|
تغلغل المنطق في النحو وعلوم اللغة
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 22:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي بدأتُ دراسة النحو قبل نصف قرن تقريبًا، فشرعت أولًا بكتاب "الأجرومية"، وهو كتاب مختصر بسيط في النحو، ألّفه ابن آجروم الصنهاجي (672–723هـ)، وتعارفت معاهد التعليم الديني التقليدية على تدريسه لتلامذتها في المرحلة الأولى لدراسة النحو. بعد الدرس الأول رأيت أنه لا ضرورة لحضور هذه الحلقة الدراسية، إذ يمكنني قراءة الكتاب من دون حاجة إلى مدرس، أتذكر أنني أنهيت قراءته ومباحثته مع زميل في أقل من اسبوعين.كان الكتاب التالي: "قطر الندى وبلّ الصدى" لابن هشام الأنصاري (708–761هـ)، معه شعرت أن لغته لا تخلو من إحالات على المنطق الأرسطي الصوري ومصطلحاته، مثلًا في الدرس الأول من الكتاب وردت عبارة: "واستعمال الأجناس البعيدة معيب عند أهل النظر" في شرح ابن هشام على كتابه، ولو لم يشرح مدرسنا المعنى المنطقي للجنس، وتقسيمه إلى قريب وبعيد، لم يفهم الطلاب ذلك. وبعد الفراغ من الكتاب المشار إليه انتقلت إلى دراسة شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وواصلت الدراسة لكتب البلاغة التراثية. بعد سنوات عديدة أشار عليّ أحد الزملاء بضرورة حضور دروس العلامة اللغوي رؤوف جمال الدين (1926–2004) لكتاب: "شرح ابن الناظم على ألفية والده ابن مالك"، وابن الناظم هو بدر الدين ابن صاحب الألفية (640–686هـ).كان أستاذنا خبيرًا موسوعيًا في اللغة والنحو، إنسانًا عفويًا جميلًا، ينفر من العناوين والألقاب التفخيمية المتداولة، لذلك بهرتني وطلابه شخصيته الآسرة الجذابة. كان يدرّسنا تحت السماء، ونحن ثلاثة طلاب، يجلس على الأرض، ولحظة يشاهد حرجنا من الجلوس بلا فراش، يبادر فيفرش عباءته لنجلس عليها معه. في كل درس نرحل معه في سياحة نحوية مشبعة بالتعليلات والقياسات والمحاججات المنطقية للقواعد والمسائل النحوية، وكأننا ندرس المنطق الأرسطي الصوري لا النحو. كان أستاذنا بارعًا في التدريس وتوضيح المفاهيم بلغة ميسرة، وعلى الرغم من انشداد طلابه وأنا منهم لشخصيته، كان يقص علينا ذكرياته ويعيد سرد تاريخ عائلته وأجداده، ومكانتهم الدينية، وما تعرضوا له من اضطهاد، إثر موقفهم الاخباري في مواجهة الأصوليين. عفوية وبساطة أستاذنا رؤوف جمال الدين كانت تزودنا بطاقة أخلاقية لم نتذوقها في شخصيات أغلب الأساتذة، لذلك كنا نترقب درسه كل يوم بشغف.كنت أتساءل عن المادة التي ندرسها، أهي نحوٌ؟ وأنا أعرف أن النحو يقوم على بيان قواعد النطق بالعربية التي ولدت في سياق اتفاق اجتماعي للناطقين بها، أم منطقٌ أرسطي صوري؟ وأستاذنا يستغرق في القياسات والتعليل، وأنا أعلم أن قواعد اللغة من الأمور الاعتبارية لا الواقعية. أثار دهشتي واستغرابي توغل مصطلحات المنطق الأرسطي وبراهينه في تدوين النحو وتعليمه، حتى غدا النحو ميدانًا للقياس العقلي لا أفقًا للفهم اللغوي، فامتلأت دروسه بالبراهين المنطقية الخارجة عن سياقاتها، وانشغل طلابه بإثبات القواعد العقلية بدل أن يتذوقوا اللغة بوصفها كائنًا حيًا نابضًا بالمعنى. شرح العلامة محمد حسين الطباطبائي (1903–1981) معنى الحقائق الواقعية بوصفها ما لها وجود