ويصبح الفنان هو الحاج الذي يسعى من خلال فنه إلى "الاغتسال في أبدية دائمة الحضور".
1-التحليل البنيوي والمضموني
تُعنى هذه المرحلة بتشريح جسد القصيدة، وفهم كيفية بناء الشاعر لمعناه عبر تنظيم المقاطع، وتوزيع الصور الشعرية، وتطوير الفكرة المركزية بشكل تصاعدي. إنها تكشف عن الهندسة الداخلية للنص التي تجعل منه رحلة متكاملة للقارئ. تعتمد القصيدة على بنية ثلاثية، حيث يشكل كل مقطع محطة رئيسية في رحلة الكشف. الرابط البنيوي الأساسي هو اللازمة الاستفتاحية: "يَا حَاجُّ، يَا حَاجُّ، يَا حَاجَّ إِلَى الْحُقُولِ النَّائِيَةِ..." هذا التكرار ليس مجرد حلية أسلوبية، بل له عدة وظائف: اولها تثبيت المحور- يؤكد التكرار على أن شخصية "الحاجّ" هي المحور الذي تدور حوله كل الأفكار والصور. إنه المخاطَب الدائم والمرجعية الثابتة. ثانيها خلق إيقاع طقوسي-يمنح التكرار النص إيقاعًا يشبه الترتيل أو الذكر في الحلقات الصوفية مما يهيئ القارئ للدخول في الحالة الروحية للقصيدة. ثالثها خلق بنية دائرية- يوحي بأن كل مقطع هو بمثابة "طواف" جديد حول الفكرة نفسها لكن من زاوية أعمق في كل مرة.
1-1 المقطع الأول: تأسيس العلاقة بين الجسد والإبداع يَا حَاجُّ، يَا حَاجُّ، يَا حَاجَّ إِلَى الْحُقُولِ النَّائِيَةِ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الَّذِي يُعَلِّقُ نُذُورَهُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَوْنِ، قُلْ لِهٰذَا الْعَشَّابِ: هٰذِهِ الْأَصَابِعُ الْمُسَوَّدَةُ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْقَصَبَةِ، هٰذِهِ الْأَظَافِرُ الْمُلَطَّخَةُ بِالْحِبْرِ وَالزَّعْفَرَانِ، هٰذِهِ الْأَوْرَاقُ الْمَصْنُوعَةُ مِنَ اللِّحَاءِ، هٰذِهِ النَّشْوَةُ الَّتِي مَشَتْ فِي الْخَطِّ وَاسْتَرَاحَتْ فِي أُفُقِ اللَّوْنِ، هٰذِهِ الشّعْلَةُ الَّتِي تُشْبِهُ رَقْصَ السَّمَاعِ، هٰذِهِ الْحُرُوفُ الْمُزَيَّنَةُ بِالزُّهُورِ وَفُرُوعِ الْأَشْجَارِ، هٰذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمُطَرَّزَةُ عَلَى أَلْوَاحِ الصَّلَاةِ، هٰذِهِ النُّقُوشُ عَلَى جُدْرَانِ الْأَضْرِحَةِ، هٰذِهِ الْأَكَالِيلُ الَّتِي تُحِيطُ بِرُؤُوسِ الْمَلَائِكَةِ، هٰذِهِ الْقُوَّةُ الَّتِي تَمْنَحُ النُّورَ، هٰذِهِ الْكُرُومُ الذَّهَبِيَّةُ الْمَرْسُومَةُ فِي الْمَعَابِدِ، هٰذِهِ الْبِذْرَةُ الْمَطْمُورَةُ فِي التُّرَابِ، هٰذِهِ الْحُقُولُ غَيْرُ الْمُتَنَاهِيَةِ، هِيَ بَدَائِلُ مُقْتَرَحَةٌ تُوْلَدُ فِينَا.
