|
الصمت فعل مقاومة للثرثرة والابتذال
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 12:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي الصمت الحكيم قوة تحرر الإنسان من استعباد الانفعالات، تكمن قوة الصمت في أنه يهب الإنسان إرادة متماسكة تنمو بمرور الوقت، وتجعله قادرًا على الحضور العميق في ذاته، والامتناع عن تبديد طاقته في الانغماس في ضجيج الناس وأحاديثهم العابرة، التي لا تُفضي إلا إلى الضياع. الصمت الحكيم رحلة داخل الذات، يتوغل فيها الإنسان ليكتشف طبقاتها الباطنية، ويستنطق أعماقه التي لا تُرى في زحمة الكلام. بهذا الصمت يهدأ القلق الوجودي، ويتخلص من الخواء الروحي، ويتراجع شعوره باللامعنى. من يختار الصمت ينشغل بنفسه، ومن يفرط في الكلام ينشغل بغيره. من عرف نفسه كفّ أذاه عن الآخرين، لأن من يسكن ذاته لا يجد حاجة إلى إيذاء أحد. حين تزداد الثرثرة في مجتمع ما، تتصاعد معدلات العنف فيه، سواء أكان رمزيًا أو لفظيًا أو جسديًا، ويتراجع فيه العمل والإنتاج والإبداع والابتكار. المجتمعات التي تعرف فضيلة الصمت تنعم بالسلام الداخلي والأمن العائلي والمجتمعي، لأنها تمنح الكلام معنى حين يأتي بعد إنصات عميق. هكذا نجد الإنسان الياباني وأمثاله من الآسيويين، حيث يُعد الصمت قيمة متجذرة في ثقافتها وفضائها الميتافيزيقي. الإنسان في هذه البلدان يحضر من خلال العمل والإنجاز وليس الكلام، فتسود حياته روح الطمأنينة والسلام، ويتحول الصمت في حياته إلى حكمة عيش ونمط وجود. ما يتعلمه الإنسان من الصمت الحكيم أعمق وأبقى مما يتعلمه من الكلام، لأن الصمت ليس امتناعًا عن النطق، بل هو إصغاء لنداء باطني، ووعي بالذات، واستحضار للوجود في أصفى حالاته. الصمت مرآةٌ تنعكس فيها سكينة النفس، ويغدو وسيلةً لتزكية الروح وانكشاف البصيرة. لذلك لجأ إليه العرفاء والمتصوفة في أديان الشرق، خاصة في الهند والفضاء الآسيوي، بوصفه طريقًا لتسامي الذات وعبورًا من ضوضاء الخارج إلى صفاء الداخل، ومن تشتت العالم إلى توحّد الكينونة. في مدارسهم الروحية يتدرّب الإنسان على الصمت في رياضة يومية تُهذّب الحواس، وتفتح القلب على أنواره الباطنة. الإنسان كائن تحيط به الأسرار وتتكثف في أعماقه المعاني التي لا تُقال، من يختار الصمت يشي لمن حوله بأنه يحمل سرًا، فيصنع حوله هالةً من الوقار، ويجذب الناس إليه من غير سعي أو تكلّف. النفوس تميل بطبيعتها إلى من يُشعرها بالعمق والغموض أكثر من الذين يغرقونها في ضجيج الكلام. قوة الشخصية لا تقاس بما يُقال، بل بما يُكتم، لأن ما يُخفى أحيانًا أبلغ مما يُفصح عنه، ولأن الهيبة تنبع من حضور داخلي يفيض سكونًا لا ضوضاء، وعمقًا لا ادعاء. الصمت الحكيم في جوهره لغة الأرواح التي تتخاطب بغير ألفاظ، وتفهم الوجود بلا وسائط، وتتعلم أن ما يُنصت إليه القلب أصدق مما تنطقه الشفاه. الصمت الحكيم ليس مجرد امتناع عن الكلام، بل هو ممارسة وجودية تتيح للوعي أن يتحرر من ضجيج العالم الخارجي، ويستعيد قدرته على الإنصات إلى نبض الحياة في أدق تجلياتها. إنه ليس عزلة، بل انفتاح على ما وراء الظاهر، على ما لا يُقال وما لا يُلتقط بالحواس المألوفة، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والعالم، ويصبح الإنسان مرآةً تعكس حركة الكون