حقيقي في الخارج، سواء أدركها الإنسان أم لم يدركها، فهي موجودة استقلالًا عن الذهن، وعن كل اتفاق اجتماعي. أما الأمور الاعتبارية، فهي ما يضعه العقل أو المجتمع أو الشريعة أو اللغة لتنظيم العلاقات أو التعبير عن معانٍ لا وجود لها في الخارج بشكل مستقل، لأنها تنشأ بالاعتبار الذهني والاجتماعي. أبرز فرق بين الواقعي والاعتباري أن القواعد والقياسات المنطقية والفلسفية تجري في الحقائق الواقعية، ولا تجري في الأمور الاعتبارية، لأن الاعتباريات ليست كشفًا عن واقع موضوعي، بل هي إنشاء للعلاقات والأوضاع التي تحتاجها حياة الإنسان ومعاشه. لذلك يرى الطباطبائي أن كثيرًا من القضايا الأخلاقية والدينية والاجتماعية واللغوية تنتمي إلى دائرة الاعتبار لا الواقع، إذ هي نتاج للعقل الإنساني حين يسعى إلى تنظيم الحياة وضبط سلوك الأفراد والجماعات. من هنا دعا إلى التمييز بين ما هو ثابت في نظام الوجود، وما هو متغير بتغير حاجات الإنسان ومقتضيات أنماط حياته ومعاشه وتاريخه، مبينًا أن الخلط بينهما أوقع الفكر اللغوي والديني والفلسفي في التباسات عميقة، حين حاول إخضاع الاعتباريات لمناهج البرهان العقلي التي لا تجري إلا في مجال الحقائق الواقعية . أدركت منذ تلك الأيام عمق تغلغل المنطق الأرسطي الصوري في النحو وعلوم اللغة التراثية، كما تغلغل في علم الكلام وأصول الفقه والفقه وسائر علوم الدين، حتى غدا سلطة تتحكم في طرائق التفكير وأشكال الاستدلال ومناهج التعليم. بمرور الزمن كبّل المنطق الصوري حركة العقل وأخضعه لنظام مغلق من التعريفات والقياسات التي تحاصر السؤال وتمنع المغامرة العقلية باختراق ما لا يسمح التفكير فيه. المنطق الصوري، بوصفه نظامًا صارمًا، فرض على العقل حدودًا ضيّقت مجاله، فانحصر التفكير داخل ما يراه مسموحًا، لا ما يدعو إلى إعادة النظر فيه ومساءلته. تحول التفكير في آفاق هذا المنطق إلى تكرار لبديهياته، بدلًا من أن ينفتح على اكتشاف المعنى. وأغلق الذهن أبواب الشك والسؤال والنقد في النحو واللغة، وانحصر العقل في نطاق ما يتيحه له المنطق الصوري، لا في ما يستدعي إعادة نظر، وإثارة أسئلة عميقة حول مسلماته ويقينياته، ونقد تصلب قواعده وابتعادها عن طبيعة اللغة، بوصفها كائنًا حيًا متغيرًا. تحولت المعرفة إلى منظومة يقينيات نهائية تقاس بها الحقيقة، وفقد العقل اللغوي قدرته على ابتكار المفهوم، وخسر العقل الديني طاقته التأويلية على تجديد فهم الدين ونصوصه. هكذا انكمش الأفق الإنساني في كل من اللغة والدين، حين فرض على العقل أن يكرر ما ورثه بدل أن يسائل ما ورثه، وانطفأت شعلة التساؤل التي كانت أصل كل إبداع. جفّت منابع الأسئلة، وتعطل الخيال، وغابت الجرأة على مساءلة المسلّمات، لأن المنهج ذاته تأسس على نفي الاحتمال وتضييق أفق خيارات المفاهيم وتأويلها. في سياق هذا التحول انكمشت الحيوية الفكرية في علوم الدين واللغة، إذ استبدلت الحركة الحرة للعقل بجمود القياس، وحل التلقين محل الاكتشاف، والحفظ محل الفهم، والتكرار محل الإبداع. المنطق الأرسطي لا يعطل السؤال فحسب، بل يعيد تشكيل العقل بوصفه أداة طاعة لا أفق حرية، ويحول الدين من تجربة وجودية إلى منظومة مغلقة، ويجعل اللغة تكرر نفسها داخل قوالب جامدة، فتغيب الحياة من