هذا المقطع هو **مرحلة التأسيس المادي** إذ يرسم الحركة الانتقالية من الجسد الى الحرف و ذلك بالتمعن في التفاصيل الحسية الملموسة لعملية الخلق الفني مؤكدًا على أنها تبدأ من الجسد والمادة. يبدأ الشاعر بوصف أثر الصنعة على جسد الفنان "الْأَصَابِعُ الْمُسَوَّدَةُ" "الْأَظَافِرُ الْمُلَطَّخَةُ". هذا الوصف يضفي قدسية على العمل اليدوي الشاق ويجعله علامة على التفاني كأنه أثر عبادة. ثم يعمد الى مزج المقدس بالدنيوي-إن الجمع بين "الْحِبْرِ وَالزَّعْفَرَانِ" هو مفتاح المقطع. الحبر يمثل الكتابة اليومية المعرفية والتاريخية أما الزعفران بلونه ورائحته وارتباطه بكتابة الآيات القرآنية والأحجبة في التراث فيمثل البعد المقدس والروحي-مزجهما يعني أن فعل الكتابة نفسه يصبح طقسًا يجمع بين العالمين. ثم الى الانتقال من الحرف إلى الروح- اذ ينتقل الوصف تدريجيًا من المادة الخام ("اللِّحَاءِ") إلى الأثر الروحي الذي تحدثه- "النَّشْوَةُ الَّتِي مَشَتْ فِي الْخَطِّ"، "الشّعْلَةُ الَّتِي تُشْبِهُ رَقْصَ السَّمَاعِ". هنا لم تعد الكتابة مجرد نقش بل أصبحت تجربة وجدانية وحركية تشبه الرقص الصوفي. ثم يختتم المقطع بأن كل هذه الممارسات الفنية والروحية ("الْأَكَالِيلُ"، "الْقُوَّةُ"، "الْكُرُومُ الذَّهَبِيَّةُ") هي "بَدَائِلُ مُقْتَرَحَةٌ تُوْلَدُ فِينَا". هذه العبارة هي أطروحة القصيدة الأولى: الفن ليس ترفًا بل هو سبيل بديل للحياة والخلق والولادة الروحية الداخلية.
2-1 المقطع الثاني: الانتقال من الصنعة إلى السر
يَا حَاجُّ، يَا حَاجُّ، يَا حَاجَّ إِلَى الْحُقُولِ النَّائِيَةِ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الَّذِي يُعَلِّقُ نُذُورَهُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَوْنِ، قُلْ لِهٰذَا الْعَشَّابِ، لِهٰذَا السِّرِّ الرَّفِيفِ، لِهٰذَا الرَّجَاءِ الثَّمِلِ الَّذِي يُثْقِلُ الْمُقَدَّسَ، لِهٰذَا الْقَلَمِ الْمُلْتَفِّ بِوَرْدِهِ وَأَوْرَاقِهِ، لِهٰذَا اللَّوْنِ الَّذِي يَصُبُّ سِحْرَهُ عَلَى رَقٍّ عَتِيقٍ، لِهٰذَا التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأَعْشَابِ، لِهٰذَا التَّنَاغُمِ الْأَعْظَمِ لِلْوُجُودِ، لِهٰذَا الطَّوَافِ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ تَعَبٌ، لِهٰذَا الْحُلْمِ الَّذِي يُؤَثِّثُ الْحُقُولَ بِسِعَةِ الْأُفُقِ، لِهٰذَا الْإِلٰهِ الصَّدِيقِ الْجَدِيرِ بِالثِّقَةِ، لِهٰذَا الْقَلْبِ الْخَاشِعِ فِي تَكِيَّةِ الدَّرَاوِيشِ، لِهٰذَا الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا تَنْكَشِفُ طَوَالِعُهُ إِلَّا لِخَاطِرٍ سَكْرَانَ. لِهٰذَا الشَّامَانِ، لِهٰذَا الْعَابِرِ، لِهٰذَا الْمُسَافِرِ: نَاصِرِ بْنِ مُؤْنِسٍ الْبَغْدَادِيِّ، الَّذِي يُرِيدُ الِاغْتِسَالَ فِي أَبَدِيَّةٍ دَائِمَةِ الْحُضُورِ.