دون تشويش. حين يصمت الإنسان بوعي، يبدأ في تذوق جماليات الوجود، ويتحسس نقاء الأشياء قبل أن تفسدها يد الإنسان، وينقذ نفسه من ضوضاء الثرثرة اليومية التي تهدر الزمن وتفرغ المعنى. في تقاليد التأمل الآسيوي، يُنظر إلى الصمت بوصفه بوابة إلى الإدراك الصافي، حيث يصبح الحضور أعمق من أي تعبير لفظي، ويغدو الزمن نسيجًا حيًّا من الإمكانات. في التدريب على الصمت، يتعلم الإنسان أن ينصت إلى أي نغم كما ينصت إلى ذاته، وأن يدرك أن الطبيعة ليست خارجَه، بل امتداد لوعيه، وأن كل صوت في الكون جزء من سيمفونيته الداخلية. عندما يسكن الجسد ويهدأ الفكر، يتكلم الوجود بلغةٍ لا تحتاج إلى ألفاظ. عندها يتذوق الإنسان الشعر في صمت القصيدة، والموسيقى في خفقة الهواء، واللوحة في ظلّ الغيم.كل إبداع أصيل يولد من رحم هذا الصمت، لأن الفكر لا يبدع إلا حين يخرج من أسر الضجيج. الصمت فعل مقاومة حيال الثرثرة والهذيان والابتذال، وموقف وجودي يرفض الانجرار إلى لغو لا يحمل قيمة، ويختار التأمل والإنصات بدلًا من الردود الانفعالية. في مختبرات العلم كما في مشاغل الفن، يولد الإبداع من لحظات صمتٍ مشبعة بالترقب، حيث تستفيق القدرات الذهنية والعاطفية بكامل طاقاتها الخلّاقة، لترى ما لا يُرى وتكتشف ما كان محجوبًا عن الإدراك. اللوحات الخالدة للفنانين، والقصائد العظيمة للشعراء، والاكتشافات والاختراعات العلمية الكبرى، كلها ثمرة صمتٍ عميق يعيد تشكيل صلة الإنسان والعالم. الصمت الحكيم ضرورة روحية، وشرط معرفي وجمالي، وممارسة تعيد للإنسان قدرته على أن يكون أكثر من مجرد صدى لضجيج الأصوات.كلما ازداد الإنسان قدرة على تهذيب انفعالاته، اقترب من إيقاظ الصمت في داخله، ذلك الصمت الذي لا ينبع من ضعف أو خنوع، بل من قوة داخلية تروض الغضب وتعيد تشكيله في قوالب لا تؤذي الذات ولا تجرح الآخرين. الانفعالات، كما أن إعلانها قد يكون خطيرًا، فإن كبتها دون تفريغ قد يكون أخطر، لما يورثه من عقد نفسية تترك جروحًا عميقة يصعب الشفاء منها. التحكم بالانفعالات ليس قمعًا، بل فنٌ في تصريف الطاقة النفسية بذكاء، عبر منافذ لا تترك آثارًا مدمرة. فكما أن إعلان الانفعال قد يكون خطيرًا، فإن كتمانه دون تفريغ قد يورث النفس عقدًا يصعب تفكيكها. من هنا، تصبح الكتابة وسيلة علاجية، يسكب فيها الإنسان حرائقه على الورق، بعيدًا عن لهيب المعركة، لينزف جروحه في مساحة آمنة لا تحرقه ولا تحرق من حوله. وقد يجد البعض في الرياضة متنفسًا لتصريف التوتر، أو في الأعمال البدنية متنفسًا لتفريغ الغضب، أو في القراءة عزاءً يعيد التوازن، أو في لقاء صديق حميم نافذةً للبوح والتخفف. إن ترويض الانفعال لا يعني نفيه، بل احتواؤه، وتوجيهه نحو مساحات تسمح له أن يُقال دون أن يُؤذي، أن يُعاش دون أن يُفسد، وأن يتحول من طاقة مهددة إلى طاقة خلاقة. الصمت الحكيم لا يُولد من فراغ، بل من ممارسة يومية لفهم الذات، وتدريب مستمر على تحويل الانفعال إلى إدراك، والغضب إلى بصيرة، والوجع إلى حكمة. في هذا الصمت، يكمن جوهر الإنسان حين يختار أن يكون سيدًا على نفسه، لا عبدًا لانفعالاته. ما يتعلّمه الإنسان من الصمت الحكيم في أغلب المواقف لا يتعلّمه من الكلام، لأن الصمت ليس مجرد امتناع عن النطق، بل هو ممارسة وجودية تعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم. الصمت سيادة على الذات لا عبودية لانفعالاتها، وهو انعكاس لحالة من الاتزان الداخلي، حيث تتراجع الحاجة إلى التبرير والتفسير، ويحل محلها حضورٌ عميقٌ يفيض بالمعنى دون أن ينطق به. يتخذ الصمت كثير من العرفاء في الأديان، خاصة في التقاليد الهندية والآسيوية، طريقًا لتسامي الذات والارتقاء إلى طور وجودي أكمل، حيث يُدرّب الإنسان نفسه على الإنصات لما هو أعمق من الصوت، وعلى استقبال الإشارات التي لا تُلتقط بالحواس المعتادة. ارتياض العرفاء في تلك الأديان يشدّد على الصمت وفق برنامج يومي صارم، لا بوصفه عزلة، بل بوصفه انفتاحًا على الداخل، وتحررًا من سطوة الخارج. الصمت الحكيم يوقظ في الإنسان إمكانية تذوق جماليات الطبيعة، ويجعله يتحسس نقاء الأشياء قبل أن ينهكها التلوث وعبث الإنسان وتخريبه، وينقذه من ضوضاء ثرثرات أكثر البشر، وانشغالهم اليومي بالكلام لأجل الكلام، وإهدارهم القيمة الثمينة للزمن. من ثمرات الصمت ضبط ميزان الزمن، والاقتصاد في إنفاقه بتدبير، وتنمية قدرات الإنسان على إدارة أعماله بواقعية، والتحكم بالأولويات، وتقديم ما هو أهم على المهم، والعناية بما تفرضه احتياجاته الضرورية، واكتشاف ما يمنح حياته المعنى الذي يعزز سلامه الداخلي، ويخفض إيقاع قلقه وشعوره بالاغتراب. في التجارب الروحية الآسيوية، يُعد الصمت مدرسة عليا لتربية الوعي وتحرير الفكر من هيمنة الضجيج.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تغلغل المنطق في النحو وعلوم اللغة
-
مغامرة تأسيس دار نشر للكتاب الورقي
-
اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة
-
تتعدد اللغات بتنوع سياقات استعمالها ومجالات تداولها
-
تحديات اللغة في العصر الرقمي
-
اغتراب اللغة عن الواقع اغتراب للإنسان عنها
-
كتاب دروب المعنى
-
تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة
-
عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
-
الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب
-
لغة الغيب لغة رمزية
-
لغة الغيب غير لغة العلم
-
رؤيا الغيب في لغة الدين
-
الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة
-
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالذاكرة
-
الهوية في حالة صيرورة وتشكّل
المزيد.....
-
الشرطة الإسرائيلية تشتبك مع يهود متدينين احتجوا على تجنيدهم
...
-
مادورو: البابا فرانسيس أخبرني بأن الأميركيين يريدون قتلي
-
مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى ويؤدون طقوسا تلمودية أمام قبة
...
-
الجهاد الاسلامي: الاحتلال ارتكب جريمة منظمة في غزة بعد وقف ا
...
-
الكنيسة الكلدانية بمواجهة « بابليون» .. صراع النفوذ بين الصل
...
-
شرطة لندن ترد على مزاعم محامٍ يهودي: توقيفه لم يكن بسبب نجمة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: فليستمر ترامب بالوهم!
-
كنائس الموصل التاريخية تُفتح من جديد بعد ترميمها من دمار تنظ
...
-
بسجن إسرائيلي.. إطلاق رصاص مطاطي على أسير فلسطيني طالب بمعال
...
-
كيف استغل الإخوان مظلة الحريات لـ-التسلل الناعم- في أوروبا؟
...
المزيد.....
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
المزيد.....
|