النص ومن المتكلم معًا. في هذا النسق تكرست لغة جامدة تهاب المجاز، وتخشى التأويل، وتتعامل مع النصوص بوصفها مغلقة على معناها الوحيد لا بوصفها فضاءً حيًا يتجدد فيه المعنى بتجدد التجربة. هكذا أضحى المنطق الصوري قيدًا على حرية التفكير، وجدارًا يحاصر العقل ويخنق السؤال، فانطفأ التفكير التساؤلي النقدي الذي يمثل شرط كل نهضة للعقل، وكل إحياء للغة، وكل تجديد في فهم الدين ونصوصه. إن هذا التغلغل العميق للمنطق الصوري لم يكن مجرد أثر عابر في طرائق التفكير، بل تحولًا جذريًا في بنية الوعي، إذ انتقل العقل من فضاء التساؤل الحي إلى فضاء البرهان الشكلي، ومن البحث عن المعنى إلى البحث عن صحة القياس. في سياق هذا التحول انحسر حضور الإنسان في المعرفة، وصار العقل الديني واللغوي ينظر إلى العالم بعين المنطق لا بعين الخبرة والمعاش والمعاناة والتجربة. أضحى النحو علمًا يجتر القوالب نفسها ويعيد إنتاج المفاهيم ذاتها، وأصبح علم الكلام يكرر الأسئلة القديمة بأدواتها، كأن الزمان لم يتحرك وكأن الوعي لا يتغير. وبعد تراكم القرون غدت سلطة المنطق الأرسطي معيارًا يقاس به التفكير ومصدرًا لتقويم الصواب والخطأ، حتى ضاعت المسافة بين الحقيقة والاصطلاح، وبين الواقع والاعتبار. وهكذا غاب المعنى الإنساني للدين واللغة، إذ صارت اللغة تُدرّس كآلية جامدة لفهم النص، لا كجسر للقاء الإنسان بالعالم، وصار الدين يُفهم كمنظومة أقيسة تنتج مقولات وأحكامًا، لا كخبرة وجودية ووجودية. من هنا برزت الحاجة إلى إعادة اكتشاف العقل بوصفه طاقة حيّة لا آلة قياس، وإلى استعادة اللغة ككائن حيّ يعكس نبض قلب الإنسان وعواطفه وقلقه الوجودي وأسئلته، وإلى تجديد علم الكلام ليغدو علمًا للحياة لا علمًا للجدل، علمًا يحرر المعنى من أسر المنطق الأرسطي، ويعيد للدين إشراقات الروح ورحابة الأخلاق وتجليات الجمال الإلهي. في قوالب المنطق صارت الحياة الدينية ممارسات صورية غلّفت التفكير بأسوار من القواعد والقياسات الجامدة، وأقامت حول أشواق الروح جدرانًا تحجب عنها أفق التجربة والمعنى. تحولت اللغة، التي كانت كائنًا حيًا نابضًا بالمجاز والرمز والدلالة، إلى نسق من التعريفات الميكانيكية، تقاس معانيها بحدود المنطق لا بمدى حضورها في الوعي والعواطف. حين ترسخ هذا المنهج غاب السؤال الحي، وتوارى التأمل في ما وراء الألفاظ، إذ صار الكلام مرهونًا ببرهان صوري يطالب بالدقة الشكلية، ويعجز عن إدراك العمق. هكذا سجنت اللغة في أسوار المنطق وفقدت قدرتها على التحديث، بعدما انحبست في قوالب القياس وأشكاله، فانكمش فيها الخيال، وانسدت الآفاق التي تتجدد فيها صلة الإنسان بالمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية. إن استعادة حيوية اللغة لا تتحقق إلا بتحريرها من أسر المنطق وعودتها إلى أصلها الإنساني، بوصفها أفقًا للمعنى، ومجالًا للتجربة، ومسكنًا للوجود. صار المنطق الصوري هو الأفق النهائي المغلق للغة، فلا تتحرك إلا في فضائه، ولا تستنطق مفاهيمها إلا بأدواته، وكأنها فقدت قدرتها على التفكير خارج حدوده. مع سطوة هيمنته الشديدة، انغلقت آفاق الذهن الديني واللغوي في قوالب صورية جامدة، تقيس الحقيقة بموازين التجريد لا بوقائع الحياة، وتتعامل مع المعنى بوصفه نتيجة