يمثل هذا المقطع نقلة نوعية من الظاهر إلى الباطن فإذا كان المقطع الأول يصف "ماذا" يفعل المبدع فهذا المقطع يصف "من" هو هذا المبدع وما هي حالته الداخلية في عمق التجربة الروحية. يمكن تتبع عملبة الكشف هذه من خلال التعداد الكشفي. يستعين الشاعر بأسلوب التكرار "لِهٰذَا..." كأنه يقدم قائمة تعريفية تكشف عن هوية "العشّاب" أو السالك. كل عبارة تضيف بُعدًا جديدًا- "السِّرِّ الرَّفِيفِ" (الغموض) "الرَّجَاءِ الثَّمِلِ" (الأمل الوجداني) "الْقَلَمِ الْمُلْتَفِّ بِوَرْدِهِ" (جمال الأداة). يفضي الكشف الى التصريح بالمرجعية الصوفية اذ تزداد المصطلحات الصوفية كثافة ووضوحًا- "تَكِيَّةِ الدَّرَاوِيشِ" "الطَّوَافِ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ تَعَبٌ" "خَاطِرٍ سَكْرَانَ". النص يعلن صراحة عن انتمائه لهذا العالم حيث المعرفة الحقيقية لا تأتي عبر العقل الجاف بل عبر الكشف والذوق والحال "السكران". عندها نصل الى ذروة الكشف الذاتي التي هي المفصل الأهم في القصيدة كلها حيث يتم ذكر الاسم الصريح "لِهٰذَا الْمُسَافِرِ: نَاصِرِ بْنِ مُؤْنِسٍ الْبَغْدَادِيِّ". في هذه اللحظة الصوفية تتحد الذات الشاعرة مع كل الرموز السابقة (الحاجّ و العشّاب و الشامان و العابر). لم يعد الشاعر مجرد واصف بل أصبح هو نفسه موضوع القصيدة ومحورها. إنه يعلن أن هذه الرحلة الروحية هي رحلته الشخصية الهادفة إلى "الِاغْتِسَالَ فِي أَبَدِيَّةٍ دَائِمَةِ الْحُضُورِ" وهي الغاية القصوى للتصوف والفن معًا.
3-1 المقطع الثالث: الهوية الجماعية:
يَا حَاجُّ، يَا حَاجُّ، يَا حَاجَّ إِلَى الْحُقُولِ النَّائِيَةِ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الَّذِي يُعَلِّقُ نُذُورَهُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَوْنِ، قُلْ لِهٰذَا الْعَشَّابِ: هَؤُلَاءِ السُّكَارَى، الْعَالِقُونَ فِي فَخِّ الْعَالَمِ، يَقْرَؤُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ.
هذا المقطع القصير والمكثف هو مرحلة الإعلان والشهادة و كأنه الختم الأخير الذي يلخص هوية هؤلاء السالكين ويحدد موقعهم من العالم. يقدم المقطع مفارقة عميقة من خلال وصف "السُّكَارَى" بأنهم "الْعَالِقُونَ فِي فَخِّ الْعَالَمِ". من منظور مادي قد يبدو الفنانون والمتصوفة عالقين في أحلامهم بعيدين عن الواقع العملي و لكن من منظور القصيدة هذا "الفخ" هو بالضبط ما يسمح لهم بالتحليق الروحي. إنهم عالقون في الجسد والمادة لكنهم يحولون هذا "الفخ" إلى مسرح للتحرر الروحي ليختتم المقطع بتحية أهل الطريق. جملة "يَقْرَؤُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ" هي إشارة ختامية تحمل معنى التقدير والاعتراف المتبادل. إنها تخلق جماعة روحية تضم كل هؤلاء "السكارى" الذين يتعارفون فيما بينهم، ويرسلون بتحيتهم إلى مرشدهم أو رفيقهم "الحاجّ". و هكذا لا تنتهي القصيدة بفردانية الشاعر بل بالانفتاح على جماعة تشاركه نفس المسار الوجودي.
يكمن جوهر القصيدة في التوحيد المطلق بين الصنعة الفنية والسلوك الروحي. فالشاعر لا يفصل بينهما بل يجعل من فعل الكتابة نفسه طقسًا مقدسًا وعبادة. تبدأ الرحلة من التفاصيل الحسية المادية لجسد المبدع وأدواته ("الأصابع المسودة"، "الحبر والزعفران"، "القصبة")لكنها سرعان ما تسمو بهذه التفاصيل لتجعلها تجلياتٍ لحالة روحية عليا فتتحول الكتابة إلى "نشوة" والخط إلى "شعلة تشبه رقص السماع". تتصاعد بنية القصيدة بشكل منهجي و كأنها حركة رقص صوفي منتقلة من المادي الملموس في المقطع الأول حيث الفن هو "بدائل مقترحة تولد فينا" إلى السر الباطني والحال الصوفي في المقطع الثاني. هذا الكشف عن الهوية الباطنية للسالك يبلغ ذروته عندما يعلن الشاعر عن اسمه "ناصر بن مؤنس البغدادي" موحدًا ذاته بذات الحاج والعابر والمسافر ومؤكدًا أن هذه الرحلة الفنية هي مسعاه الشخصي نحو "الاغتسال في أبدية دائمة الحضور".أما الخاتمة فتفتح هذه التجربة الفردية على أفق جماعي فـ "السكارى العالقون في فخ العالم" ليسوا ضحايا بل هم جماعة العارفين الذين وجدوا حريتهم وتحررهم الروحي في قلب المادة ومن خلال الفن. تحيتهم للحاجّ هي إعلان عن رابطة روحية تجمع أهل الطريق الذين يقدمون الإبداع كسبيل للخلاص.