نهائية لا سيرورة مفتوحة. هكذا تحول المنطق من وسيلة للفهم إلى أداة لتقييد العقل وغلق آفاق التساؤل والتفكير النقدي، ومن طريق للبحث إلى سور يحاصر الأسئلة ويصادر إمكانات الفهم. بمرور الزمن، تحولت النصوص الدينية واللغوية إلى حقول للبرهنة الشكلية، وفقدت علاقتها الحيّة بالوجود الإنساني ومعناه، فغابت التجربة واستبدلت بالتقعيد المغلق، وغابت الروح واستبدلت بالقياس، وأقصي الإنسان عن مركز المعرفة، إذ صار يطلب منه أن يفكر في إطار أشكال قياسات أرسطو المغلقة، لا كما تملي عليه تجربته الوجودية في العالم. في سياق امتداد هذا الإرث وتكرار تلقينه عبر قرون، تكرست ثقافة التلقي والتلقين بدل ثقافة التساؤل، واستحال العقل الديني واللغوي إلى مرآة تعكس الماضي لا ضوءًا يكتشف الحاضر. انطفأت فاعلية اللغة التي كانت ميدانًا لتفتح المعنى وصيرورته، حين تحولت إلى جهاز صوري خاضع لسلطة القاعدة التي قررها المنطق. إن تجاوز هذا الإرث لا يتحقق إلا باستعادة اللغة والعقل إلى مجالهما الإنساني، حيث يصبح التفكير فعلا حرًّا يبتكر المعنى من التجربة، ويعيد وصل الدين بالحياة، والمعرفة بالإنسان، والعقل بالعالم، واللغة بالواقع، فتتحول بواسطته اللغة من سور يحاصر الوعي إلى أفق يفتحها على المعنى، ويتيح لها أن تكون بيتًا للوجود . إن انحباس اللغة في أسوار المنطق الصوري لا يمثل مجرد خيار معرفي بل يعكس نمطًا من السيطرة الرمزية التي تعيد إنتاج السلطة عبر تطبيع التطابق وإقصاء التعدد، ويصبح اللفظ قالبًا صوريًا لا حدثًا وجوديًا، وهذا ما يعطل قدرة اللغة على ابتكار المفاهيم، ويعيد إنتاج سلطة النحو بوصفها سلطة معيارية لا بوصفها إمكانًا للتعدد، وهو ما يتكرر في علم الكلام حين يخضع التفكير الديني لقواعد البرهان الأرسطي، فيقاس الغيب بمقولات الجوهر والعرض، ويُحدّ الله بمفاهيم الضرورة، ويُستبدل الكشف بالتقعيد، والتأمل بالتصنيف، فتفقد العقيدة طاقتها الحية، كما تفقد اللغة قدرتها على الولادة، ويغيب المعنى حين يُختزل في الحرف، ويُقصى جدل الاختلاف والتعدد حين يُحاكم بمبدأ عدم التناقض. هكذا يتجلى أثر المنطق الأرسطي في تعطيل إمكانات التجاوز في كل من اللغة والدين، ويُعاد إنتاج السلطة بوصفها معيارًا للصدق لا بوصفها أفقًا للتجدد، مما يستدعي من النقد تفكيك هذا النمط من العقلنة الصورية التي تُقصي الحياة باسم النظام، وتخضع المعنى لمنطق السيطرة بدل أن تفتحه على أفق التحرر. حين تنغلق اللغة في أسوار المنطق الصوري تتحول من كائن حيّ ينتج المعنى إلى أداة تقيس الصواب بالحد والقياس، فتتجمد حركتها في قوالب التعريف والتصنيف، ويغدو النحو سلطة تقرر ما يجوز قوله وما يُستبعد، ويصير معيار الفصاحة عقلانية شكلية لا أفقًا للتعدد والاختلاف. بهذا الانغلاق تقصى المجازات وتحاصر التراكيب الجديدة، لأن المنطق الأرسطي يجعل الهوية وعدم التناقض مبدأين يحكمان الفكر واللغة معًا، فيمحو الغموض الخلّاق الذي يولد منه الإبداع، ويستبدل بالمعنى تجربةَ تطابقٍ جامدة بين اللفظ والفكرة. هذا ما فعله المنطق ذاته حين دخل علم الكلام فحول الوحي إلى خطاب برهاني يُقاس بحدود العقل الصوري، وأخضع التأويل لمنطق القياس والتماثل، فتصلبت العقائد في صيغ مغلقة، وغاب الرمز والذوق والتجلي، وفقد الدين طاقته الروحية كما فقدت اللغة قدرتها على الولادة. في كليهما يصبح العقل خادمًا للبنية لا منجمًا للمعنى، ويتحوّل التفكير إلى نسق يكرر ذاته، ويُعاد إنتاج السلطة المعرفية بوصفها ضمانًا للصدق، لا بوصفها أفقًا للتجدد. لذلك دعا مفكرو مدرسة فرانكفورت إلى تفكيك هذا الوعي الأداتي الذي جعل المنطق بديلاً عن الفكر، وطالبوا بعودة اللغة إلى أفقها الجمالي والجدلي حيث يولد المعنى من الاختلاف، لا من التطابق، وحيث تنبع الحقيقة من التجربة لا من القاعدة، لأن الكلمة التي تفكر خارج منطق الحياة تنفصل عن الإنسان، وحين تفقد اللغة إنسانيتها تفقد قدرتها على أن تكون أفقًا للتحرر. تجذر بمرور الزمن تسلط المنطق الأرسطي الصوري على التفكير الفلسفي والكلامي والأصولي والفقهي واللغوي في الحضارة الإسلامية، ومازال يتكرر حضوره في معاهد علوم الدين التقليدية، وكأننا لا نعلم بظهور المنطق الحديث في القرن التاسع عشر، الذي تجاوز المنطق الصوري إلى المنطق الجدلي لهيغل، والمنطق الرمزي والرياضي الذي أسسه فريغه، وطورّه لاحقًا راسل ووايتهد، وغيرهما. النحو وعلوم اللغة التراثية لبثا مقيمين في أسوار المنطق الأرسطي الصوري، فاستقرا ضمن بنية عقلية استدلالية أحادية، جعلت من هذا المنطق مرجعية حاكمة لمناهجها ومفاهيمها. هذا التأسيس لم يفتح المجال أمام تطور حيّ أو تفاعل مرن مع اللغة بوصفها ظاهرة بشرية متغيرة، بل قاد إلى مسارات دائرية مغلقة، أعادت إنتاج ذاتها ضمن نسق تقعيدي صارم، وحرمت هذه العلوم من اكتشاف آفاق رحبة تتجاوز تلك المسارات المسدودة. النحو، في هذا السياق، انشغل بإعادة صياغة قواعده وفق منطق الاستنباط، وتراجع عن التناغم مع الواقع اللغوي الحي، مما عطل قدرته على التجديد وأبعده عن روح البحث الحر. استعار النحوُ وعلوم اللغة علمَ أصول الفقه، لا بوصفه علمًا جدليًا قائمًا على تعدد الأدلة، بل بوصفه نموذجًا استنباطيًا مغلقًا، فتناغما مع بنيته وكرّرا طرائقه وأعادا إنتاجه في إطار لغوي. كذلك استعار النحوُ وعلوم اللغة أحكام الفقه، وتفاعلا مع علم الكلام لا من موقع النقد أو الحوار، بل من موقع التلقي والتقليد، فتبنيا مقولات وأحكام علوم الدين ونسجا مفاهيمهما على منوالها، مما عمق من طابعهما المغلق وأبعدهما عن إمكانات التجاوز. هذا التداخل بين النحو والمنطق الصوري وأصول الفقه والفقه وعلم الكلام لم ينتج تكاملًا معرفيًا، بل رسخ نمطًا من التفكير الدائري، حيث تتكرر القواعد وتعاد صياغتها دون مساءلة، وتستبعد الأسئلة التي تتطلب إعادة نظر أو تفكيك للأسس. في ضوء فلسفة العلم، غابت عن هذه العلوم قابلية التكذيب، وتحولت فرضياتها إلى يقينيات نهائية، مما عطل قدرتها على التطور وأخرجها من دائرة المعرفة الحية. لذلك تبرز الحاجة إلى مراجعة جذرية لا تكتفي بنقد التفاصيل، بل تُسائِل الأسس التي قامت عليها هذه العلوم، وتعيد فتحها على أسئلة جديدة تنبع من اللغة الحية ومن الإنسان المتكلم، لا من منطق التجريد. ترى فلسفة العلم الحديثة أن المعارف البشرية تتداخل في شبكة حيّة من الحقول المتفاعلة، حيث يتفاعل الفلسفي مع العلمي، والإنساني مع الطبيعي، ضمن جدل لا يخلو من التوتر والإثمار. التحولات التي تطرأ على الفلسفة والعلوم