2-التأويل الرمزي والثقافي
تكتسب قصيدة "يا حاجّ" ثقلها المعرفي وجمالياتها العميقة في هذه المرحلة التأويلية التي تربط النص بشبكة من الرموز المستقاة من التراث الصوفي والفلسفي. التحليل هنا لا يكتفي بما يقوله النص مباشرة بل يغوص في الأبعاد الثقافية التي تمنح مفرداته وصوره عمقًا استثنائيًا.
1. رمزية "الحاجّ": من الشعيرة إلى السلوك الوجودي "الحاجّ" هو قاصد بيت الله الحرام في ظاهر معنى اللفظ لكن في سياق القصيدة يتحول هذا المفهوم إلى رمز مكثف للإنسان في رحلته الوجودية الكبرى وذلك في رحلة كشف داخلية. يستلهم النص المفهوم الصوفي للحج، حيث لا تكون الرحلة مجرد انتقال جسدي إلى مكان مقدس، بل هي في جوهرها "سفرٌ عن الأوصاف الذميمة" و"عبورٌ روحيٌّ إلى الله". الحاجّ هنا هو "السالك" في طريق المعرفة الذي يتجه نحو "حقول نائية" ليست جغرافية بل هي مناطق بكر في الروح والعقل والإبداع. إنه لا يسعى للوصول إلى مكان بل إلى حالة وجودية. شخصية "الحاجّ" تقترب من نموذج "الإنسان الكامل" في الفكر الصوفي. إنه ليس شخصًا عاديًا بل هو "السَّيِّدُ الَّذِي يُعَلِّقُ نُذُورَهُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَوْنِ" و هو فعل يتجاوز الطقوس الشعبية؛ إنه فعل وعي كوني حيث يربط الإنسان مصيره وإرادته بالوجود كله مدركًا أنه جزء لا يتجزأ من النسيج الكوني الأعظم.
2. "شجرة الكون": الوجود كتجلٍّ إلهي حي
"شجرة الكون" أحد أغنى الرموز في التراث الصوفي وتحديدًا في فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي يمثل مرجعية فكرية وروحية واضحة في النص. رؤية ابن عربي للكون تتجاوز التصور المادي له كفضاء مادي جامد انه يرى الكون "شجرة" حية جذورها ضاربة في عالم الغيب وفروعها ممتدة في عالم الشهادة و هي تجسيد حي للأسماء والصفات الإلهية. عندما يخاطب الشاعر "الحاجّ" الذي يعلق نذوره على هذه الشجرة فإنه يشير إلى وعي عميق بوحدة الوجود و التعامل مع أي جزء من الكون هو تعامل مع الكل وتكريم أي عنصر فيه هو تكريم للمصدر الأول الذي صدر عنه. و منه ياتي الإبداع كغصن في الشجرة فيصبح فعل الكتابة والرسم بكل تفاصيله الحسية ("الْأَصَابِعُ الْمُسَوَّدَةُ"، "الْحُرُوفُ الْمُزَيَّنَةُ") بمثابة غصن جديد ينمو في "شجرة الكون". الإبداع الفني هنا ليس محاكاة للطبيعة بل هو استمرار لعملية الخلق الإلهي على مستوى إنساني. و منه الفنان مثل الحاجّ يشارك في إزهار هذه الشجرة الكونية مضيفًا إليها أوراقًا وثمارًا جديدة من المعنى والجمال.