الإنسانية لا تبقى حبيسة مجالها، بل تمتد آثارها إلى العلوم الطبيعية. في المقابل، تؤدي التغيرات المنهجية والنظرية في العلوم الطبيعية إلى انعطافات في التفكير الفلسفي، وتدفعه نحو إعادة النظر في مفاهيمه ومناهجه. فلسفة العلم الحديثة، كما تجلّت في أعمال كارل بوبر، أبرزت أن التقدم المعرفي لا يسير وفق خط مستقيم أو تراكم يقيني، بل ينشأ من خلال النقد المستمر للفرضيات، واختبار صارم لقابليتها للتكذيب. المعرفة لا تنمو بوصفها يقينًا، بل تتشكل من فرضيات تخضع للنقض، ومفاهيم تواجه التجربة، وحدود تختبرها الوقائع. العلاقة بين الحقول المعرفية لا تنحصر في تأثير ميكانيكي، بل تتأسس على جدلية نقدية. الفلسفة تطرح الأسئلة التي تكشف عن الافتراضات الكامنة في مناهج العلم، بينما يعيد العلم التفكير في نماذجه حين يواجه تعقيدات الظواهر أو قصور التفسير. هذا الترابط لا يعني انصهارًا بين الحقول، بل يشير إلى قابلية كل حقل للتأثر والتأثير، حين ينفتح على أسئلة الآخر، ويخوض تجربة المساءلة. وحدة المعرفة لا تنشأ من التنميط أو التوحيد القسري، بل تنبثق من الحوار النقدي بين التخصصات، ومن الاعتراف بأن كل مشروع معرفي يظل مفتوحًا على احتمالات جديدة. فلسفة العلم، حين تتبنى الموقف النقدي، تتيح أفقًا لتكامل المعارف، لا بوصفها منظومة مغلقة، بل شبكة من الأسئلة والاحتمالات، تتجدد كلما خاضت اختبارًا جديدًا لحدودها.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مغامرة تأسيس دار نشر للكتاب الورقي
-
اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة
-
تتعدد اللغات بتنوع سياقات استعمالها ومجالات تداولها
-
تحديات اللغة في العصر الرقمي
-
اغتراب اللغة عن الواقع اغتراب للإنسان عنها
-
كتاب دروب المعنى
-
تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة
-
عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
-
الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب
-
لغة الغيب لغة رمزية
-
لغة الغيب غير لغة العلم
-
رؤيا الغيب في لغة الدين
-
الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة
-
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالذاكرة
-
الهوية في حالة صيرورة وتشكّل
-
تمركزُ الهوية الاعتقادية في الدرس الفلسفي كفٌّ عن التفلسف
المزيد.....
-
الكوتا المسيحية في دوامة صراع .. خلافات وإتهامات بالاختطاف ا
...
-
عراقيون يحمّلون الطائفية مسؤولية اغتيال المرشح البرلماني صفا
...
-
من 5 بيوت إلى 200 ألف مسلم.. حكاية الجالية الإسلامية في كالغ
...
-
لمسة أمل من الفاتيكان: 5 آلاف جرعة دواء في طريقها لأطفال غزة
...
-
الملكة رانيا تختار الأناقة الكلاسيكية في لقاء بابا الفاتيكان
...
-
كيف نجا الإسلام في البوسنة والهرسك؟
-
الملك عبدالله يلتقي بابا الفاتيكان ويدعوه إلى زيارة الأردن
-
محافظة القدس: 9820 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في 21 يوما
...
-
حملة الملاحقات الأمنية تمتد للادينيين والملحدين وأصحاب الآرا
...
-
بعد إلغاء حكم بالسجن خمس سنوات... قطر تفرج عن زعيم الطائفة ا
...
المزيد.....
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
المزيد.....
|