3. "العَشَّاب" و "السُكَارَى": رموز المعرفة البديلة
يبتعد النص عن مصادر المعرفة التقليدية العقلانية ليحتفي بأشكال أخرى من الإدراك، يمثلها "العشّاب" و"السكارى". العشّاب كصنو للشاعر: "قُلْ لِهٰذَا الْعَشَّابِ". لماذا العشّاب؟ لأنه يمثل المعرفة الحدسية والتجريبية المتصلة بأسرار الطبيعة. فهو لا يقرأ عن النباتات في الكتب فحسب بل يعيش معها ويلمسها ويستخلص منها جوهر الشفاء و هذا "التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأَعْشَابِ" هو جوهر الرؤية الشعرية في القصيدة. فالشاعر عشّاب يتعامل مع الكلمات ككائنات حية لها أسرارها وقواها الخفية ويستخلص منها ترياقًا لخراب العالم وشفاءً للروح. كلاهما يعمل على تحقيق "التَّنَاغُمِ الْأَعْظَمِ لِلْوُجُودِ". اما "السُكَارَى" فهم كأهل للحقيقة اذ يختتم النص بتحية من "السُّكَارَى، الْعَالِقُونَ فِي فَخِّ الْعَالَمِ". "السُكْر" هنا مصطلح صوفي صرف فهو لا يشير إلى غياب الوعي بل إلى حالة من الوجد والكشف تغمر السالك حين يتجلى له الحق. هؤلاء "السكارى" هم أهل الباطن فنانون ومتصوفة الذين قد يبدون "عالقين" في منظور العالم المادي ("فخ العالم") لكنهم في الحقيقة قد تحرروا من خلال تجربتهم الروحية والفنية. إن تحيتهم للحاجّ هي اعتراف متبادل بين أهل الطريق الواحد الذين اختاروا المعرفة الذوقية والكشف الوجداني سبيلاً للحقيقة.
بهذا تتضح معالم القصيدة كبيان شعري وفلسفي ذاك أنها تحتفي بالمعرفة التي تُكتسب عبر الجسد والحواس ("الأصابع المسودة") والحدس ("خاطر سكران") والاتصال الحي بالوجود ("شجرة الكون") مقدمةً الفن كمسار حج موازٍ ومعادلٍ للدين وكلاهما يهدف في النهاية إلى تحقيق الذات والوصول إلى حالة من الامتلاء الروحي والخلود الرمزي.
خاتمة:
قصيدة "يا حاجّ" للشاعر والفنان العراقي ناصر مؤنس هي بيان شعري مكثف ورؤية وجودية متكاملة تعيد فيها صياغة مفهوم "الحج" لينتقل من شعيرته الدينية المباشرة إلى رحلة كونية يخوضها الفنان و الصوفي وكل باحث عن المعنى في "الحقول النائية" للمعرفة والوجود. إنها نصٌّ يؤسس للفن كمسارٍ روحي موازٍ للدين قادرٍ على تحقيق الخلاص والاتصال بسر الكون. "يا حاجّ" ليست مجرد قصيدة بل هي خلاصة مشروع فني وفكري يرى في الفن قوة شافية وخلاقة ويضع المبدع في مصاف السالكين الروحيين. إنها طواف شعري حول "شجرة الكون" يؤكد أن الجمال والمعرفة المستخلصين من "التواطؤ بين الكلمات والأعشاب" هما القادران على منح الخلود للروح الإنسانية. المقالة لصاحبتها. مع الشكر.
#السعدية_حدو (هاشتاغ)
Saadia_Haddou#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إطار المتنزه: آلية التضمين والوصاية السردية في -انتظار السمر
...
-
عندما تخون العتبات المضمون: الإيحاء التناصي بين البراعة الفن
...
-
دور النقد في تفكيك الصور الذهنية للكتّاب: من التقديس إلى الو
...
-
بين التجريب والسطحية: تعدد الأصوات والتكلف اللغوي في الأدب ا
...
-
لاكان : تفكيك الخطاب النظري
-
- التفكيك كاستراتيجية نقدية: دريدا/ فوكو/ بارت
-
لاعب النرد: قصيدة نقدية
-
-فن الرواية- بوصفها مقاومة وجودية: قراءة في رؤية ميلان كوندي
...
-
شرعنة الرداءة
-
-سوناتا الغراب- بين السيرة الذهنية والوهم الروائي: سؤال التج
...
المزيد.....
-
سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض
-
سينما الجرأة.. أفلام غيّرت التاريخ قبل أن يكتبه السياسيون
-
الذائقة الفنية للجيل -زد-: الصداقة تتفوق على الرومانسية.. ور
...
-
الشاغور في دمشق.. استرخاء التاريخ وسحر الأزقّة
-
توبا بيوكوستن تتألق بالأسود من جورج حبيقة في إطلاق فيلم -الس
...
-
رنا رئيس في مهرجان -الجونة السينمائي- بعد تجاوز أزمتها الصحي
...
-
افتتاح معرض -قصائد عبر الحدود- في كتارا لتعزيز التفاهم الثقا
...
-
مشاركة 1255 دار نشر من 49 دولة في الصالون الدولي للكتاب بالج
...
-
بقي 3 أشهر على الإعلان عن القائمة النهائية.. من هم المرشحون
...
-
فيديو.. مريضة تعزف الموسيقى أثناء خضوعها لجراحة في الدماغ
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|